الأوطان لأهلها… - Marayana - مرايانا
×
×

الأوطان لأهلها…

لا حق لأحد أن يملي على أصحاب الأرض الذين تصليهم نار الغاشمين، كيف يدافعون عنها، وإن حدث هذا فلأننا في زمن صارت فيه آبار النخوة والشهامة سحيقة، ودلاؤنا قاصرة عن الوصول إليها

إنه الوطن / إنها الأرض.
كنت دائما من الذين يسعدهم سكوت صوت المدافع، وتوقف جنازير الدبابات عن الحركة.
إنها السعادة التي أرغم نفسي على تقبلها ولو على مضض، لقد انتظرت طويلا ليأخذ أصحاب الأرض حقوقهم، لكنه لم يحدث. إنني من المؤمنين بأن أي ثمن يقدم من أجل حرية الوطن ليس غاليا ولا مكلفا، إنه الحب الذي علمني إياه جدي. حب الأرض لا ثمن له…
كيف لا وهو الذي خسر كل أفراد عائلته، من إخوته وأعمامه، لأنه شهد ضدهم بالحق في نزاع بينهم وبين جارهم، الذي استيقظ ذات صباح خريفي وهو يحط لوازم الحرث بأرضه على تغيير كبير في حد فدانه الذي دفع بشكل فظيع من مكانه الطبيعي، ملحقا أمتارا كثيرة بفدان عم جدي.
الرجل المسكين الوحيد، الذي لا أبناء له ولا إخوة، ابتلعت أجزاء من فدانه من طرف من يحسب كثرة النسل مبررا للترامي على ممتلكات الآخرين…
حين احتكموا لرأي الـ”جماعة” (لقاء يضم وجهاء الدوار يتظلم إليهم المتخاصمون لأخذ حقوقهم) شهد جدي ضد عائلته، وأن الحد زحزح من مكانه. كنت رفقته في تلك الليلة التي حضر فيها جلسة “الجماعة” (خمسة رجال، اثنان يمثل كل واحد منهما طرفا في النزاع، وثلاثة آخرون مستقلين يصدرون الحكم). جدي أزبد وظل يضرب الأرض بكفه ناظرا إلى عمه: إنها الأرض يا عمي، إنها أمه الثانية، ولن أسمح بشبر منها يسرق  أمام عيني، وإن كلفني ذلك أن أخاصمكم جميعا، إن ذنب الأرض ثقيل جدا لا أستطيع حمله.
بعد تلك الشهادة التي كانت للتاريخ… شهادة الضمير… شهادة المبدأ…  شهادة من لم يلج المدرسة، ولكن الأرض علمته النقاء والرجولة… شهادة حب الأرض على حساب كل الأواصر الأخرى.
حكمت الـ “جماعة” على عم جدي بدفع تكاليف العشاء، وفي الصباح سيباشرون إعادة الحد لمكانه الطبيعي.
إنها الأرض التي أطعمتنا خبزا خبزته نساء علمتهن الطبيعة النقاء والحب…
إنها الأرض التي قوست ظهر والدي وهو يسير خلف “الحصادة” ملتقطا السنابل التي تنسل من بين أناملهم  والمناجل…
إنها الأرض التي يحرثها في كل خريف دون كلل ولا ملل، حيث تلتزم جدتي وأمي المجيدتان بتقديم الفطور في الصباح الباكر، وفي الضحى أرافق إحداهن حاملا معها ما أستطيع حمله، من إبريق شاي أو خبزتين ملفوفتين في منديل أبيض، إلى الحقل، حب الأرض وأنا صغير  يهمس في أذني: ساعدهم في شيء، أنت ابن هذه الأرض. هكذا نهبط سفح “إسكسي” نحو منبسط “بوايور” حيث يحرث جدي.
يجلس إلى وجبته فوق أخاديد الحرث، تاركا البغلتين المعقودتين على سكة الحرث تلتقطان الأنفاس، وأجمع لهما ما يأكلانه من هشيم الحشائش بجنبات الوادي,..
الحراث (الذي يحرث) تخصص له خمس وجبات في اليوم نظير الجهد الذي يتطلبه العمل في الأرض…
إنها الأرض التي جعلت عمر المختار يطلب من الجنرال الإيطالي وهو في خلوة مكتبه أسيرا لا حرا،  أن لا يعلن للعالم أنه ساومه على الأرض مقابل العفو عنه من مشنقة الإعدام، فرد عليه لن أكذب بشأنك، أنت رجل شجاع…
إنها “تمازيرت”(1)، التي فضلها بألمها على حساب رفاهية بطعم الخذلان والخضوع…
إنها الأرض… إنها البلاد… إنه الوطن… فلاحق لأحد أن يملي على أصحاب الأرض الذين تصليهم نار الغاشمين،  كيف يدافعون عنها، وإن حدث هذا فلأننا في زمن صارت فيه آبار النخوة والشهامة سحيقة، ودلاؤنا قاصرة عن الوصول إليها، وآبار الجبن  والخزي تفيض على الأرض، يغرف منها من قصرت عنده الحبال عن الوصول إلى الأعماق…
المعارك لا تنصف أبطالها إلا وهم رميم تحت الأرض… وهذا هو بؤسها.

 

 

(1): كلمة أمازيغية تعني البلاد والوطن

* محمد مجي: طالب باحث في ماستر الصحافة والإعلام.

مقالات لنفس الكاتب

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *