مي زيادة… تلك المرأةُ التي تشبه رواية - Marayana - مرايانا
×
×

مي زيادة… تلك المرأةُ التي تشبه رواية

كانت حرية المرأة عند فراشة الأدب، مي زيادة، قضية وجودية.
جاءت في زمن عنوانه العريض: “للرجال فقط”. ومع ذلك، اقتحمت المحظور وناوشت بجسارة أعرافَ “القبيلة”.
لا أحد يُحرّر المرأة غير المرأة، تقول. ومدخلها إلى ذلك: التعليم والعمل.

“كانت مي المثل الأعلى للفتاة الشرقية المثقفة”، في شهادة لهدى شعراوي، إحدى رائدات الحركة النسوية في مصر.

… جاءت ورحلت تاركةً وراءها حكاية حياةٍ طافحة بالتفاصيل كأنّها رواية… والرواية، يحدث، أن تنتهي حزينة!

رأت مي زيادة النور في مدينة الناصرة بفلسطين، في الـ11 من فبراير 1886م.

أبوها مُعلّم لبنانيّ، أمّا أمّها ففلسطينية من أصل سوري، مِمّن رزقوا مع الخبز حبّ الشعر والأدب.

كانت ميّ وحيدة أمّها وأبيها، أو كذلكَ صارت بعد وفاة أخيها. “من يُنجب ميّا، لا يُنجب غيرها”، قالت الوالدة ذات يوم.

تعلّمت القراءة والكتابة في مسقط رأسها، ثمّ هاجرت مع أبيها إلى لبنان عن سن 14 عاما.

تابعت الدراسة الثانوية هناك بدير الراهبات في منطقة عين طورة. ونبغت في تعلّم اللغات. كانت بالمناسبة عند وفاتها تُتقن تسع لغات.

تأثّرت مي في هذه الفترة بالأدب الرومانسي. كان أبرز تيارات الأدب آنذاك.

ولمّا أتمّت دراستها، عادت إلى الناصرة، ثم انتقلت عام 1907م مع أسرتها للإقامة في القاهرة.

درست في الجامعة هناك الأدب والفلسفة. ولمّا تخرّجت، راودها شغفُ العمل الصحفي. ربّما بتأثّر من والدها، الذي أنشأ أيامها صحيفة باسم “المحروسة”.

“يوميّات فتاة” كان عنوان العمود الذي تكتبه مي في الصحيفة. كتبت بأسماء مُستعارة من قبيل إزيس كوبيا، عائدة، شجية، السندبادة البحرية الأولى…

ابتكرت مي آنذاك فكرة جديدة في الصحافة العربية تُدعى “خلية النحل”. طُبّقت في صحيفة “السياسة الأسبوعية”.

الفكرة كانت إفراد بابٍ للقراء. يرسلون إليه أسئلة، أو أجوبة عن أسئلة طرحها غيرهم. هذا الباب التّفاعلي سرعان ما أثمر عودة فئة عريضة من الشباب إلى قراءة الصّحيفة.

لكنّ نجاحاً من هذا القبيل لم يكن ليغري مي. كانت تُفضّل أن تكون كاتبة حرّة غير مقيّدة. الصحافة لم تكن بأجنداتها أفضل خيار.

وكان ذلك فاتحة اللجوء إلى التأليف. “رجوع الموجة” كان أول أعمال مي في سلسلة كتب عديدة، نقرأ من عناوينها “سوانح فتاة”، “ظلمات وأشعة”، “عائشة تيمور”، “وردة اليازجي”…

في غضون ذلك، عام 1913م تحديداً، استقرت ميّ على فكرة إقامة صالون أدبي.

كانت مصر تشهد آنذاك تحوّلات عميقة. لا في الدعوة إلى الاستقلال وحسب، إنّما أيضا ببروز رغبة مُلحّة إلى الحرية الفردية والمساواة وتحرير النساء.

وقفت ميّ ذات يوم في بهو الجامعة المصرية تُلقي خطابا تكريميا للشاعر خليل مطران، وفي نهايته، وجّهت دعوة لعقد صالون أدبي في منزلها.

