الرقية الشرعية والحجامة والروحانيات: ولادة “غير شرعية” لأنماط علاج وتديُّن وبركة 2/2
ارتبطت الرقية الرقية الشرعية بالأمراض النفسية والعصبية… ومع كلفة العلاج النفسي العصبي، فإن معالجي الرقية الشرعية جعلوا سبب هذه الأمراض هو الجن والسحر والعين الشريرة، وبذلك صعُب فك الارتباط بين الرقية والسحر والشعوذة.
هي في النهاية، مجرد “ولادة غير شرعية” لحرف ومهن استغلت المقدس والجهل… والهشاشة الاجتماعية.
في الجزء الأول من هذا الملف، تطرقنا إلى أصل الرقية الشرعية، والتي تحولت إلى طقس عقدي يستمد شرعيته من الوهابية، فضلا عن استغلال بعض الفقهاء للبعد الروحي والعقائدي للأشخاص المتدينين.
في هذا الجزء الثاني، سنحاول التعرف على هاته الطقوس الروحية وارتباطها بالتمثلات الشعبية وأنماط التدين لدى عموم الناس الذين أصبحوا يتهافتون على هاته العلاجات لارتباطها بالبركة والسر، وكذا لكونها أقلَّ تكلفة من العلاجات الطبية.
روحانيات متأسلمة
بالعودة للعلاج الروحي فإن هذا الأخير، حسب عياد أبلال، الباحث في الأنثروبولوجيا والأستاذ الجامعي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بفاس، ليس مقتصرا على المنطقة العربية، بقدر ما هو متنشر في العديد من البلدان، وعلى رأسها منطقة آسيا.
هذا النوع من العلاج، حسب حديث أبلال لمرايانا، يتخذ أشكالا مختلفة، تعتمد على شخص المريض نفسه، من خلال ممارسة تأملية وأحيانا رياضية، من قبيل اليوغا، والتأمل الباطني، وما يسمى بالعلاج بالقلب، ومنها تم تأسيس السوفخولوجيا، أو علم تناغم الوعي، وقد ارتبطت هذه الطرق بما يسمى التنمية الذاتية، التي برزت في الغرب مستفيدة من التراث الروحي الأسيوي.
في المنطقة العربية، تمت أسلمة التنمية الذاتية، أو الكوتشينغ، وأصبحت الرقية الشرعية أحد تمظهراتها.
ارتبطت الرقية الشرعية بالأمراض النفسية والعصبية المرتفعة بسبب ضغط الحياة. ومع كلفة العلاج النفسي العصبي، فإن معالجي الرقية الشرعية جعلوا سبب هذه الأمراض هو الجن والسحر والعين الشريرة. بذلك، صعُب فك الارتباط بين الرقية والسحر والشعوذة، خاصة على مستوى الطقوس والشعائر. كما أن جمهور الرقاة يتخذ من الجانب المظهري أحد وسائله لتكريس نظرة القداسة والبركة والنية والتسليم، من لباس وإطالة اللحية والمسبحة ولغة لا تنفصل عن الديني، بحيث يسعون إلى ربط التمثلات الشعبية بمدارج الروح والقداسة، كون كل ما يصيب الناس هو نتاج ابتعادهم عن الدين.
هذا الارتباط يفككه الأنثروبولوجي أبلال معتبرا أن فيه مغالطة بين الارتباط الذهني بتمثلات شعبية خرافية، والارتباط الواقعي الذي يقتضي البحث العلمي في أعراض الأمراض وطرق العلاج. من هنا، دخلت الرقية الشرعية السوق التجارية.
أبلال أشار إلى أن قراءة القرآن بخشوع وإيمان، والاستماع إليه بوجدانية مرتفعة، قد يكون مدخلا أساسا للراحة النفسية عند البعض. لكن الأمراض النفسية والعصبية المستعصية يلزمها الطب النفسي والعصبي، وإن كان الإيمان مساعدا كبيرا للعلاج، لكن الرقية الشرعية ممارسة تجارية وشعبية يصعب فصلها اليوم عن ممارسات السحر والشعوذة.
وهم العلاج الروحي
سؤال العلاج الروحي، لطالما شغل بال يونس الوكيلي، الأستاذ الباحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي، جامعة محمد الخامس في الرباط، والمتخصص في الأنثروبولوجيا وسوسيولوجيا الإسلام، الذي قال في حديث لمرايانا، إن من يلجؤون لهذا العلاج، يعتقدون أنهم مصابون بأمراض روحية لها علاقة بالجن. لذلك، فهم لا يرون أن الطب الحديث هو الأنسب لعلاج أمراضهم، التي يعتبرون أن مسببها هو… الجن.
