تاريخ الحج قبل الإسلام: بين القطيعة والاستمرارية 1\3
يعتبر الحج من المناسك المعظمة عند المسلمين، إذ تتجه مئات الآلاف سنويا من كل الأقطار صوب مكة قصد أداء مناسكه. قد يعتقد الكثيرون أنه جاء مع ظهور الإسلام، لكن الحقيقة …
يعتبر الحج من المناسك المعظمة عند المسلمين، إذ تتجه مئات الآلاف سنويا من كل الأقطار صوب مكة قصد أداء مناسكه. قد يعتقد الكثيرون أنه جاء مع ظهور الإسلام، لكن الحقيقة التاريخية، هي أن الحج كان سابقا للإسلام، ومن هنا نخصص هذا المقال للحفر في تاريخ الحج في الفترة ما قبل إسلامية، وكيف كانت تتم مناسكه وشعائره، وما الذي احتفظ به الإسلام، معتمدين في ذلك على أمهات المصادر الإسلامية من كتب التاريخ والتفسير والتراث التي تطرقت للموضوع، كـ”سيرة ابن هشام” و”تاريخ الأمم والملوك” و”تفسير الطبري” للإمام الطبري، “أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار” للأزرقي، وغيرها من أمهات الكتب الإسلامية، إضافة لبعض الدراسات الحديثة مثل التي قام بها المؤرخ والباحث جواد علي في موسوعته الضخمة “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” وكتاب “الكعبة عبر العصور” لعلي حسين الخربوطلي، و”الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية” للشيخ الازهري خليل عبد الكريم، وغيرها من الدراسات الحديثة.
في الجزء الأول من هذا الملف، سنتوقف عند شعيرة الحج في بعدها الكوني، من خلال حضور الحج في الديانات والثقافات المختلفة، وأيضا، حضوره عند عرب الفترة ما قبل إسلامية.
الحج: شعيرة مقدسة ذات بعد كوني
وردت لفظة “الحج” عند عدد من الشعوب، كالهنود والفرس والصابئة، كما عرفه اليهود والمسيحيون، ولازالت بعض الأديان والشعوب تمارسه إلى هذا الزمن، ولم يشذ عرب ما قبل الإسلام عن هذه القاعدة إذ عرفوا الحج. وبحسب ما نستشفه من الكتابات والنقوش، فإن الأرباب كانت لها بيوت تستقر فيها، عرفت بـ”بيوت الآلهة”، كان المتعبدون يشدون الرحال إليها، للتبرك وللتقرب إليها.
إقرأ أيضا: في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس
بحسب ما يذهب إليه معظم الباحثين، فلم يكن حج عرب ما قبل الإسلام إلى مكة وحدها، بل كان إلى محجات عديدة أخرى، بلغت بحسب بعض المصادر أكثر من 22 كعبة، وهو ما سنتناوله بتفصيل في مقال لاحق، بحيث يحج كل قوم إلى البيت الذي قدسوه، وكانوا يتقربون إليه ويضعون أصنامهم فيه، ويذبحون عند أصنامه ويطوفون حوله ويلبون تلبية الصنم الذي يطوفون حوله.
لم يكن حج عرب ما قبل الإسلام إلى مكة وحدها، بل كان إلى محجات عديدة أخرى، بلغت بحسب بعض المصادر أكثر من 22 كعبة
من أشهر البيوت المقدسة الأخرى التي عرفت بالحج عدا مكة، كان هناك بيت اللات في الطائف، وبيت العزى على مقربة من عرفات، وبيت مناة وبيت ذي الخلصة وبيت نجران، أما المواضع المقدسة عند العرب، فأشهرها غير البيت الحرام والتي كانت ضمن شعائر الحج، نجد عرفة ومنى والمزدلفة والصفا والمروة، ومواضع أخرى كان يقصدها الجاهليون لقدسيتها أو لوجود صنم بها، ثم حرمها الإسلام، فنسيت وأهملت حتى ذهبت معالمها مع ما ذهب من معالم الجاهليين.
مناسك مختلفة … والإسلام وحّدها
يتضح من خلال ما ورد في المصادر الإسلامية، بخصوص الحج، أن مناسكه لم تكن واحدة بالنسبة للحجاج، بل كانت تختلف باختلاف القبائل، إذ انفردت قريش بأمور من أمور الحج واعتبرتها من مناسك حجها، فيما تميزت قبائل أخرى بمناسك لم تعتبرها قريش موجبة لها، ولم تعمل بها. نفس الأمر ينطبق على المواضع المقدسة في الحج، إلى أن ظهر الإسلام فوحد مناسك الحج وثبتها وأوجب على كل مسلم اتباعها.
وعظم عرب ما قبل الإسلام الحج والحجاج، وقد بلغ من درجة تعظميهم له، أن الحاج كان يحظى بالأمن التام، إذ تورد المصادر أنهم كانوا إذا خرج أحدهم من بيته يريد الحج، تقلد قلادة من لحاء شجر الحرم، دلالة على ذهابه إلى الحج، فيأمن حتى يأتي أهله؛ فإذا أراد العودة عاد مقلدا بلحاء الشجر، فلا يعرض له أحد بسوء؛ وهو ما سيبقى إلى أن فتح المسلمون مكة حيث نزل الأمر بمنع دخول المشركين مكة وبوجوب قتلهم حيثما وجدوا، خصوصا في الآية 28 من سورة التوبة التي ورد فيها: “يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم”.
حج معظم ومقدس
عرف الشهر الذي يقع فيه الحج بـ”شهر ذي الحجة” وبـ”شهر الحج”، وهي التسمية التي لازالت حتى الآن في التقويم الهجري، وكانت أشهر الحج عندهم حرما، وهي شهر ذو الحجة، والشهر الذي قبله والذي بعده، كما كانوا يحرمون شهر رجب أيضا ويسمونه شهر الله الأصم، أي الذي لا تسمع فيه قعقعة السلاح، فكانوا في هذه الشهور الأربعة يلقون السلاح ولا يغزو بعضهم بعضا.
عظم عرب ما قبل الإسلام الحج والحجاج، وقد بلغ من درجة تعظميهم له، أن الحاج كان يحظى بالأمن التام، إذ تورد المصادر أنهم كانوا إذا خرج أحدهم من بيته يريد الحج، تقلد قلادة من لحاء شجر الحرم، دلالة على ذهابه إلى الحج، فيأمن حتى يأتي أهله لا يعرض له أحد بسوء، وهو ما سيبقى إلى أن فتح المسلمون مكة، حيث نزل الأمر بمنع دخول المشركين مكة
كان القتال يتوقف في الأشهر الحرم، ليشد العرب رحالهم من كل مكان إلى محاجهم، وخصوصا مكة، حيث ينزلون عند مشارفها ويقضون أياما في البيع والشراء، إذ كانت مكة آنذاك بمثابة سوق عالمية تعج بأنواع السلع المختلفة المجلوبة من دول العالم القديم، كما يخصص العرب بعض أوقاتهم للتعارف والسمر، ومن ثم يقصدون سوق عكاظ التي كانت ميدانا للمبارزة الشعرية والتفاخر بالأنساب، ومحكمة يفصل وجوه العرب فيها في الخصومات، فإذا انتهوا من سوق عكاظ اتجه منهم من أراد ليقضي حجه حسب المناسك التي يتبعها.
إقرأ أيضا: في عاشوراء، المسلمون في واد والمغاربة في واد آخر..
في الجزء الثاني من هذا الملف، سنتوقف عند أهم طرق ممارسة شعائر الحج قبل الإسلام، وأساسا ما يتعلق منها بطرق التلبية والطواف والنحر، وكيف تطورت مع ظهور الإسلام.