حرية الصحافة… نصر حرب الفيتنام وخسائر الجنوب العالمي - Marayana
×
×

حرية الصحافة… نصر حرب الفيتنام وخسائر الجنوب العالمي

انتصرت الصحافة الأمريكية ضد الإدارة الأمريكية في حرب الفيتنام، فلم يخونها أحد، ولم ينزع عنها وطنيتها أحد…
في الجنوب العالمي، تبدو الأمور مختلفة، حيث كل الحروب خاسرة، ولكن، من يجرأ على القول إنها… حروب خاسرة

إذا أردت أن تشرب، فاشرب من حيث تشرب الخيول، فهي لا تشرب ماء فاسدا، بل تشرب من ينابيع متفجرة، حيث ترى صورة عيونها تنعكس على سطح الماء، وتسمع خيوط المياه تعبر حلقمها نحو البطن، لكن… هناك من يترك المياه النقية الطاهرة، ليجترع ماء المستنقعات …

لحظتها، يروي كل واحد ظمأه، ولكن التاريخ، بعد حين، يفصل بين الذين ارتموا في المياه الآسنة، والذين اختاروا المياه الرقراقة المنسابة بين الصخور إلى الروابي والفلوات لإحيائها. ..

لفهم التطبيق العملي لما أوردناه أعلاه، سنعود قليلا في التاريخ إلى الوراء، وتحديدا حرب الفيتنام في النصف الثاني من القرن الماضي، بين الشمال الشيوعي المدعوم من الصين والسوفيات، والجنوب المدعوم من أمريكا، بداية الأمر بمستشارين عسكريين، قبل أن تزج بقواتها، البالغ تعدادها حوالي خمسمائة ألف جندي، إضافة إلى قطع عسكرية وطائرات وأسلحة، في الحرب، لتندلع واحدة من أكثر الحروب بربرية في تاريخ البشرية، امتد أوارها لعشرين سنة، وأودت بحياة ثلاثة ملايين إنسان، منهم ثمانية وخمسون ألف أمريكي.

صدمت صور الحرب التي تسربت من الصحف الداخل الأمريكي، وخدشت صورة أمريكا في العالم.

على إثر ذلك… اندلعت احتجاجات رافضة للحرب، باعتبارها لا أخلاقية وغير مبررة.

بدأت حركة المقاومة في بداياتها برفض الخدمة العسكرية الإجبارية، وحرق بطائق الخدمة العسكرية، ثم نمت الحركة وانخرط فيها فنانون ورياضيون (محمد علي كلاي). ولكن الكثير من المتظاهرين توبعوا وحكموا بتهم تتعلق برفض الخدمة العسكرية فقط.

لكن… القشة التي قسمت ظهر البعير، وأعطت دفعة قوية للحركة، كانت هي، عملية تسريب ما عرف بأوراق البنتاغون.

تستر أمريكا على حقيقة المعارك…

تحكمت أمريكا في نوع وحقيقة المعلومات التي كانت موجهة للداخل الأمريكي، عن طريق منع الصحفيين من الوصول إلى الخطوط الأمامية في جبهة القتال للحصول على المعلومات من القادة الميدانيين، والاكتفاء بالتصريحات التي يدلي بها المتحدث باسم الجيش الأمريكي في مدينة سايݣون، والتي كانت مركزا للصحافيين ووسائل الإعلام، حيث ينقلون من المعلومات ما تريد أمريكا إيصاله للجمهور حول انتصارات وهمية.

دانيال إلسبيرغ: لا معنى للقتل من أجل إحلال السلام

مع تصاعد الاحتجاجات الرافضة للحرب في أمريكا، وفقدان هذه الأخيرة أي أمل في حسم الحرب لصالحها، رمت بكل ثقلها ميدانيا، ما أدى إلى ارتفاع الكلفة البشرية للحرب في صفوف المدنيين الفيتناميين.

في هذا المناخ، العام سرب دانيال إلسبيرغ، كبير المحللين للسياسات في وزارتي الدفاع والخارجية، وثائق سرية كشفت خداع الإدارة الأمريكية لمواطنيها، عن طريق تعتيم إعلامي على واقع المعارك.

الوثائق التي وصفت بشديدة السرية، والتي نشرتها صحيفة التايمز، كانت عبارة عن تقارير للجنة كلفت بجمع المعلومات من العسكريين في ساحة الحرب، وكانت تقر بالفشل في تحقيق النصر، وهي حقيقة أخفتها الإدارة عن الأمريكيين .

