كيف نستلهم من مشروع ابن خلدون التعليمي لإصلاح التعليم؟
تُظهر هذه الخطوات، وهي خطوات ثابتة وواضحة بدون شك، مدى تمرس ابن خلدون بتحليل القضايا الاجتماعية، وتمكنه الجيد من توظيف الخبرة التاريخية في هذا المضمار، الشيء الذي جعل منتوجه العلمي والفكري عصيّا على التقادم والتراثية، راسخا كلما قرأناه وأعدنا قراءته في الجِدّة والحداثة
لا يزال التعليم في المغرب، كما هو معلوم، يتخبط لإيجاد خلطة سحرية للخروج من عنق الزجاجة، وذلك منذ مدة ليست بالقصيرة. والنتيجة دائما واحدة، وهي أننا لازلنا في ذيل الأمم التي تنبغ في التعليم وتؤتيه حقه من العناية والتقدير، لترقى به في مدارج التقدم والتنمية الشاملة.
لعل السر الذي يكمن وراء اصطدام مشاريع الإصلاح عندنا بصخرة الفشل كل مرة، هو ذلك الاقتباس السطحي من الغرب، ولاسيما الغرب المتدني في هذا المجال، دون مراعاة للبيئة المحلية وقدراتها الذاتية، ومن بينها النظريات التربوية القديمة التي تميزت بحداثة مضمونها، رغم قدمها الذي لا يعدو كونه زمنيا.
هنا يلوح اسم العلامة عبد الرحمان بن خلدون (توفي سنة 808ه/ 1406م) المؤرخ والفقيه والأديب الرحالة الموسوعي، مؤسس علم الاجتماع، وصاحب ذلك المؤلّف العجيب: “كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، المشهور بالمقدمة، الذي أودعه كنوزا من المعرفة والعلم. بعض تلك الكنوز يتعلق برؤيته الثاقبة، المبنية على التجربة و الممارسة، لإصلاح التعليم.
عاش ابن خلدون طفولته في مسقط رأسه بتونس، وتعلم هناك على يد عدة شيوخ، منهم بعض أعلام المغرب، الذين اصطحبهم السلطان المريني أبو الحسن في حملته على إفريقية. ظل لسنوات يتنقل بين بلدان الغرب الإسلامي، يتقلد المناصب الرفيعة هنا وهناك، ويخوض غمار السياسة، ويشتغل بالعلم ومناظرة العلماء. وهذا ما جعله فريدا في إبداعه حديثا في فكره، حتى أنه ليخيل إلينا، ونحن نقرؤه، أنه من أهل هذا العصر.
تميز عصر ابن خلدون، أي القرن الثامن الهجري \ الرابع عشر الميلادي، بكونه قرن التحول الكبير، في حوض البحر الأبيض المتوسط، فهو قرن الطاعون الجارف، وقرن التقهقر الحضاري للعالم الإسلامي، وظهور البوادر والإرهاصات الأولى للنهضة الأوربية.
…وإن وجدتَ في مثل هذا العصر عالما مسلما واعيا بهذا التحول الحضاري، غير مهووس بنظرية المركزية الأبدية للأمة الإسلامية، يستطيع تشخيص الأزمة بأسلوب هادئ وعقلاني، ويستخرج عللها ويقترح حلولها بتجرد وموضوعية; فلن يكون إلا العلامة ابن خلدون… وكتاباته تشهد على ذلك وتثبته.
انظروا إليه وهو يصف ويقارن حال العلوم الفلسفية بقوله: “ثم إن المغرب والأندلس، لما ركدت ريح العمران بهما، وتناقصت العلوم بتناقصه، اضمحل ذلك منهما، إلا قليلا من رسومه… وتحت رقبة من علماء السنة”، إلى أن قال: “بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة (أوربا)… نافقة الأسواق… وحملتها متوفرون، وطلبتها متكثرون”[1]
إنه فكر رجل واع بما يجري حوله، قادر على مناقشة واقعه دون تكلف أو ادعاء. سلاحه الملاحظة الدقيقة والموضوعية ما وسعه ذلك.
بنفس المنهج، تناول الرجل أزمة التعليم بالمغرب حينها، فهو معاصر لحيثياتها، مشاهد ومعاين لمظاهرها، سابر لأغوارها، قادر على تعليلها وإيجاد الدواء الناجع لها.
لاحظ ابن خلدون وقرر، دون تردد، أن أزمة التعليم تلك تتجسد في انقطاع جودته، بغياب حصول الملَكة والحذق في العلوم لدى الطلبة: “وأيسر طرق هذه الملكة قوة اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية… فتجد طالب العلم منهم (المغاربة)، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية، سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة…”[2]
إلى جانب ضعف الكفايات التواصلية، لاحظ ابن خلدون أيضا، طول المدة المخصصة للدراسة، التي بلغت ست عشرة سنة في المغرب آنذاك، مقابل خمس سنوات فقط بتونس، واندثار الاهتمام بالعلوم الفلسفية، وطغيان علوم الشريعة على التعليم، وضمور علوم اللسان من لغة وبيان وأدب…
شخّص ابن خلدون هذه المظاهر بعناية، ووضع يده على الداء بشكل مباشر، دون إهدار للجهد أو الوقت، ولم يقنع بذلك حتى غاص في بواطنها، واستخرج عللها وأسبابها، ومن ثم وضع حلولا ناجعة لتجاوزها. فبلد كالمغرب، بلغ المجد والرقي الحضاري لقرون، ولاسيما في عصر الموحدين، عصر ابن تومرت وابن طفيل وابن رشد وابن الياسمين الفاسي وابن القطان والحسن المراكشي والحرالّي والجراوي… وغيرهم، ما كان ليسقط في هذه الرداءة التعليمية فجأة ودون أسباب.
اهتدى ابن خلدون إلى عدة علل وأسباب، معظمها مترابط، بعضها عام وبعضها الآخر خاص بتعليم العلم. فأما السبب العام، فهو تناقص العمران، الذي أدى إلى تناقص الصنائع ومنها صناعة التعليم، وأما الأسباب الخاصة فأجملها في ما يلي:
ــ عسر تعلم اللغة، فهي آلة لتعلم جميع العلوم، وغياب الجودة فيها ينسحب على بقية العلوم والمعارف.
ــ كثرة التآليف والتفاصيل والفروع، التي لا حاجة إليها في العلم الواحد، وإنما ترهق طالب العلم وتثقل كاهله وتنفره من التعلّم.
ــ التوسع والإطناب في العلوم الآلية كالنحو والمنطق وأصول الفقه؛ وهي عنده غير مقصودة بذاتها، لكن كان على المتعلم في زمنه، أن يفني عمره في تعلمها وحل تعقيداتها واصطلاحاتها بلا طائل.
ــ كثرة المختصرات المخلة، التي حولت العلوم إلى ما يشبه الطلاسم والرموز، يستعصي على المتعلم المبتدئ فكّها وحل ما استغلق من معانيها.
ــ الاقتصار في تعليم الولدان على حفظ القرآن، لا يخلط معه سواه، كتعليم الخط، والفقه، وكلام العرب.[3]
الجميل في دراسة ابن خلدون للأزمات، ومنها أزمة التعليم، أنه لم يكتف بالتشخيص الجيد، المتناغم مع المنطق والمنهج العلمي، وإنما أتم بحثه بطرح واقتراح الحلول المعقولة والواقعية، وهي حلول ممكنة التطبيق متصفة بالنجاعة، حري بنا ونحن في القرن الواحد والعشرين، أن نتأملها ونستلهم منها، فنوفر الجهد والنفقات، التي تهذر دون جدوى.
اقترح ابن خلدون إذن، للخروج من أزمة التعليم التي أصابت المغرب في النصف الثاني من القرن الرابع عشر عددا من الحلول:
ــ الاقتصار في التعليم على مسائل العلم الجوهرية، مبسوطة واضحة العبارة، دون الإكثار من اصطلاحات وطرق العلم،
ــ أن يكون تأليف الكتب العلمية مراعيا للمقاصد السبعة، وإلغاء ما سواها كالانتحال، أو الاختصار المخل، أو تصويب الخطأ، أو الإتيان بما لا فائدة فيه…[4]
ــ الرجوع إلى الكتب المبسوطة الواضحة العبارة، والتخلي عن المختصرات، التي لا تزيد عن كونها حجابا بين المتعلم والعلم.
ــ الاعتماد على التدريج في تعليم المتعلمين، أي أن تلقى مسائل العلم عليهم شيئا فشيئا، وقليلا.. قليلا، وتكرار ذلك حتى تترسخ ملكة العلم وتتم. وتجنب خلط علمين معا على المتعلم فلا يظفر بواحد منهما، لما في ذلك من تشتيت الذهن وذهاب التركيز،
ــ المرونة في التعلم وذلك باستصحاب التدرب على الفكر الطبيعي (الفطري)، الذي يروم فهم المسائل العلمية دون اصطلاحات، وعوائق نظرية، أو ما سماها بالحجب التي تعيق المتعلم عن التحصيل والنبوغ.
ــ اجتناب التوسع والإطناب في العلوم الآلية، والاهتمام بالعلوم المقصودة بذاتها كالفقه والفلسفة وغيرهما.
ــ اجتناب الشدة على المتعلمين، ولاسيما الصغار منهم، حتى لا يسأموا من التعليم، أو تنطبع نفوسهم بصفات المكر والخبث والكذب… الناجمة عن العنف والقهر.
ــ الرحلة في طلب العلم لتنويع الطرق والأساليب والتجارب.
ــ الاعتناء باللغة وضرورة امتلاك ناصيتها، فهي مفتاح التعلم وبوابة العلم.
أكد ابن خلدون أن تعلمها ليس بضبط النحو، وإنما بمخالطة فنون كلام العرب من شعر وخطب ورسائل ومحاورات… واقترح لهذه الغاية، نقلا عن ابن العربي، أن يبدأ المتعلم بالعربية والشعر، ثم ينتقل منه إلى الحساب، ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة، ثم يأخذ في تعلم العلوم الأخرى.[5]
تُظهر هذه الخطوات، وهي خطوات ثابتة وواضحة بدون شك، مدى تمرس ابن خلدون بتحليل القضايا الاجتماعية، وتمكنه الجيد من توظيف الخبرة التاريخية في هذا المضمار، الشيء الذي جعل منتوجه العلمي والفكري عصيّا على التقادم والتراثية، راسخا كلما قرأناه وأعدنا قراءته في الجِدّة والحداثة.
[1] – المقدمة، ابن خلدون، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1993، ص: 394، 395
[2] – المصدر السابق، ص: 343
[3] – مصدر سابق، ص: 462
[4] – مصدر سابق، ص: 456، 457
[5] – نفس المصدر، ص: 463