حسين الوادعي: الفيلسوف مدرسا… الجابري وتدريس الفلسفة لطلبة المدارس المغربية
“دروس في الفلسفة والفكر الإسلامي” للفيلسوف وناقد العقل العربي محمد عابد الجابري، ليس كتابا مدرسيا فقط.
هو شاهد على جو فكري أيديولوجي ساد واختفى… وعلى التكوين الفكري للجابري الشاب والجذور التي كونت مشروعه النقدي الكبير.
يصفه الناشر بأنه محطة فاصلة في المسار التعليمي المغربي ولعب دورا كبيرا في دفع الكثير من الطلبة إلى أن يتجهوا في دراساتهم الجامعية إلى اختيار شعبة الفلسفة.
ويصفه المؤلف بأنه محاولة في إعادة بناء الفكر النقدي في موضوعات الفلسفة والفكر الإسلامي لطلبة البكالوريا في المغرب.
والكتاب هو “دروس في الفلسفة والفكر الإسلامي” للفيلسوف وناقد العقل العربي محمد عابد الجابري. كتاب قديم صدرت طبعته الأولى عام 1966 وأعيد طبعه بعد توقف طويل عام 2020.
ورغم أن الكتاب موجه لطلبة الثانوية، إلا أنه ينقل لنا وبدقة الجو الفكري والأيديولوجي للحظة التأليف.
كما أن اختيار الجابري للمواضيع والفصول والاتجاهات الفلسفية لم يكن اختيارا مدرسيا صرفا أو عشوائيا، بل كان اختيارا فكريا وايديولوجيا متناغما مع “الحلم العربي” في الستينات بخلق مجتمع جديد يقوم على الفكر النقدي والعقلانية والوحدة والحداثة والعدالة الاجتماعية.
لكن، إلى جانب الجو العام، يكشف لنا الكتاب أيضا الجذور التي حكمت التكوين الفكري الجابري ومساره التعليمي وتكوينه السياسي.
الاتجاهات الفلسفية الرئيسية التي عرضها الجابري في الكتابة هي نفس التوجهات الفلسفية التي حكمت إنتاجه حتى وفاته.
الجابري فيلسوف التركيب. فهو ليس فيلسوفا تابعا لمدرسة فلسفية واحدة. والفلسفة التركيبية التي كونها الجابري في مؤلفاته تتكون، كما يكشف هذا الكتاب المبكر، مؤلفة من ثلاث اتجاهات رئيسية:
الاتجاه الفلسفي الأول هو الماركسية، التي تحضر في كتابات الجابري لا كأيديولوجيا سياسية وإنما كمنهج للتحليل الطبقي والتاريخي من ناحية وكمنهج للتغيير من ناحية أخرى. أما الماركسية كنظرية سياسية، فقد نقد الجابري أغلب جوانبها وخاصة تلك الجوانب التي لا تنضبط مع مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع العربي.
الاتجاه الفلسفي الثاني هي البنيوية في لحظة صعودها السريع في الستينات والسبعينات وتطورها فيما بعد إلى ما بعد البنيوية والتفكيكية لتصبح التيار الرئيسي لما بعد الحداثة. لكن الجابري لا يأخذ البنيوية على علاتها، فهو يتعامل معها بنفس التعامل النقدي التركيبي الذي تعامل به مع الماركسية، فيأخذ البنيوية كمنهج لتحليل كيفية تكوين الخطاب والتطور التاريخي للأحداث، لكنه يرفض فلسفتها ما بعد الحداثوية المعادية للتنوير، والتي ترى في الإنسان مجرد ضحية للتطورات الهيكلية والبنى الاجتماعية الخطابية التي لا دور له في تغييرها.
أما الاتجاه الثالث، فهو القومية العربية ببعديها الكبيرين (العروبة والإسلام) كرافعتين لمشروع الماركسية (العدالة الاجتماعية) ولمشروع البنيوية (الفكر النقدي ونقد العقل). سيظل الجابري حتى رحيله قوميا عروبيا بطريقته الخاصة كما كان ماركسيا وبنيويا بطريقته الخاصة أيضا، لكن قوميته ستكون أقل عناصر مشروعه الفكري عقلانية، حيث يسيطر عليها اللاشعور السياسي (إذا استخدمنا أحد المفاهيم المركزية التي طورها في مشروع نقد العقل السياسي العربي). لكن الاعتماد على اللاشعور بحد ذاته نوع من الفهم العقلاني لآليات السياسة في مجتمع تمارس فيه السياسة على مستوى العقيدة لا على مستوى المصلحة العامة.
قومية الجابري ذات طموح قُطري يسعى لنقل مركزية الثقل القومي من المشرق إلى المغرب عن طريق تقديم الحل في الانتقال من الفلسفة العربية المشرقية اللاعقلانية (ابن سينا والفارابي) إلى الفلسفة العربية المغربية العقلانية (ابن رشد، ابن باجة). والانتقال من حنبلية الفقه المشرقي إلى ظاهرية الفقه الحزمي (ابن حزم).
بعد ثلاثة عقود من طرح هذا الكتاب المدرسي، سيكتب الجابري مقدمة طويلة من خمسين صفحة لكتاب العقل السياسي العربي، يشرح فيه بالتفصيل، المفاهيم وأدوات التحليل الماركسية والبنيوية والابستمولوجية والنفسية التي استخدمها في تشريح السياسة في التاريخ العربي تنظيرا وممارسة ونتاجا.
كان الجابري قد نثر بذورها في هذا الكتاب المبكر وكأنه يزرع في عقول الجيل الشاب الأدوات اللازمة للنقد والفعل. لكنه سينتقل من الماركسية التقليدية عند ماركس وانجلز ولينين، إلى الماركسية الجديدة عند ريجيس دوبريه وجورج لوكاش وموريس غودلييه. وسينتقل من بنيوية سوسير الى حفريات فوكو. لكن الجابري ينأى بنفسه مرة أخرى عن البعد الفلسفي للفوكوية المعادي لقيم التنوير، فيوافق فوكو في نقد المعقولية السياسية دون أن يتورط في رفضها، وهو التورط الذي وقع فيه المفكر إدوار سعيد في كتاب الاستشراق.
لا أنكر أنني شعرت بالحيرة عندما وجدت في الكتاب فصلا عن علم النفس! فلماذا يكتب الجابري عن علم النفس والسلوك الإنساني، والانفعال ومظاهره الفردية والجماعية؟
لكنني وجدت الجواب موزعا بين دفتي الكتاب هذا وبين كتب مرحلة النضج النقدية. يتبنى الجابري في الكتاب اتجاه وحدة العلوم وتكاملها وتداخل قضاياها، ويرفض التخصصية المبالغ فيها التي تحول العلوم الى مجالات عميقة غير منتجة، ويرى أن دراسة الظواهر الاجتماعية تتطلب تظافر علوم الاجتماع والأنثربولوجيا واللسانيات وعلم النفس والتاريخ. أما عن علاقة علم النفس بمشروعه الفلسفي، فلن يتضح إلا مع صدور الجزء الثالث من سلسلة نقد العقل الذي سيوضح فيه المفاهيم النفسية التي استعارها من التحليل النفسي عند فرويد ويونغ (اللاشعور، واللاشعور السياسي، واللاشعور الجمعي).
وحدة العلوم، إذن، كانت إحدى القضايا الجدلية في الستينات، إلى جانب الجدل بين المادية والمثالية وبين المادية الجدلية والوضعية المنطقية وجدلية الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي أو البنية التحتية والبنية الفوقية.
من ضمن الجو الفكري للحظة صدور الكتاب، حضور هربرت ماركيوز كنجم الفلسفة الأشهر آنذاك ومعبود الشباب الثائر الذي كانت كتبه دليل المظاهرات والاحتجاجات التي أشعلها الشباب في العالم. لكن ماركيوز وفلسفته ستتراجع ليصبح اسمه اليوم معروفا عند عشاق الفلسفة فقط. وكم من مذاهب فلسفية صعدت وخبت في سنوات.
الجزء الثالث من الكتاب خصصه الجابري للفكر الإسلامي. وكالعادة، كان اختيار الموضوعات اختيارا أيديولوجيا واعيا. ركز الجابري على نقض فكرتي “الجاهلية” و”الخلافة” كفكرتين معوقتين للفكر النقدي العربي. لم يذكر صراحة أسباب تركيزه على الفكرتين لكن نستشف من بين السطور رؤيته لفكرة الجاهلية كعائق أمام عقلنة التاريخ العربي ولفكرة الخلافة كعائق أمام عقلنة السياسة العربية. ولأن التفكير العربي في السياسة تفكيرٌ في الماضي وفي التاريخ، فلا تقدم قبل الإجهاز على الفكرتين وتوابعهما.
لكن اللافت للنظر، غياب ابن رشد عن فكر الجابري الشاب. فالفيلسوف الوحيد الحاضر في الكتاب هو الفارابي وفلسفته التي سينتقدها الجابري فيما بعد، وسيعتبرها جزءا من اللاعقلانية العربية.
ويبدو أن اكتشاف الجابري لابن رشد وإعادة موضعة مشروعه الفكري ضمن مشروع ابن رشد للتوفيق بين العلم والدين وفك الاشتباك المذهبي سيأتي متأخرا بعد اكتشافه لابن خلدون وفكرته عن العصبية التي حولها الجابري إلى نظرية لتفسير وفهم المجتمع العربي المعاصر.
على الأرجح، جاءت استعادة رشد في الجو الفكري التالي لنكسة 1967 وصعود قطار الصحوة الإسلامية وموجة العودة الى التراث والحاجة الى الاختباء خلف أفكار وشخصيات تراثية من أجل تمرير الأفكار الجديدة.
ليس الكتاب مدرسيا فقط. هو شاهد على جو فكري أيديولوجي ساد واختفى، وعلى التكوين الفكري للجابري الشاب والجذور التي كونت مشروعه النقدي الكبير.