لا صحافة بدون حرية

بعد انكشاف الستار عن حقيقة الحرب، وجدت الصحافة الأمريكية نفسها مشاركة في عملية تقديم معلومات مغلوطة للأمريكيين حول حرب بلادهم في فيتنام، ما دفعها إلى الانخراط بشكل كبير في نشر مضامين وثائق البنتاغون للأمريكيين، وهو الوضع الذي استشعرت الإدارة الأمريكية خطورته، فحاولت التفاوض مع صحيفة التايمز للتوقف عن عملية النشر، لكن الصحيفة رفضت، لترفع الإدارة دعوى قضائية ضدها، لكن القضاء انتصر لحرية الصحافة، واعتبر أن الإدارة وجب عليها حماية معطياتها، وما دامت الوثائق قد خرجت للعلن فمن حق الصحف نشرها.

المثير للدهشة في كل هذا، هو أنه لا أحد قام بتخوين دانيال أو القضاء أو الصحافة، ولا نزع عنهم الوطنية، من طرف الصحافة على الأقل… هؤلاء الذين انحازوا إلى الإنسان وحقوقه، فضلوا الإنسان على فوهة رشاش بلادهم وسياساتها .

لا أحد صادر حق هؤلاء في اختيار مع من يصطفون، والوقت كان وقت حرب. وأي تهمة تلصق بهم في وقت الحرب، كانت ستبدو عادية جدا …

صحافة الجنوب العالمي

… أما والحالة  في وقتنا الحالي، عكس ما سبق، في كثير من دول الجنوب العالمي، حيث لا حرب ولا فوضى، لا موت ولا تهجير، ولكن الخوف ولقمة العيش والجهل ربما، جعل البعض يصور زملاءه الصحافيين، الذين يمارسون المهنة في حدودها القصوى من الأخلاقيات وقواعد العمل الصحفي، كأنهم معارضين ومناضلين، وصار الصحفي، الذي يمارس عمله خارج نسق كل ما هو رسمي، كأنه استثناء باعتباره مناضلا وليس صحفيا، وصار من يحمل (ضم الياء وفتح الحاء) خطابات الوزراء، وخرجاتهم  وتقاريرهم وإنجازاتهم، أكثر ما تحمله السطور، حيث يلوي  عنق الكلمات والتعبيرات لكي يقول: إن فلان مسؤول ناجح، وإن البلاد لم ترى مثله في الماضي، بل لن  يولد مثله مستقبلا، لذلك يجب أن يستأثر بمنصبه ويتخشب فيه لسنوات، حتى  يزيحه مرض أو موت .

بهذه المهمة، التي لم يسبق لأي صحفي في تاريخ الصحافة أن قام بها، وبعد أن شحنت بكثير من الحماس والتسرع، نصب البعض منهم نفسه متحدثا باسم المؤسسات، وفي كل مرة يتساءل المواطنون مع وزير أو مسؤول معين، في إطار ما تكفله آليات الديمقراطية والنزاهة السياسية حول خطوة سياسية معينة، ينصب الصحافي نفسه للإجابة مكان ذلك المسؤول، ويلتمس له العذر في عمله، وهنا يتقمص الصحفي دورا غير دوره الطبيعي: الذي هو البحث عن جواب لأسئلة الرأي العام من أفواه المسؤولين .

الصحافة لا تهتم بالقطارات التي وصلت، بل تبحث عن القطارات التي لم تصل، تلك التي غيرت مساراتها إلى وجهات غير معلومة، أو تلك التي خرجت عن السكة وفككت. هذه هي القطارات التي تتحدث عنها الصحافة، وليس القطار الوحيد الذي وصل إلى وجهته، فالجميع قد سمع جرسه يرن وهو يقترب من دخول المدينة التي توجه إليها…

كل هذا الاعوجاج قد يبدو عاديا، لصحافة تؤمن بنسج علاقات الصداقة مع المسؤولين، وتنقل إلى المواطن إنجازاتهم، ولكن إخفاقاتهم لا أحد يتحدث عنها…

أن تكون صحافيا، فأنت لست صديقا لأحد ولا عدوا لأحد … هكذا تفترض أصول الحكاية، ولكن…

هذا هو الجنوب العالمي، حيث كل الحروب خاسرة، ولكن… من يجرأ على القول إنها حروب خاسرة.

 

* محمد مجي: طالب باحث في ماستر الصحافة والإعلام.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *