سناء تراري تكتب: صفعة تقدمية
أتعرف أستاذ، أمريكا وضعت ركبتها على عنق الضعفاء حيث كانوا، ورغم أنهم صرخوا كما صرخ التلاميذ…
نحن لا نتنفس، نحن لا نتنفس!!!
لم ترفع ركبتها عن أعناقهم، مثلك تماما.
إنه هو.
تحسست أثر أصابعه على خدي الأيمن، صَفْعَتُهُ ما تزال طرية. كانت أصابعه معقوفةً ويداه كبيرتان؛ كفيلتان بصفع كل تلاميذ القسم، وأحيانا يمتد الأمر إلى الركل والرفس مستعينا برجليه الطويلتين.
درَّسنا مادة الاجتماعيات في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وفي كل نوبة غضبٍ كان يحوِّل القسم إلى حلبة ملاكمة وتنكيلٍ من طرف واحد، فما الخصم إلا جماعةٌ من التلاميذ، أغلبهم ذوو أجسادٍ أضعفها الخوف والفقر والحاجة، ولحسن حظه أنه… نادرا ما كان يجد مقاومة.
إنه هو، الاسمُ نفسُه، اسمُه الشخصي نادرٌ عندنا نحن المغاربة ودارجٌ عند المشارقة، لهذا فهو يَعْلَقُ بسرعة في الذاكرة، كما يَعْلَقُ بها شكله الغريب وطوله الفاره، ونظرةُ الازدراءِ التي تثقُبنا بها عيناه لا تفارقه. حتى ابتسامته هي نفسها بكامل تهكمها، ومن الاستحالة تمييز حالته المزاجية.
نلتُ القدرَ الأقلَ من التعنيف، صفعةٌ واحدة فقط، ظلت حيةً في ذاكرتي…
كان خطؤنا فظيعا حين خلطنا بين الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا، ونسينا كندا. كان معظم التلاميذ لا يتبيَّنون الفرق بسهولة. أليس الأمر واحدا ؟؟!! آنذاك على الأقل.
كنت أعرف الفرق بينهما؛ لكن رعبي، الذي اشتد وأنا أرى عملية التنكيل قد بدأت، جعلني أسارع إلى شطب الجواب الصحيح على دفتري، ونلت الصفعة.
والصفعةُ لا تزال تؤلمني، ليس لأنني أخطأت كباقي زملائي، بل لأنني بالذات كنت أعتبر نفسي في مأمن من نوباتِه الدائمة، فأنا مدللتُه، أو رسامة القسم البارعة كما كان يُطلق عليَّ. كنت تلك التلميذة التي تقبع وقتا طويلا خلف الجناح الأيسر للسبورة الخشبية، أرسم عليها خريطة الدرس: المغرب، ألمانيا، فرنسا، أمريكا، أو الولايات المتحدة الأمريكية كما يؤكد… هذه الخريطة التي يستغلها الأستاذ لتدريس فوجنا وباقي الأفواج مرتاحا طيلة أسبوع أو أكثر.
نعم؛ إنه هو…
تردد اسمه أكثر من مرة من طرف أصدقاء مشتركين، إذ كان ينتمي لحزب يساري عتيد، وكلما سمعت عنه أتذكر الواقعة وأشعر بالقرف والتقزز، وأستنكر بشدة انتماء رجل تعليم إلى تنظيمٍ عُرف أعضاؤه باستماتتهم الشديدة في الدفاع عن حقوق الإنسان، بينما يخرق هو كل المواثيق الكونية التي تحمي الطفل من العنف، بكامل البساطة والبرود…
كما لا أزال أتذكره ينظر إلى المطر ينهمر خارج القسم، وهو يشير إلى الأعلى ويخاطبنا ضاحكا، أرأيتم: إن الله يتبول علينا. كان هذا التصرف بالتحديد يثير حنق التلاميذ بشدة فيُنَفِّسُون عن غضبهم منه بالنفخ أكثر في كلامه وترويج الأقاويل حوله. تصورت دائما أن كلامه عن الله يؤلمهم أكثر من الصفع والركل.
إنه هو بلحمه وشحمه وعظامه البارزة.
بعث لي اليوم بطلب صداقة على الفايس بوك، كررت اسمه مرتين قبل أن أصرخ… نعم إنه هو.
فتحت صفحته لأتأكد ثم أغلقتها بسرعة خاطفة. خفت أن يتعقبني. خفت من يديه، من أصابعه المعقوفة، من صفعته، من طوله الفاره…
لكن صورته تعقبتني. لم أستطع تجاهل تلك الصورة الكبيرة المتربعة في صفحته، إنه هو… يمد يديه الطويلتين محتضنا ابنتيه الصغيرتين.
هدأت روعي، ثم فكرت أن أقول له كل ما أفكر به، أن أقول له:
أستاذ؛ أتذكر درس أمريكا ذاك؟!!، لقد قامت أمريكا بنفسها بتعليمنا إياه، بأسهل الطرق وبأعنفها كذلك، إعلامها، سينماها وعبر جيوشها الجرارة…
أتعرف أستاذ، أمريكا وضعت ركبتها على عنق الضعفاء حيث كانوا، ورغم أنهم صرخوا كما صرخ التلاميذ…
نحن لا نتنفس، نحن لا نتنفس!!!
لم ترفع ركبتها عن أعناقهم، مثلك تماما.
أستاذ: الضعفاء منا غادروا المدارس، ومن واصلوا، فعلوا ذلك بآثارٍ واضحة للصفع على خدودهم مثلي تماما.
لا، لن أقول له شيئا، سأتركه هناك عالقا ومعلقا على لائحة الانتظار…
إنه هو، يأخذ ابنتيه في حضنه، يحيطهما بذراعية الطويلتين ويحميهما بأصابعه المعقوفة. النظرة نفسها والابتسامة نفسها.