من مصر، منى نوال حلمي تكتب: عزيزي الرجل: “اقعد في البيت إذا لم توفق بين بيتك وشغلك”
لا أفهم كيف للزوجة أن تتحمل “المهانة والعنف” من زوجها، “عشان تربي العيال”؛ وأسرتها مسرورة أن ابنتهم “عاقلة”، “صابرة”، “حكيمة”، “مبتخربش بيتها”.
أي نوع من التربية تقدمها أم تعيسة، مهانة؟ كل أنواع الجرائم ترتكبها نساء ورجال عاشوا طفولة مضطربة. وأبشع اضطراب أنهم شاهدوا بأعينهم أكثر إنسانة يحبونها، “الأم” تُشتم وتُضرب من طرف الأب.
إذا التقى شخص بامرأة عاملة في أي مجال، فورا يقفز السؤال المزروع في وجدانه وعقله، قائلا بابتسامة صفراء تخفي تحتها الخبث والعنصرية وبقايا عصور العبودية: “عارفة توفقي بين بيتك وشغلك؟ وجوزك موافق على شغلك بره البيت؟”.
ترد غالبية النساء: “في الأول اشترط إني أقعد في البيت، بس أقنعته إنه مش هيحس بغيابي وتقصيري، واتفقنا لو معرفتش أوفق بين البيت والشغل، هاتفرغ له هو والبيت والولاد”.
حتى النساء المهتمات بحقوق النساء وحقوق الانسان، الزوج يأتي عندهم قبل العمل.
لماذا لا يوجه السؤال نفسه للرجل: “عارف توفق بين شغلك وبيتك؟ ومراتك موافقة على شغلك بره البيت؟”. هذا السؤال هو أساس استعباد النساء واستغلالهن عبر العصور.
أساس هذه العقلية عدة مفاهيم:
أولا: أن المرأة، مهما تعلمت وتبوأت مراكز مرموقة، ومهما كانت ذكية ومتفوقة وطموحة، فإن “الوظيفة الأساسية لها هي جوزها وبيتها وعيالها”. وهي وظيفة مختارة لها قبل ولادتها، ولا أحد يكلف نفسه أن يأخذ رأي صاحبة الوظيفة. الزواج “سُترة” للمرأة، وكأنها فضيحة وعار قبل الزواج أو بدونه.
ثانيا: طاعة المرأة لزوجها واجبة في كل الأمور، مقابل كونه ينفق عليها، وإلا، فهي “ناشز”، وتعتبر في حكم “المنبوذين”. وحتى إذا لم ينفق عليها وعلى الأطفال، لابد أن تطيعه لأنه القوَام عليها والأرجح عقلا وتمييزا وتدبرا. هي التي “على ذمته”، وليس هو الذي “على ذمتها”.
ثالثا: من حق الزوج أو أي ذكر في الأسرة والعائلة، ولو كان أصغر سنا، غبيا، جاهلا، منفلت الأخلاق، بلطجيا، له سوابق، مغتصبا، متحرشا، عنيفا، يصرخ ويضرب ويرهب، أن “يأمر” المرأة بأي شيء على مزاجه. من حقه ومن أجل حماية شرفه وسمعته ورجولته ودينه أن يشترط عليها ألا تكمل تعليمها، وألا تعمل، وأن تتحجب أو تتنقب، ألا تخرج إلا بإذنه ومباركته، حتي لو كانت ستلقي النظرة الأخيرة على أمها المريضة.
إن “الطاعة” المفروضة على النساء، تكاد تصل في أهميتها وتقديسها لتكون الركن السادس من أركان الاسلام. بل أهم، تماما مثلما حدث مع الحجاب.
رابعا: عقد الزواج هو عقد نكاح، مدفوع الأجر (المهر). وكلما كانت العروس مثيرة أكثر للنكاح، ارتفع السِعر.
خامسا: دوافع الزواج للنساء والرجال، دوافع مريضة. المرأة تتزوج، لتكون في حماية رجل يسترها من طمع الرجال وعيون المجتمع وينفق عليها. الرجل يتزوج ليجد امرأة تطبخ له، وينكحها متى أراد، تعويضا عن الكبت الطويل، ويصب عليها غضبه من الناس، ويحقق على جسدها بطولاته المزيفة من الرجولة والفحولة الجنسية.
ينتج عن هذه العقلية تناقضات أخلاقية فجة بالضرورة، أكثرها خزيا أن غشاء البكارة هو شرف ذكور القبيلة والزوج. والفتاة – مشروع الزواج – إذا فقدته، بسبب ذكر مكبوت أو يمشي بغريزته الُسفلية، فعلى ذكر آخر أن يغسل عاره ورجولته بدمها، ويسير مختالا بجثتها. حتى مجرد الشك في عذريتها دون أدلة، لا يحميها من الذبح والقتل.
أتابع يوميا البرامج على اليوتيوب التي تختص بالجرائم في مصر وبلدان أخرى من منطقتنا. معظمها بسبب “أجساد النساء” داخل الزواج وخارجه. هناك ضحايا يوميا في بلادنا، في القرى والمدن، ممن تُسفك دماؤهن بسبب غشاء البكارة، “أعز ما يملكن” وهذا تعبير لابد من بتره. هناك أسر كثيرة تشد الابنة إلى الأطباء أو الطب الشرعي، ليؤكد أو ينفي وجود الغشاء. منتهى الإهانة للفتاة. وهناك فتيات، خوفا من الفضيحة والمصير الدموي على أيدي العائلة، تفضلن الانتحار أو تذهبن إلى طبيب يبتزهن جنسيا وماديا لكي يجهضهن، ثم تقمن بترقيع غشاء البكارة الذي أصبح حلالا بعد فتوى دار الإفتاء مؤخرا.
أوضاع بائسة تعتقل الفتاة التي لا تملك جسمها ولا مصيرها، بسبب مفهوم متوحش همجي، يدل على الاختلال العقلي المزمن، والاختلال الأخلاقي أيضا.
شيء مضحك أن نرى رجلا مرموقا، شاربه يغطي وجهه، يتحدث خمس لغات، نظم زفافا أسطوريا وقضى شهر العسل في جزر الأثرياء، لكنه قتل عروسته في الصباحية لأنها “ليست بكرا”.
ما زلنا في مصر نتشبث بهذه العقلية، وكأن تغييرها سوف “يخرب البيوت العمرانة”، وستعم الفوضى الأخلاقية ويفسد المجتمع بأكمله. هل تحسنت أخلاق المجتمع بترقيع غشاء البكارة وقوامة الرجال وقعود النساء في البيوت وإلباسهن أزياء “دينية”، وبطاعتهن العمياء للرجال والأزواج؟
الحقيقة التي لا يفهمها الناس، أن العدالة في العلاقة بين النساء والرجال لم تخرب أبدا البيوت العمرانة، ولا تؤدي إلى الفوضى الأخلاقية، ولا تفسد المجتمعات. بل العكس تماما هو الصحيح.
لا يوجد أسوأ من العلاقات بين النساء والرجال، المؤسسة على استعباد وتملك طرف على حساب الطرف الآخر، وتقنينها وإعطائها الشرعية. العلاقات المبنية على البيع والشراء، طرف يدفع المال، وطرف يعطي نفسه وجسده وطاعته للطرف الذي اشترى. هذه العلاقات هي التي تخرب البيوت والناس نفسيا وجسديا، وتخرب الإنسانية وتخرب محاسن الأخلاق. علاقات ظاهريا تؤدي وظائفها، لكنها من داخلها “مخوخة”، مسوسة، كاذبة، مدمرة، توفر الدوافع المثلى لارتكاب الجرائم والخيانات والازدواجيات الأخلاقية والثقافية، ولا تنتج إلا أجيالا على الشاكلة نفسها. ما هو البيت؟ جدران وأثاث وأجهزة، أم البيت هم البشر الساكنون فيه؟ من الأفضل أن يخرب البيت، على أن يتخرب البشر الساكنون البيت.
التعاليم الدينية والإعلام والثقافة والدراما والأغاني والاعلانات، كلها ترسخ هذه العلاقات الخربة والمخربة.
الزواج مؤسسة دينية فشلت في تحرير وإسعاد كل أطرافها. في مصر، القوانين كلها مدنية، إلا قوانين الأحوال الشخصية. يفسر هذا المقاومة الشرسة من رجال الدين لتحويلها إلى قوانين مدنية عادلة بين الزوجين؛ فمنْ يتحكم في قوانين الزواج والطلاق، يتحكم في النساء، ومنْ يتحكم في النساء، يتحكم في المجتمع بأسره.
لا أفهم فتاة تكلف أهلها الانفاق على تعليمها، ثم تجد عملا وهي مؤمنة بأن “وظيفتها الأساسية هي التفرغ لإسعاد رجل بالنكاح، “حقه الشرعي”، والطبخ والتنظيف والمسح ورعاية الأطفال”؟ هذا إذا افترضنا أن النكاح يشعرها بالمتعة! قالت لي زوجة: “هذا الحق الشرعي يشعرني أنني “مرحاض” يقضي فيه زوجي حاجته”. في اللغة، كلمة مراحيض تشير إلى “مرا” امرأة، و”حيض” أي الدورة الشهرية.
لا أفهم كيف تقبل فتاة أو امرأة لديها كرامة، أن رجلا “يشترط” عليها أمورا ليتزوجها؟ من أين أتى بهذا الحق؟
من الأفضل لمثل هؤلاء الفتيات أن تقتصر حركتهن بين “مريلة المطبخ” و”قميص النوم”، ويوفرن المال والجهد على أهاليهم، ويكتفين بفك الخط، ويتركن المكان لمنْ لا تتخلى عن عملها.
لا أفهم كيف للزوجة أن تتحمل “المهانة والعنف” من زوجها، “عشان تربي العيال”؛ وأسرتها مسرورة أن ابنتهم “عاقلة”، “صابرة”، “حكيمة”، “مبتخربش بيتها”.
