في ذكرى اختطافه: المهدي بنبركة… من المعارضة والنضال الأممي إلى “الأسطورة”! 1\2مرايانا يعود بقرائه إلى بعض خبايا اللغز السياسي الأشهر في تاريخ المملكة...
اليوم، تحل الذكرى الـ59 لاختطاف المهدي بنبركة. الأرجح أنه اغتيل بعد ساعات من اختطافه؛ وإن اختفى حينذاك كجسد، فإلى اليوم هو مختف كجثمان. أما في حكم الذاكرة، فهو حاضر، لم يُنسَ.
نحن الآن بالعاصمة الفرنسية باريس، أمام مقهى “ليب” تحديدا. لنأخذ من أيام هذا المكان، الـ29 من أكتوبر 1965… في ظهر هذا اليوم، بهذا المقهى أمامنا، يرتقب أن يلتقي المعارض المغربي المهدي بنبركة بمخرج سينمائي فرنسي، والهدف تدارس إعداد فيلم حول حركات التحرر في العالم، بعنوان “كفى Basta”.
لا شيء يشي بأن هذه اللحظات، ستنقش نفسها في ذاكرة التاريخ المغربي إلى اليوم. يصل بنبركة في سيارة أجرة، قبيل الموعد، مع شخص آخر. ترجلا، ثم عبرا الشارع إلى المقهى، وحينما صارا على بعد خطوات منه، تقدم إليهما شرطيان فرنسيان.
تأكد بنبركة من كونهما شرطيين، ثم طلبا منه التأكد من هويته. سحب جواز سفره من الجيب، طالعاه، أعاداه إليه، ثم أخبراه بأنهما سيأخذانه إلى موعد مهم مع شخصية ما، دون أن يحددا له من تكون. أضافا، حتى يطمئن، أن الأمر يتعلق بمسؤول سياسي فرنسي بارز.
طلب بنبركة من مرافقه أن يخبر المخرج بتأجيل الموعد، ثم رافق الشرطيين في سيارة من طراز بيجو 403. لم يكن يعلم أنه، منذ هذه اللحظة، قد اختفى إلى الأبد، أو إلى اليوم على الأقل.
كان بنبركة سياسيا لا يشق له غبار بشهادة التاريخ… ليس من هؤلاء الذين يستكينون للسلطة، إنما من هؤلاء الذين يقولون “لا”، في وقت كان فيه قولها، قد يؤدي إلى الموت، وهو المصير الذي لقيه في النهاية.
اليوم، تحل الذكرى الـ59 لاختطاف المهدي بنبركة. الأرجح أنه اغتيل بعد ساعات من اختطافه؛ وإن اختفى حينذاك كجسد، فإلى اليوم هو مختف كجثمان. أما في حكم الذاكرة، فهو حاضر، لم يُنسَ.
لم يُنسَ في حكاية انقلب فيها السحر على الساحر، فبينما أُريدَ بتصفيته، تصفية فكره وحضوره وتاريخه النضالي “الاستثنائي”، لا زال المهدي بنبركة إلى اليوم، شاخصا في ذاكرة المغرب، كضحية/بطل لإحدى أكثر قصص الاغتيال جدلا في تاريخه.
كان بنبركة سياسيا لا يشق له غبار بشهادة التاريخ… ليس من هؤلاء الذين يستكينون للسلطة، إنما من هؤلاء الذين يقولون “لا”، في وقت كان فيه قولها، قد يؤدي إلى الموت، وهو المصير الذي لقيه في النهاية.
اقرأ أيضا: “عبد الرحيم بوعبيد… هذه سيرة واحد من أبرز المعارضين في تاريخ المغرب المعاصر!”
المهدي بنبركة
ولد المهدي بنبركة بالعاصمة الرباط، ذات يوم من يناير 1920. درس بثانوية مولاي يوسف، وكان نابغة. من هؤلاء الذين يعوضون أساتذتهم في إلقاء الدروس في حال غيابهم.
لم تسعفه الحرب العالمية الثانية لتحقيق حلمه بدراسة الرياضيات في فرنسا، فتوجه إلى الجزائر التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي، على غرار المغرب ودول عديدة، ثم أجيز هناك في الرياضيات بداية الأربعينات، كأول مغربي يحقق هذا الإنجاز.
في إقامته بالجزائر، بدأت المكامن النضالية لبنبركة تتفتق، إذ ترأس اتحاد طلاب شمال إفريقيا؛ ثم، حين عاد إلى المغرب، لم يتأخر كثيرا حتى انخرط في الحياة السياسية. انتخب في اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، وكان من بين أصغر من وقعوا على وثيقة 11 يناير، ثم صار بعد ذلك بسنة؛ أي عام 1945، أمينا عاما للحزب.
التحق بنبركة في غضون ذلك بالمدرسة المولوية، وأصبح أستاذ ولي العهد حينذاك، الحسن الثاني، في مادة الرياضيات، قبل أن يقع الشقاق فيما بعد، بعدما فرقت بينهما الأهواء السياسية.
قرر المهدي بنبركة مغادرة التراب الوطني بعدما بدا له أن الديمقراطية بالمغرب ضرب من الخيال، وأن خصومها يحتلون أجهزة السلطة في المملكة…
لكن، قبل ذلك، كانت تحركات المهدي بنبركة نشطة على نحو أقلق المستعمر الفرنسي، الذي اعتقله عام 1951، ونفاه إلى الصحراء، قبل أن يفرج عنه بعد ثلاث سنوات، لينشط بعد ذلك في نضال يروم إعادة الملك من المنفى، وطرد المستعمر.
مواقف كثيرة برز بها بنبركة، جعلت له محبة خاصة عند الملك محمد الخامس. هذا الأخير عينه بعد استقلال المغرب رئيسا للمجلس الاستشاري الذي تم حله عام 1959، ذات السنة التي انشق فيها بنبركة وعدد من رفاقه عن حزب الاستقلال، وأسسوا حزبا جديدا اسمه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
لن تجري انتخابات برلمانية حتى 1963، فانعدمت بذلك الحياة السياسية في المغرب تقريبا، لكن حزب الاتحاد الوطني كان قد جاء ليرفع يافطة معارضة الملك.
اقرأ أيضا: “حزن الظن: معركة وادي المخازن أو عندما يَصُمُّ رنين الذهب عقل التاريخ”
سيتعرض بنبركة عام 1962 لمحاولة اغتيال في بوزنيقة، أصابته بجروح خطرة اضطر على إثرها للسفر إلى ألمانيا قصد العلاج؛ فاستبعد بذلك من معركة مقاطعة الاستفتاء على دستور 1962.
أمل الملك الحسن الثاني آنذاك أن يعود بنبركة إلى المغرب فخاطبه قائلا: “بودي أن يعود أستاذي في الرياضيات. لدي معادلة في صالح المغرب أود أن أحلها معه”.
في 1963، بعدما تقرر إجراء أول انتخابات بعد الاستقلال، أبرز بنبركة مقدرة عالية في قيادة حملة الحزب الانتخابية، وفاز بمقعد في البرلمان عن دائرة يعقوب المنصور في الرباط.
لاحقا، قرر المهدي بنبركة مغادرة التراب الوطني بعدما بدا له أن الديمقراطية بالمغرب ضرب من الخيال، وأن خصومها يحتلون أجهزة السلطة في المملكة… ثم صدر في حقه حكم غيابي بالإعدام، بعدما اتهم بالمشاركة في ما سمي حينذاك بـ”مؤامرة ومحاولة اغتيال الملك”.
كان بنبركة قبل ذلك قد كلف بالتنسيق الأممي، إذ عين رئيسا للجنة التحضيرية لمؤتمر القارات الثلاث الذي سينعقد عام 1966 بهافانا، عاصمة كوبا. هكذا، كان يدعو خلال مجموع تحركاته، تحضيرا للمؤتمر، إلى القضاء على رواسب الاستعمار ورفض ما أسماه الاستقلال الشكلي.
أثناء ذلك، كانت وعود انفتاح ديمقراطي تستقطب المهدي بنبركة للعودة إلى أرض الوطن، حتى أن الملك، الحسن الثاني خاطبه قائلا: “بودي أن يعود أستاذي في الرياضيات. لدي معادلة في صالح المغرب أود أن أحلها معه”.
اقرأ أيضا: “الفرنكفونية في المغرب، لغة أم سلاح؟”
لكن في صباح الـ29 من أكتوبر 1965، وبعدما كان في طريقه إلى موعد مع مخرج سينمائي فرنسي في باريس لإعداد فيلم حول حركات التحرر… رافق شرطيين في سيارتهما فاختفى، وإلى اليوم، لا يُعرف طريق لجثمانه ولا تفسير لتفاصيل اختفائه.
باقتضاب مخل، كان هذا هو المهدي بنبركة، مناضل أممي ورجل في طليعة المعارضة السياسية في المغرب، أرّق السلطة دائما وسهدها إلى أن ظل لغز قاتله ومكان دفنه، لا يحل ولا يفك حتى اليوم.
في الجزء الثاني من هذا البورتريه، سنتطرق لملف اختفاء المهدي ابن بركة… اللغز الأعقد في تاريخ المغرب، ولعديد من الأسئلة التي تحوم حوله.
لقراءة الجزء الثاني: اختفاء المهدي بنبركة… اللغز الأعقد في تاريخ المملكة 2\2