من مصر، منى حلمي تكتب: الإفراط فى سعرات الحرية ضرورة للصحة
من تجارب الواقع، ومن تأمل صفحات التاريخ، قديما وحديثا، يتضح أن أكثر الناس اتهاما للحرية وإدانة للأحرار، نساء ورجالا، هم أكثر الناس فسادا أخلاقيا.
“لقمة هنية تكفي مِية”، هكذا نردد. وهذا ربما يكون صحيحا، إذا كنا نقصد “لقمة العيش”. أما “لقمة الحرية”، فهذه قصة أخرى تماما.
لقمة الحرية، كاملة، أو نصفها، أو ربعها، لا تكفي إنسانا واحدا، أو إنسانة واحدة، يوما واحدا أو نصفه، أو ربعه.
“لقمة العيش” مشبعة، تسد الجوع إلى الطعام. “لقمة الحرية” غير مشبعة، ولا تسد الجوع إلى الانطلاق.
“لقمة العيش” نتناولها، فلا تطلب المعدة المزيد. “لقمة الحرية” تتناولها، فتطلب المزيد والمزيد.
“لقمة العيش” ترضى بالقليل، تؤمن بأن “القناعة كنز لا يفنى”، وبأن “منْ رضي بقليله عاش”.
“لقمة الحرية” نهمة، طمًاعة، لا تؤمن بشيء إلا نفسها.
“لقمة العيش” تكتب القصائد إذا أبصرت فى السماء جزءا بسيطا من القمر. “لقمة الحرية” لا تمسك بالقلم، إلا إذا اكتمل القمر.
“لقمة العيش” يمكن أن تكون الفول النابت، والعدس، والجِبنة القريش. ويمكن أن تكون الكافيار وجِبنة الروكفور والديك الرومي المحشي فريك. لكن، في كلا الأمرين، تم اختصار الوجود في تلبية غريزة الأكل لاستمرار التنفس.
“لقمة الحرية” لا يعنيها الأكل، لا يهمها استمرار التنفس، فهي الغاية من الوجود، بل هي الوجود نفسه، في أشهى وأنبل وأجمل الأثواب.
“لقمة العيش” للعيش. “لقمة الحرية” للحياة. وفرق كبير بين أن “نعيش” وأن “نحيا”. هو الفرق بين منْ يتفرج على لوحة للبحر، فوقه البطاطين تشعره بالدفء والأمان، ومنْ يلقي بنفسه عاريا فى أمواج البحر، فى عِز البرد، وقلب الخطر.
هناك، الأفراد والمجتمعات المتفرجة على لوحة البحر، “لقمة العيش “؛ وهناك الأفراد والمجتمعات التي تنزل إلى البحر.
هناك الثورات التي انتفضت من أجل “لقمة العيش” ، وهناك الثورات التي انتفضت من أجل “لقمة الحرية”.
إذا سُئلتُ: ماذا أحب أو ماذا أتمناه لمصر، وطني، سيكون بدون تردد: أن تكون من مجتمعات “لقمة الحرية”، أو النزول الى البحر، وليس مجتمعات “لقمة العيش”، أو الفُرجة على البحر.
أعرف جيدا أنه أمر صعب للغاية، بل أسميه أكبر التحديات. لهذا السبب، هو “أمنية” ، أو “فن المستحيل”، في مقابل “الواقع” ، أو”فن الممكن”.
لكن، هكذا هي مسيرة البشرية، أن نفكر، أن نتفلسف، أن نتمنى، أن نحلم، أن نتخيل… ومع العمل الدؤوب، والإخلاص، والإصرار، والتعلم من الخبرات، والاستفادة من دروس التاريخ، تصبح الأفكار والتفلسف والأمنيات والأحلام والتخيلات… “واقعا” و”حقيقة”.
أعتقد أن العائق الرئيسي لنكون من مجتمعات “لقمة الحرية”، هو أن كلمة “الحرية”، أصلا، من الكلمات غير المفهومة، سيئة السُمعة. كلمة “الحرية” هي نفسها “مقهورة”، تحتاج لمنْ يحررها وينصفها.
ما أن ننطق فى مجتمعاتنا، بكلمة “الحرية”، حتى تنتفض وتتحفز وتتشنج جميع أشكال ودرجات الإدانة الآخلاقية.
“الحرية” في مجتمعاتنا ترادف قلة الأدب والفسق والفجور وعدم المسؤولية. كلها متعلقة فقط بالانغماس فى غرائز النصف الأسفل من الجسد، باستهتار، دون أية ضوابط.
إذا قالت امرأة أو قال رجل في مجتمعاتنا إنه يريد أن يكون “حرا”، فورا نتصور إنسانا كافرا بكل الأديان، خاصة الدين الذي ورثناه. وبالتالي لا يخاف ربنا، وبالتالي كل المبيقات مباحة فى نظره، شغله الشاغل السُكر والعربدة والجنس الفاسق المنحل المتعدد، وهدم كل القيم التي ترتقي بالبشر.
بالطبع، ولأننا مجتمعات ذكورية، فإن الإدانات الأخلاقية للمرأة تكون أكثر قسوة.
وكم من الفضائح الجنسية المدانة اجتماعيا وثقافيا ودينيا، في مجتمعاتنا، خرج منها الرجل نظيفا، ليس عليه أي وصمة، بل نعتبره بطلا ونجما.
مثلا، حينما يتناول الإعلام خبرا عن ضبط بيت دعارة يقول: “تم ضبط رجل مع عاهرتين”. الرجل رجل، لا يوصف بالعهر، ومنْ معه من الفتيات أو النساء في محل امتهان الجنس، هن فقط “العاهرات”. الإعلام لا يقول أبدا: “تم ضبط عاهر مع “عاهرات” في بيت دعارة”. لماذا؟ أليس الفعل مشتركا، وبالتالي لابد أن تكون الصفة مشتركة؟ لماذا لا يتم ذلك أبدا؟ هل يجيبني أحد؟
القانون المصري يميز فى العقوبة بين الرجل والمرأة لصالح الرجل، في قضية الزنا. في قضايا الجنس خارج الزواج، لا يناله أي عقاب، بل ويُتخذ شاهدا على ارتكاب جريمة امتهان الجنس من طرف المرأة، التي شاركته الفعل العاهر نفسه، المعاقب عليه قانونا وعرفا وثقافة.
أليس هذا ضد العدالة والمنطق؟ أليس هذا كيل بمكيالين؟ هذا التمييز ضد العدالة والمنطق، وضد استقامة الأخلاق التي نتشنج ونتعصب للحفاظ عليها، لا نجده في جريمة مثل الرشوة (لا تتعلق بالنصف الأسفل للجسد)، حيث الراشي والمرتشي، كلاهما يوصم بالفعل نفسه.
وارد جدا وطبيعي أن البعض يسيؤون فهم الحرية، عن جهل أو عن عمد. لكن هذا ليس مبررا لإدانة الحرية أو منعها. نحن مثلا لا ندين، ولا نمنع الزواج، لأن هناك زيجات فاشلة، تعيسة. ولسنا نمنع قيادة السيارات، لأن هناك حوادث طرق كل يوم، ولا ندين التعليم أو نمنعه، لأن هناك منْ يرسب.
من تجارب الواقع، ومن تأمل صفحات التاريخ، قديما وحديثا، يتضح أن أكثر الناس اتهاما للحرية وإدانة للأحرار، نساء ورجالا، هم أكثر الناس فسادا أخلاقيا.
اختصارا لتحقيق الأمنية، أو الحلم: مجتمع “لقمة الحرية”، أقترح مقررا تعليميا ثابتا ومستمرا يبدأ منذ الطفولة، ويمتد حتى آخر المراحل، اسمه “حب وإنصاف الحرية”. ويظل متجددا مع تغير الزمن وتغير الناس. بل يسهم فى إحداث التغيير الذي يقدم نفعا وسعادة للجنس البشري.
يشمل هذا المقرر مفهوم الحرية، طبيعة الحرية، علاقة الحرية بالمسؤولية الفردية والمجتمعية، آراء ومؤلفات الكتاب والأدباء والفلاسفة على مدى العصور في الحرية، تجارب البشر نساء ورجالا مع تجارب الحرية وتجارب القهر، تجارب المجتمعات المختلفة مع الحرية، عوائق الحرية، على مستوى الفرد والمجتمع، وعلاقة الحرية بما نسميه “الأخلاق”، ازدواجية المقاييس الأخلاقية والكيل بمكياليين بين الناس وبين الجنسين وبين الدول، وفضح القوانين القائمة على التمييز الذكوري أو الديني أو العرقي، تطهير الحرية من الشوائب التى تلحق بها عمدا، إنصاف الحرية من التشوهات والإشاعات التي ترتكب ضدها يوميا منذ بدء الخليقة، الجرائم التي استنزفت البشرية وقتلت ضحاياها بدم بارد نتيجة قلة الحرية أو غياب الحرية أصلا، وليس لأن الناس أحرار، مناقشة ما يسمونه “الثوابت” و”المقدسات”.
مثلا، الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه قال “إنه لا توجد أخلاق، ولكن توجد تفسيرات أخلاقية للظواهر”. وقال أيضا: “إن الأخلاقيات هي الوسيلة الفعالة لقيادة البشرية من أنفها”.
إن كل فضيلة يمكن تصورها، هي من نتاج “أخلاق الحرية”؛ فالحرية تصحح نفسها بالتجربة والمعرفة والشجاعة والأمانة والنزاهة والاتساق مع الذات والوضوح والحساسية لحقوق الآخرين وعدم الرغبة فى فرض الوصاية عليهم تحت أي مسمى.
وكل رذيلة يمكن تصورها هي إرث مباشر من “أخلاق القهر”؛ فالقهر يعيد إنتاج آلياته وتقاليده وتبريراته وأكاذيبه، التي هي عكس أخلاق الحرية.
الحرية في منتهى الكرم والتواضع، لا تطلب شيئا إلا أن نحبها، حتى تمنحنا كل كنوزها وأسرارها.
أغلب الناس لا يحبون الحرية، إما أنه شيء فى الجينات الطبيعية، أو أنهم استدمجوا القهر وتأقلموا معه، ووجدوا فيه الأمان والراحة، إلى درجة أنهم أصبحوا يكرهون الأحرار من النساء والرجال، الذين حتما سينقلون “عدوى الحرية” إلى الآخرين.
الكاتب والفيلسوف وعالم النفس والاجتماع الألماني، إريك فروم، الذي التهمتُ مؤلفاته في سن صغيرة، له كتاب شهير ممتع اسمه “الخوف من الحرية” ، يفضح تاريخ البشر فى مقاومة الحرية، من الناحية الثقافية والاجتماعية والسياسية والنفسية والوجدانية.
الشِعر خاتمتي
قصيدة: ثالثنا قبلات الحكمة
صبها لي بيديك
كأسا فضي الرشفات
يهزم موجات البرد
يخلصني من الرعشات
صبها لي بيديك
كأسا تفتح شرايين قلبي
للنغم والهدوء والبصيرة
لا أبالي بعدها
كيف تغدو الأيام الباقية
طويلة أو قصيرة
أسقني كأسا
تجعل ثالثنا
لمسات الجدل
قبلات الحكمة
أحضان الشِعر
وخلوة الخجل
منك
أتوق إلى كأس
ترجعني إلى رقصتي المحرمة
ضحكاتي المكتومة
وطني المسروق
كأس واحدة
تفيض بالخير
لا تثمل
تهدي سفينتي الحائرة
بين غروب وشروق