أحمد الخمسي يكتب ـ حزن الظن: استعمال اللغات الأجنبية: صراع أم فرص؟
يحق لصناع الرأي العام الحالي أن يسائلوا أنفسهم: هل بقي للصحافة الورقية دور في صناعة الموقف العام؟ أم بات الأنترنت الساحة اليومية الحية التي يتفاعل فيها ومعها، الكاتب والقارئ في …
يحق لصناع الرأي العام الحالي أن يسائلوا أنفسهم: هل بقي للصحافة الورقية دور في صناعة الموقف العام؟ أم بات الأنترنت الساحة اليومية الحية التي يتفاعل فيها ومعها، الكاتب والقارئ في كل لحظة؟ مَن مِن صناع الرأي ما زال يكتب رأيه على الورق مستعينا بالراقن المأجور؟ ألم يعد القلم والورق مواد متحفية في القرن الـ 21؟ أليست صحيحة تماما قولة مارشال ماك لوهان: الرسالة في الوسيلة. Le message, c’est le médium
هذه القولة أصبحت بداهة، بدليل مقارنة اللوح الخشبي في “المسيد” (الكُتّاب القرآني في المغرب) مع اللوحة الالكترونية اليوم. فمنتج اللوح الخشبي لا علاقة لدماغه بدماغ مخترع اللوحة الالكترونية. وبينهما فارق مسافة ضوئية بكل المقاييس.
المائة عام الأخيرة كانت بامتياز القرن الفرنسي في تاريخ المغرب. الأسئلة المطروحة منذ رفع شعار العولمة قبل ربع قرن الأخير: أليست أمريكا عراب العولمة؟ أليست للعولمة لغتها المميزة؟ أليست الإنجليزية جوكير اللغات بين ألسن العالم؟ ألم يتحدث الرئيس الفرنسي ماكرون بالإنجليزية في مناسبات خارجية؟ أليست اللغة الفرنسية إحدى اللغات الست المعتمدة في الأمم المتحدة؟ هل استعمالها عندنا هيمنة خارجية أم سوء تفاهم تاريخي؟
ونتساءل… ما إذا كان الاتفاق بين فرنسا وانجلترا سنة 1904، بصدد النزاع الأوربي حول المغرب، قد تضمن بندا يًسَلِّمُ لفرنسا حق استعمال اللغة الفرنسية حتى لو استعملت الانجليزية كمادة خام علمية.
من البديهي اعتبار إتقان اللغة الفرنسية من طرف جزء من المجتمع المغربي مكسبا حضاريا له منافعه الجمة بلا جدال. خصوصا، إذا كانت الفرنسية فرصة حيوية واختراقا لمجالات لا تطالها العربية. لكن من البديهي أيضا، طرح تساؤلات تفصيلية، تكشف أجوبتها ما إذا كانت الفرنسية بين المغاربة مساحة حرية أم مربط فَرَس وحيز ريع فُرَص؟
إقرأ أيضا: الفرنكفونية في المغرب، لغة أم سلاح؟
لنا أن ننتقل تحت السقف المغربي، إلى نزاع جرى بين طالب مغربي وإدارة جامعية حول استعمال اللغتين الفرنسية والإنجليزية طوعا أو إلزاما، ولنتساءل ونحتمل الجواب من عدة زوايا.
عندما ينجز طالب جامعي بحثه باللغة الإنجليزية للحصول على دكتوراه دولة، وتمتنع وزارة التعليم العالي عن تسجيل عنوان البحث باللغة الإنجليزية المستعملة وتسلم دبلوم الدكتوراه مكتوبا بالكامل باللغة الفرنسية، حينها يطرح السؤال على الخبراء.
ولنقل ما نشاء عن المشرق، لكن عندما نتطلع إلى بورصة عربية ونجد تتبع صرف العملة ودينامية القيم المالية على اللوحة/ اللوحات الالكترونية بالعربية، يكون ذلك جوابا فعليا عما يقال من قصور إحدى اللغات الست المعتمدة في الأمم المتحدة: اللغة العربية.
يجيب خبير البحث العلمي أنه لا يوجد مسوغ علمي يفرض تسليم شهادة باللغة الفرنسية عن بحث أنجز بلغة غير فرنسية في بلد لغته الرسمية والشعبية غير اللغة الفرنسية. ويجيب الخبير القانوني بنفس جواب الخبير العلمي فاتحا الباب أمام إمكانية تصحيح الخلل اللغوي في صياغة الدبلوم لتنطبق لغته مع اللغة التي بها أنجز البحث. بينما يزيد الخبير الحقوقي فقرة يضيفها على جوابي الخبيرين العلمي والقانوني، باحتمال حرمان حصول صاحب الدبلوم على فرصة عمل أو دراسة في مؤسسات البلدان التي تشتغل باللغة الإنجليزية. مما يقتضي تقديم دعوى ثانية من طرف الباحث المتضرر، بعد دعوى لتصحيح لغة الدبلوم، لتطابق لغة البحث، بدعوى التعويض عن الضرر في حالة ما إذا سبق أن طلب الباحث دخول مؤسسة تشتغل بالإنجليزية ورفضت طلبه بتعليل رفض الدبلوم بناء عن لغته، والتي لا تطابق لغة البحث، أي الإنجليزية.
رفض تسليم دبلوم باللغة الإنجليزية، عن بحث تم إنجازه باللغة الإنجليزية، ليس جدالا خياليا، بل هو واقع ملموس، في بلد… لغته الرسمية ليست الفرنسية، ورغم ذلك، يفرض فرضا… تسليم دبلوم بالفرنسية عن بحث أنجز بالإنجليزية في بلد لغته الرسمية، الأمازيغية والعربية.
عند تأكيد هذه الواقعة، يتدخل الخبير السياسي، ويطلب الاطلاع على الاتفاقيات المبرمة بين المغرب وفرنسا، ليبحث عن تعليل سياسي دبلوماسي، يبرر حق فرنسا في فرض تسليم الدبلومات المغربية، في الجامعات المغربية، والتي لم تنجز بالعربية، أن تكتب باللغة الفرنسية. إذ يدافع السياسيون الفرنسيون عن لغتهم، كي تظل لغة أوراق رسمية لدى البلدان الأجنبية حتى في الاتفاقيات العلمية والتجارية والثقافية.
لذلك، ليس الاتهام المفترض طرحه جاهزا هو الهيمنة الفرنسية، بل الاتهام الجاهز يقتضي توجيهه لذوي المصالح المتبادلة مع فرنسا، إذ يتخلون بموجب تلك الاتفاقيات عن استعمال اللغة الدستورية في بلدهم، لفائدة لغة أجنبية يستفيدون هم مقابل ذلك، بامتيازات توفرها لهم فرنسا مقابل تخليهم عن لغتهم الرسمية.
يعود الخبير القانوني ليأخذ الكلمة بعد تدخل الخبير السياسي، فيعضد تبرئة فرنسا من هذا الخلل البيّن، ويضع المسؤولية على كاهل المسؤول السياسي في المغرب، كونه يمارس حرية استعمال اللغة الإنجليزية عندما يجد ذلك ذا مردودية. بعدها… يعلل الخبير القانوني تطابق موقفه القانوني مع التعليل الذي أبداه الخبير السياسي، كون القوانين المعمول بها في المغرب، أجازت إنشاء جامعة خاصة تستعمل اللغة الإنجليزية أساسا، وتستقطب لذلك التلاميذ المتفوقين في مختلف شعب الباكالوريا بالمغرب: جامعة الأخوين.
إقرأ لنفس الكاتب: حجر “الدارجة”… في مستنقع
هنا، يتدخل الخبير الاقتصادي. فيذكر بأبحاث أجريت في فرنسا حول مهن جديدة ظهرت مع الثورة الإلكترونية سيعرف القرن الواحد والعشرين ازدهارها، مرتبطة باللغة الإنجليزية، كون هذه اللغة، لغة أمريكا حيث أكبر نسبة من براءات الاختراع تصدر من هناك، وهي التي تشكل الحلقة الأولى في مسلسل تكوين شركات إلكترونية حيث الاقتصاد الجديد، تتبادل فيه عمليات البيع والشراء. لذلك، أصبح من صالح فرنسا ونخب بلدان مستعمراتها السابقة دخول مجالات الشركات الأمريكية في الاقتصاد الرقمي من بوابات التعليم الجامعي الرسمي.
استخلص الخبير السوسيولوجي اختراق المصالح الطبقية للمنظومات الوطنية، كقانون عام اجتماعي اقتصادي على الصعيد العالمي للعلاقات الثنائية الفرنسية المغربية.
بقي الخبير السوسيولوجي صامتا إلى الآن. لكن ذكر ارتباط استعمال اللغات بمصالح متبادلة عبر المفاوضات السلمية والاتفاقيات القانونية، استدعى ربط الجزء الإدراكي من دماغه مع ذاكرته. فَرَكَّبَ مخيالُهُ العلاقةَ بين مرحلتَيْ الاستعمار المباشر (فرنسا/المغرب) وبين الصراع الطبقي اليوم على الصعيد العالمي. استخلص الخبير السوسيولوجي اختراق المصالح الطبقية للمنظومات الوطنية، كقانون عام اجتماعي اقتصادي على الصعيد العالمي للعلاقات الثنائية الفرنسية المغربية. وأخذ بعين الاعتبار التحالف الغربي الأمريكي الأوربي الذي يقود الرأسمالية العالمية. واستخلص التكامل بين اللغتين الانجليزية والفرنسية وفق ميكانزيم توزيع مناطق النفوذ والدعم المتبادل بين فرنسا وأمريكا.
هنا أخذ الخبير القانوني الكلمة مرة أخرى، وتساءل عمّ إذا كان الاتفاق بين فرنسا وانجلترا سنة 1904، بصدد النزاع الأوربي حول المغرب، قد تضمن بندا يًسَلِّمُ لفرنسا حق استعمال اللغة الفرنسية حتى لو استعملت الانجليزية كمادة خام علمية.
بعد ذلك، تساءل الخبير الحقوقي عن حق المغرب في مراجعة كل الاتفاقيات الدولية بين الأوربيين والأمريكان، والتي تركت الهيمنة الفعلية لفرنسا رغم اتفاقية إيكس/ليبان 1955؟
إقرأ أيضا: الفرنسية والإنجليزية في التعليم المغربي: هيمنة اللغة… لغة الهيمنة؟
أجابه الخبير السياسي بما يلي: أولا، القضية اللغوية في كل بلد قضية سيادية قبل أن تكون سياسية، وعلى صعيد “السيادي”، تنظر السلطة المختصة في المصالح الجارية. والمصالح الجارية الفعلية، منها ما هو بالجملة (مجموع المصالح العليا للبلد) ومنها ما يؤخذ بالتقسيط. ولكي تحيّن السلطة السيادية مبدأً ما بعين الاعتبار، يجب أن يأخذ المجتمع المدني مبادرة يظهر الضرر الحاصل الفعلي لبعض المعنيين، مثل ما أثاره الخبير الحقوقي من قبل، (على غرار حرمان صاحب الشهادة من فرص الشغل في المؤسسات المشتغلة بالإنجليزية، كون كتابة الشهادة باللغة الفرنسية لم يشر إلى إجراء البحث باللغة الانجليزية). كما قد يرجع العتب لصاحب الشهادة، كونه وهو يبعث بملف طلب الشغل، لم يشر إلى ذلك في رسالته إلى الشركة المعنية. ثانيا، نحن بالدماغ العربي، نتسرع في إلقاء المسؤولية على خصم جاهز محتمل نتربص بنيته السيئة، بينما قد يرى المسؤول المغربي أو الفرنسي كون إنجاز البحث بالإنجليزية، وكتابة الشهادة بالفرنسية، يمنح لصاحب هذه الشهادة فرصا أوسع بين لغتين بدل فرص لغة واحدة.
ليس الاتهام المفترض طرحه جاهزا هو الهيمنة الفرنسية، بل الاتهام الجاهز يقتضي توجيهه لذوي المصالح المتبادلة مع فرنسا، إذ يتخلون بموجب تلك الاتفاقيات عن استعمال اللغة الدستورية في بلدهم، لفائدة لغة أجنبية يستفيدون هم مقابل ذلك، بامتيازات توفرها لهم فرنسا مقابل تخليهم عن لغتهم الرسمية.
لكن، في جميع الأحوال، الخلفية السيادية تضخ طاقة تفاوضية أقوى، وتعبئ الرأي العام المحلي أكثر، وتمنح الرأسمال اللامادي المحلي قيمة مضافة في السياسة اللغوية العامة، تغني التجارب الإقليمية والعالمية وتوسع مساحة التخصيب الثقافي في التربة المجتمعية لحرث التقدم المضمون.
إقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: أمبرطو إيكو، عيوش، الكلاب والحمار… بالدارجة الفصحى!!
لنقل ما نشاء عن المشرق، لكن عندما نتطلع إلى بورصة عربية ونجد تتبع صرف العملة ودينامية القيم المالية على اللوحة/ اللوحات الالكترونية بالعربية، يكون ذلك جوابا فعليا عما يقال من قصور إحدى اللغات الست المعتمدة في الأمم المتحدة: اللغة العربية.
بعد ذلك، فليتنافس الخبراء في مسألة استعمال اللغات وتقديم الحيثيات لحل قضايا سوء التفاهم والفهم. وإلا سننكفئ داخل دائرة حزن الظن والتهمة الجاهزة للهيمنة.