حسب يونس الوكيلي، فإن من يلجؤون لهذا العلاج يفسرون مرضهم بطريقة دينية. ومنهم كثيرون يعتقدون أنهم لجؤوا للطب الحديث وفشل في علاجهم. بالتالي، يلجؤون إلى المتاح الثقافي لإيجاد جواب على معاناتهم، وهنا، يجدون الرقية حاضرة في بيئتهم الاجتماعية، وما ساهم في حضورها، الشبكات الاجتماعية للعائلة والاصدقاء وكذلك النشاط الكثيف للرقاة الشرعيين في وسائل التواصل الاجتماعي وترويجهم لقدراتهم العلاجية.
هذا الحضور القوي للرقاة الشرعيين، حسب المتحدث، يساهم في صناعة القدرات العلاجية للرقاة، حتى وإن كانوا فعليا لا يتوفرون عليها. لكن تناقل الحديث في حد ذاته، يصنع إيمانا جماعيا دوغمائيا بفكرة ما وممارسة ما.
بالرغم من اعتراف منظمة الصحة العالمية بالطب البديل، أو الطب الشعبي، فإنها بررت ذلك، بكون محدودية ولوج الناس للطب العصري، خاصة أمام ارتفاع تكلفة العلاج والتداوي العصري، وفي ظل انتشار بعض أشكال العلاج بالأعشاب مثل التئام الجروح والحروق والكسور، فإن الطب الشعبي، سواء سميناه الروحي أو البديل أو الرقية أو الحجامة… فهو ناتج بالدرجة الأولى عن فقر الأوساط المتعاطية لمثل هذه الممارسات.
الحجامة بين الطبيب والفقيه
يفسر عياد أبلال هذا النزوح بأنه لا يعني أن الطب الشعبي مجرد تعويض، لأن هناك العديد من الوصفات الطبية الشعبية معروفة بدوائيتها وقيمتها العلاجية، وهي وصفات مرتبطة ببعض الأعشاب الطبية (آلام البطن والجهاز الهضمي، ألم الأسنان، طب العظام وخاصة الكسور، وعلاج بعض الحروق…). أما ما يتعلق بالأمراض المعاصرة، من قبيل السرطان والفيروسات الفتاكة وما إلى ذلك، فتبقى ممارسة الطب العصري ضرورية.
يعتبر أبلال أن استعصاء بعض الأمراض على الطب العصري، قد يقود الناس، في سياق الأمل في العلاج واليأس من ممارسات الطب العصري، إلى طلب خدمات المعالج الشعبي، سواء عبر الرقية أو الحجامة… لكن، في كل الأحوال، لا يمكن الحديث عن العلاج الشعبي إلا باستحضار ارتفاع تكلفة الطب العصري، واستحالة ولوجه من قبل بعض الأوساط.
لا أحد ينكر أن للدين مركزية حاضرة في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط من حيث تحليل كل الظواهر، كالتداوي الشعبي. وهنا، لا يستقيم الحديث عن الطب والعلاج إلا بتحليل بنيات المتخيل الشعبي، ومشمول التمثلات الاجتماعية، وهو ما يشرح تفضيل المعالج الشعبي في حالة الحجامة، على الطبيب المتخصص في الحجامة. ثم أن الحجامة الشعبية، مقارنة بالطبية التي يمارسها الطبيب المختص، أقل تكلفة ويسرا، وهو ما يقودنا لأهمية العلاج الشعبي بالنسبة إلى الأوساط الشعبية اقتصاديا.
الرقية الشرعية والحجامة، وما إلى ذلك من ممارسات التداوي الشعبي، حسب أبلال هي مهن وحرف اليوم، على عكس ما كان يمارس في السابق من قبل المعالجين الشعبين دون مقابل. لذلك، تجد أصحاب هذه المهن نفسها يتوسلون الطب العصري عندما يمرضون. لكنها ممارسات، في ظل عملية الإيحاء وقلة ذات اليد والحيلة، لا يمكن استبعادها في ظل الهشاشة الاجتماعية.
يونس الوكيلي يؤكد من جانبه، أن الحجامة طب تقليدي، غير أن الرقاة الشرعيين أضافوها إلى جملة خدماتهم العلاجية بمبرر أصولها النبوية. من الرقاة من يمارسها كطب تقليدي له قواعده وأساليبه، وهناك من يربطه بالجن ومنظومة العلاج الروحي، ويرون في الحجامة إحدى وسائل إخراج الجن من الجسد المسكون، وهذا توجه أقلية من الرقاة، أما الغالب فيعتبرونها إرثا نبويا، ويؤمنون بفعالية الحجامة من هذه الزاوية.
عموما، يصعب فصل الطب البديل عن الأنماط الجديدة للتدين والتي، وفق ما أورده كل من عياد أبلال ويونس الوليدي، استمدت شرعيتها من الوهابية. غير أن الاستغلال البادي اليوم لأنماط التدين، صار أكبر مما يمكنُ توقعه… لتُصبحَ مجالا للابتزاز والاغتصاب وغيرها من الممارسات المنتشرة في الأوساط الشعبية.