لقيّت الفكرة تشجيعا كبيرا ممن حضر. ومنذ أوّل ثلاثاء أعقب الخطاب، انعقد الصالون، وكان ذلك دأبه ثلاثاء كل أسبوع.

كان هذا الصالون الأدبي الوحيد في مصر، الذي تديره امرأة ويستقبل ضيوفا من الجنسين.

أحمد شوقي، عبد الرحمن شكري، طه حسين، عباس محمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي… بعضٌ ممن واظبوا على زيارته.

كان الصالون منبعا للحركة الفكرية، الثقافية والاجتماعية، التي كانت تشهدها البلاد أيام ذاك.

يُمكن القول اليوم إن مي امتلكت يداً، ولو خفية، في تلك الحركة.

يقول طه حسين: “كان صالونا ديمقراطيا مفتوحا، وقد ظللت أتردد عليه أيّام الثلاثاء إلى أن سافرت إلى أوروبا لمتابعة الدراسة، وأعجبني منه اتساعه لمذاهب القول وأشتات الكلام وفنون الأدب وأعجبني منه أنه مكان للحديث بكل لسان، ومنتدى للكلام في كل علم”.

وفي ميّ يقول العقّاد: “ما تتحدّث به ممتعٌ كالذي تكتبه بعد رؤية وتحضير، فقد وهبت ملكة الحديث، وهي ملكة التوجيه وإدارة الحديث بين مجلس المُختلفين في الرأي والمزاج والثقافة واللغة”.

وهذا رأيُ أحمد شوقي:

أسائل خاطري عمّا سباني … أحُسن الخلق أم حسن البيان

رأيتُ تنافس الحُسنين فيها… كأنّما لِميّة عاشقانِ.

شهاداتٌ من بين أخرى. وقد استمرّ الصالون ينعقد لنحو 25 عاما، لا يُثني مي عن تنظيمه مرضٌ ولا سفر…

مي زيادة وجبران خليل جبران

تميزت مي زيادة أيضا بشغف المراسلة. طوّرت هذا الفنّ شكلا ومضمونا، وممن راسلتهم، جبران خليل جبران، الذي كان قصيا في الولايات المتحدة الأمريكية.

…حتى إنّهما أحبّا بعضهما بالرسائل فقط. وقد استمرت تُراسله لـ20 عاما إلى أن توفي.

مي كانت من هؤلاء النساء اللائي أسرن الأدباء. مثل لو سالومي.

من هؤلاء، الشاعر إسماعيل صبري، الذي يقول:

“روحي على بعض دور الحي قائمةٌ، كظامئ الطير توّاقاً إلى الماء، إن لم أُمتع بميّ ناظريّ غدا، أنكرتُ صبحكَ يا يوم الثلاثاء”.

ولا سلم من أسر حبّها شيخ الأزهر، مصطفى عبد الرازق. كتب عنها أيام كان في باريس: “وإني أحب باريس إن فيها شبابي وأملي، ومع ذلك فإني أتعجّل العودة إلى القاهرة؛ يظهر أن في القاهرة ما هو أحبّ إلي من الشباب والأمل”.

حتى إنّ العقّاد تساءل ذات يوم: “أكلّ هؤلاء عشاق؟ وعلى كل هؤلاء ينبغي لميّ أن تُجيب جواب المحبوبة التي تتقبّل العشق ممن يدّعيه؟”.

رغم كلّ هؤلاء… فضّلت مي أن تظلّ وحيدة!

عادت إلى لبنان عام 1938م. أساء إليها الأقارب هناك، وأدخلوها مستشفى للأمراض العقلية في بيروت.

ثمّ حين أُفرجوا عنها، عادت إلى القاهرة وأقامت عند الأديب أمين الريحاني. واستقرت هناك إلى أن تُوفيت في الـ17 من أكتوبر 1941م.

رحلت مي عن عمر ناهز 55 عاما، وبعد كلّ ما كانته وقدّمته، لم يمش في جنازتها سوى ثلاثة: أحمد لطفي السيد، خليل مطران، وأنطوان الجميل.

اقرأ أيضا:

تعليقات

  1. IIlyass

    أريد رقصات

  2. AYMANE

    Bon

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *