عبد القادر الشاوي يكتب: التأويل المقاصدي للديموقراطية
عندما يتكلم الفقيه عن الشورى، فإنه يتكلم عن الأمر الذي بين المسلمين الذين لا يُبْرِمُون شيئا إلا إذا تشاوروا فيه، وخصوصا فيما يرجع للقضايا الكبرى التي كانت تسمح بذلك في اعتقادهم أو تقبل به في يقينهم. ولا يتعلق الأمر إطلاقا بنظام الحكم ولا بالمعاملات الدنيوية ولا بالحقوق المقررة وضعيا ولا بالمنافع التي تنبني على القيمة وتفترض العدل. فأصل الشورى ليس هو الخلاف حول مفاهيم من قبيل المِلْكِيَّة أو نظام الحكم أو الصراع الاجتماعي… بل هو بالخصوص، كما ورد نصه في القرآن، تلك الأحكام المبنية على التفضيل والقوامة والورع والعلم (الإجماع) بين الخاصة الذين يُستشارون في أمرٍ بينهم فتكون الغاية، كما جاء في شرح ابن كثير نفسه، (تطييب القلوب) واجتماع الشمل والإحسان إلى خلق الله.
ألصق بها المتأخرون من جماعة الإسلام المستنير، أو المستنيرون الإسلاميون، ما سموه بـ (الشورى)، وخصوصا في المرحلة التي كان فيها التأويل (العروبي القومي التقدمي)، بعد نهاية الحرب الثانية، لآي الذكر الحكيم ولمضمون الأحاديث النبوية المؤكدة، أو الصحيحة بالعنعنة أو الأَنانة، ولمراحل السيرة وأطوارها، وربما أيضا لما عُرِف بالفتوحات الإسلامية عندما اتسعت الرقعة الجغرافية في وجه الدين الجديد بالسيف المُهَنَّد إلخ.؛ فظهرت، بحكم هذا التأويل، ما سمي عند نفس المتأخرين، حسب ميادين الاشتغال والتأويل، بـ(الاشتراكية الإسلامية) و(الأحاديث النبوية ذات المضمون التقدمي أو التقدمية) والعودة إلى التراث (الرؤية الإيجابية) ومفهوم الشعراء الطليعيين، الصعاليك، وسوى ذلك.
الذي أرادوا به، في الدلالة، هو أن يكون مفهوم الشورى المأخوذ من القرآن متطابقا، في مجال خاص (العروبة والإسلام) مع الديموقراطية كما تطورت أساسا في البلدان الغربية وفي أمريكا. على هذا الأساس العام، بُنِيَ المفهوم فصار من الاعتقاد أن نشوء السلطة الدنيوية في الإسلام تَمَّ يوم (السقيفة)… بقطع النظر عن التوازنات التي أوجبها الانتقال من الدعوة (النبوة) إلى الدولة (نواة الدولة الإسلامية) والتحالفات التي قامت فوقها على ضوء الاصطفاف الذي حدثت فيها، خصوصا بعد أن برزت عناصره المذهبية في كثير من المواقف والصراعات لتبرير طبيعة السُّلَط التي استبدت، بعد إقصاء منافسيها الأتقياء، بمرحلة الولاية الصحابية وما تلاها، فيما بعد، من خلافة رسخت دور السلطان بديلا للصحابي الجليل. وربما كان قتل الخلفاء وهم يتعبدون، عمر، عثمان وعلي أهم تعبير عن ذلك.
وقد تبين في إطار السيرورة التاريخية التي أعقبت النبوة أن الخروج عن الإسلام ليس رِدَّةً، كما كان الحال عليه في فترة انتشار الإسلام، بل هو تأويل جديد لمفهوم السلطة الإسلامية الوليدة (بديلا للتقليد المُحَمَّدِي الذي تواصل مع الخلفاء الراشدين) القائمة على الخلافة والسلالة والانحياز المذهبي التي خرجت من رحم الغلبة على الخصوم الذين نافسوها في الولاء للدين الجديد.
عندما يتكلم الفقيه عن الشورى، فإنه يتكلم عن الأمر الذي بين المسلمين الذين لا يُبْرِمُون شيئا إلا إذا تشاوروا فيه، وخصوصا فيما يرجع للقضايا الكبرى التي كانت تسمح بذلك في اعتقادهم أو تقبل به في يقينهم. ولا يتعلق الأمر إطلاقا بنظام الحكم ولا بالمعاملات الدنيوية ولا بالحقوق المقررة وضعيا ولا بالمنافع التي تنبني على القيمة وتفترض العدل. فأصل الشورى ليس هو الخلاف حول مفاهيم من قبيل المِلْكِيَّة أو نظام الحكم أو الصراع الاجتماعي… مما قد يدخل في باب الاجتماع الإنساني والمعاملات العامة. بل هو بالخصوص، كما ورد نصه في القرآن، تلك الأحكام المبنية على التفضيل والقوامة والورع والعلم (الإجماع) بين الخاصة الذين يُستشارون في أمرٍ بينهم فتكون الغاية، كما جاء في شرح ابن كثير نفسه، (تطييب القلوب) واجتماع الشمل والإحسان إلى خلق الله.
في الجوهر من كل هذا أنه، إذا ما حصل العَزْم، قام التَوَكُّل الذي هو التعبير عن الإرادة الفردية لتحقيق المراد وإنجازه على الوجه المفترض. الفقيه الشوري هنا لا يخضع للأغلبية التي سوف تقرر في أمر ما بحكم الحق الذي اكتسبته بالشرعية الانتخابية، مثلما لا يأبه بالمعارضة (الأقلية) التي لها حقوق مقررة في الحياة الديموقراطية، بل وقد يعتبر ذلك بالإفتاء، في كثير من الحالات، خروجا عن التفكير الشرعي المبني على التصور الديني.
أما السبب في ذلك، من الناحية المعرفية، فكامن في استناد الفقيه، من جهة، إلى الحكم المطلق القائم على استبعاد الاختلاف ونفيه، ومن الجانب الثاني إلى التصور الديني الذي يفتي بالخلافة في الأرض، وهي المنوطة بالفرد كما جاء في سورة البقرة (إني جاعل في الأرض خليفة) أي من يخلفني في تنفيذ الأحكام (آدم بدلا من الملائكة) حسب (تفسير الجلالين)، وهو ما يعني، في جميع الأحوال، بأن الشورى مفهوم ديني لا يسوس الحياة المدنية على أي وجه، وتأويل الشورى على أنها الديموقراطية الحديثة فيه إقرار بأن الدولة التي تعتمده في سياسة الحياة الدنيوية هي دولة الديكتاتورية الدينية.