أي نوع من التربية تقدمها أم تعيسة، مهانة؟ كل أنواع الجرائم ترتكبها نساء ورجال عاشوا طفولة مضطربة. وأبشع اضطراب أنهم شاهدوا بأعينهم أكثر إنسانة يحبونها، “الأم” تُشتم وتُضرب من طرف الأب.
ألا يستحون وهم يخدعون المرأة قائلين إن بيتها (بيت زوجها) هو مملكتها؟ كيف تكون مملكتها بينما يمكن أن تُطرد منها إلى الشارع، بكلمة من الزوج، وهو جالس على المقهى أو في أحضان امرأة أخرى؟
وفي هذه الملكة المزيفة، يبرر القانون لزوجها أن يقتلها لو رآها مع عشيقها، بإعطائه حكما مخففا، مراعاة لأعصابه المنفلتة. المفروض أن القانون يجرم القتل ولا يصدر في حق مرتكبه أحكاما مخففة ما لم يكن دفاعا عن النفس.
هذا ليس مستغربا، لأن واضعي القوانين من “الذكور”.
يوضح التاريخ أن المؤسسات الدينية تقاوم كل جديد وتحرمه شرعا، خاصة إذا تعلق الأمر بتقليل مساحة السلطة المعطاة للرجال وإنصاف النساء.
بعض الأمثلة من تاريخ مؤسسة الأزهر:
1515 حرم الطباعة، 1572 حرم القهوة، 1877 حرم اتفاقية تجريم تجارة العبيد، 1884حرم مياه الصنابير، 1930 حرم التعليم الجامعي للمرأة، 1952 حرم على النساء المناصب البرلمانية والقضائية، 1996حرم قانون تجريم الختان؛ والقائمة تطول بين تحريم نقل الدم، ونقل الأعضاء والطلاق الموثق وغيرها.
قالت نقيبة الأطباء في مصر للمرأة الطبيبة: “بيتك ثم بيتك ثم مهنتك.. لو قعدتي في البيت، فيه مليون طبيب غيرك؛ أما أولادك ملهمش غير أم واحدة”.
أولا، المفروض أن نقيبة الأطباء تهتم بشئون النقابة، وإصلاح أحوال الأطباء، والطبيبات، وتوفير العلاج لكل الشعب المصري. وليس إعطاء فتاوى ترسخ عصور الحريم.
ثانيا، المرأة الطبيبة لو بقيت في البيت بدون ممارسة مهنتها، منْ سينفق عليها؟ بالتأكيد الزوج. وهذا يضيع الاستقلال الاقتصادي للمرأة، ومنْ لا يملك قوته لا يملك كرامته.
ثالثا، أنا أوافقها على أن المرأة الطبيبة لو بقيت في البيت، سيكون هناك مليون طبيب غيرها، أما أولادها، ملهمش غير أم واحدة. لكن هذا ينطبق أيضا على الرجل الطبيب، لو بقي في البيت، فيه مليون طبيب غيره، أما أولاده، فـ “ملهمش إلا أب واحد”. لماذا لا يبقى في البيت ويربي الأولاد؟ هذا يناسب عقليتنا المؤسسة على قوامة الرجل وتفوقه عليها في الدين والقدرات العقلية. كيف نعهد لمنْ ترادف الشيطان والدنس والخطيئة، أن تصنع الأجيال؟
رابعا، منْ قال إن التفرغ هو النموذج الأمثل للأمومة؟ هناك أم لا تجلس إلا ساعتين مع الأطفال، لكنها تبث فيهم قيم العدل والكرامة والحرية؛ فيشبون أسوياء وسعداء. المعيار لابد أن يكون بالكيف، لا بالكم.
خامسا، نحن نفهم التربية على أنها رقابة ووصاية وأوامر ونواهي وتخويف وعقاب. نحن نربي الطيور والحيوانات. لكن مع الأطفال، نرعاهم ونحبهم ونحررهم من القيود التي ورثناها، وهذه أشياء لا تفهمها إلا قلة نادرة من الأمهات والآباء، على حد سواء. إن الأطفال يخرجون من بطون أمهاتهم، “متربيين”، وأحرارا، وأسوياء، وسعداء، ونحن بتربيتنا نحولهم إلى عبيد وجواري ومرضى وتعساء.
شاهدت مقطعا من فيديو للشيخ الشعراوي يقول: “إن المرأة المستورة في بيتها، المحجبة، هي التي يكون الزوج متأكدا أن أولادها منه”!!؛ وهذا لب التحريمات والقيود على جسد وحركة النساء.
كل عُقدة نفسية وجنسية عند الرجال، لها “تصريفة” من رجال الدين، تدفع ثمنها النساء.
الشِعر خاتمتي
يكذب حركة الأرض حول الشمس
ولا يصدق إلا بدورانها
حول تفاصيل فمي وجسدي
ولا تنام في مكتبته
إلا خواطري الحزينة
وما كتبته من أشعار
أخذ إجازة من العالم
ليجفف الدم من عيوني
يعطيني الدواء بميعاد
يسكب الحنان بميعاد
أخبئ رأسي المتعبة في أحضانه
تحية تقدير على هذا المقال الرائع صراحة التربية التقليدية هي سبب الكوارث في مجتمعنا لك تحياتي وتنويهي