النخبة المثقفة بين الدين والدولة… تجنب الاصطدام (فيديو) 2/2
الأساتذة، وإن كانوا على اتفاق تام من حيث المبدأ، على مطلبي الحداثة والليبرالية، فإن هذين المبدأين سرعان ما يتبخران حين يتعلق الأمر بتصورهم للدين. حيث تصدر عنهم جميعا، مواقف رمادية إزاءه، فلا هم تجرؤوا على الدعوة إلى القطيعة المعرفية معه، ولا هم بينوا لنا حدود التعامل معه حين يتعلق بالشأن العام. وحتى حين يتحدثون، نظريا، عن فهم تاريخاني لتاريخ الإسلام، فهم يظلون عند مستوى الطرح النظري، ولا يقترحون آليات أو أدوات عملية لإعادة قراءة تراثنا وفق هذا التصور. فكل ما تحصل لدينا كنتيجة للدعوة لقراءة تاريخانية لتراثنا، هو أن مثقفينا، صاروا يتبنون نفس تصورات وتبريرات رجال الدين، كلما تعلق الأمر بتفسير أو الدفاع عن أية قضية من قضايا التاريخ الإسلامي. ويكفي الرجوع مثلا، إلى الدفاع المستميت للأستاذ الجابري عن كون الدعوة المحمدية لم تكن تتغيى السلطة في المقام الأول، أو تأكيد الأستاذ حميش عن كون القرآن يدعو فقط إلى جهاد الدفع وليس إلى جهاد الطلب، أو تقرير الأستاذ العروي بأن ابن تيمية استثناء في تاريخ الفقه الإسلامي، لنفهم كيف يؤدي تطبيق نظرية ما، أحيانا، إلى عكس النتائج المرجوة.
تابعنا في الجزء الأول من هذا الملف، قراءة في أهم أفكار ومواقف محمد عابد الجابري بخصوص قراءته لسؤال الدين والدولة، ثم توقفنا عند أهم مواقف بنسالم حميش.
في هذا الجزء الثاني، نواصل استقراء مواقف بنسالم حميش، قبل التوقف عند أهم مواقف وأفكار عبد الله العروي.
نمر هنا إلى بقية القضايا التي نسائل فيها مواقف حميش، وهي كالتالي:
– تعدد الزوجات
يدفع حميش بكون تعدد الزوجات مجرد إجراء مرحلي، استهلك أغراضه، لذلك فقد تم تسييجه بآية أخرى تحث على عدم اللجوء التعدد مخافة الظلم، وأخرى تنص على استحالة العدل مع التعدد. ونتساءل مع الأستاذ: بما أن التعدد كان إجراء مؤقتا، ألم يكن من الأجدر يكون موضوع حديث نبوي ينسخه حديث آخر، عوض أن يكون شريعة متضمنة في دستور المسلمين الصالح لكل زمان ومكان؟ وهل يجرؤ اليوم قاض، في البلاد الإسلامية، على رفض طلب للتعدد، بإعمال اجتهادات الأستاذ؟
أخيرا، فإن التذرع بالتناقص في أعداد الرجال، لتسويغ تعدد الزوجات، لا يقوم على أي دليل تاريخي. والأستاذ إذ يدفع بهذا المعطى، ملزم بعرض إحصائيات عن قتلى الحروب العديدة التي خاضها المسلمون، والواقع أن عدد قتلى هذه الحروب، وصولا إلى غزوة تبوك (على ما فيها من اختلافات) لم تكن تتجاوز المائة قتيل، في كل غزوة، على أبعد تقدير. علما بأن تعداد المحاربين في تبوك كان يتراوح، وفق الروايات، بين ثلاثين وسبعين ألفا! فعن أي تناقص يتحدث الأستاذ؟
– نشوز المرأة
إحدى الطرائف التي أتحفنا بها الأستاذ، وبالمناسبة فإن مبرراته المسوقة في هذا الصدد، وهي بالمناسبة، نفس المسوغات المغالطة التي يروج لها الدعاة النجوم على قنوات “إقرأ” وما شابهها. هل حين نعتبر ضرب زوجاتنا آخر حل يمكن اللجوء إليه، نكون قد احترمنا آدميتهن؟ الضرب امتهان لكرامة المرأة، سواء كان في آخر المطاف أو في أوله، وسواء ضربت بدبوس أو بعود الأرك. ولا نشك في كون الأستاذ الجامعي الحداثي يعرف هذا تماما. وما دمنا نتحدث عن مساواة، مفترى عليها، بين الجنسين نتساءل: هل، وفق نفس المنطق، للمرأة الحق في ضرب الرجل الناشز كحل أخير؟
المسلم اليوم، لا يستطيع الزواج من أربعة نساء (و… ملكت يده)، ليس لأن آيات أو أحاديث أخرى سيجت هذا “الحق” وألغته بالتدريج. بل فقط بسبب ضيق ذات اليد، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي وقعته جل الدول العربية والإسلامية.. على مضض.
ج- عبد الله العروي
تجدر الإشارة إلى أن المفكر الفذ، عبد الله العروي، هو الأقرب إلى تمثل مفهوم الحداثة، من خلال مساهمات تنظيريية أكاديمية، ضمنها في مؤلفات ما زالت مرجعا هاما لطلاب الفلسفة والعلوم السياسة على الأخص. هكذا عكف الأستاذ على إعادة تحديد جملة من المفاهيم المفصلية في هذين الحقلين المعرفيين، كما تم تعريفها لذى الإغريق، وتطويرها لذى فلاسفة ومفكري عصر الأنوار (1) إضافة إلى عمله التوثيقي الهام لتاريخ المغرب، وغير ذلك من المساهمات التنظيرية والنقدية.
كل هذه المساهمات الفكرية للأستاذ، تدفع بنا إلى اعتباره عرابا، فريدا ومتميزا لمفهوم الحداثة. يتضح هذا بجلاء في بعض المقاطع، من كتب مختلفة سنعرض لأهمها بتركيز في ما يلي.
* في الصفحة 98 من كتابه “خواطر الصباح” (2) مثلا، يقول عن سياسة التقليد، بأنها “هي نفسها فرز واختيار. التقليد هو ما في ذهن المقلد، مخطط لسياسة المقلد ولا يوجد مسبقا في لوح محفوظ. لولا هذا الأمر، لما فهمنا النزاعات الحادة التي تفصل بين أنصار التقليد. ما يجعل أحدا ينتصر على خصومه، هو القدرة على التنويم والتخدير، الذي هو نوع من الاغتيال” وهو ما يعني في الواقع، استحالة توفير نصوص مرجعية واضحة يمكن اعتمادها في الدفاع عن التقليد كفكر وكممارسة. مما يفتح للحداثة هامشا كبيرا ويكسب الدعوة إليها مشروعية موازية لتلك التي يضفيها أنصار التقليد على مشروعهم.
* في الصفحتين 105 و 106 من نفس المؤلف، يعرض الأستاذ العروي إلى البيعة ويميزها عن الحفلات الأوربية، بسبب كون البيعة عندنا “ترمي إلى إحكام الولاء بين الرعية والراعي دون الخضوع إلى أية مسطرة قانونية”. والإشارة هنا واضحة إلى التضارب البين بين مقتضيات البيعة ومقتضيات الدستور باعتباره أعلى سلطة تشريعية حديثة، ينبغي أن تعلو على كل أشكال التنظيم العتيقة.
* وفي الصفحة 108 من كتابه “من ديوان السياسة” (3). يركز الأستاذ على أن من ينادي بالعودة إلى “تطبيق الشرع على ظاهره، بدون قياس أو تأويل، لا بد له، منطقيا، أن يرفض الواقع، مهما طال أمده، أن ينفي الحاصل مهما استقر، ويستعيد ظروف الأمية والبداوة، بالمعنى العام للكلمتين (..) البدو هم غير المستقرين، غير المندمجين، المتبرمون من التطور غير المستقر والتغير السريع. الأميون هم المتخلفون عن الركب، الكسالى، الحالمون، الواهمون. لا ضابط لهؤلاء سوى الشرع بكل وسائله الترغيبية والترهيبية”.
لكن الموقفين الأكثر إثارة للجدل، والأكثر التصاقا بموضوعنا، يظلان هما مسألتا البيعة/الولاء والشؤون الدينية.
فبخصوص الولاء يقول الأستاذ في معرض محاضرة له بعنوان “المواطنة والمساهمة والمجاورة” (4): “يشاهد بعضنا، على الشاشة، نقل حفل الولاء. فيقول: هؤلاء المبايعون موالٍ، وليسوا مواطنين. هذا الشعور هو الذي يجب أن ننطلق منه، بحثا عن ظروف نشأته. هل هو طبيعي؟ نعم، بدون أدنى شك. توجد جماعات كثيرة تجربه يوميا. كل عضو في هذه الجماعات يشعر بأنه آفاقي، خارج السرب، أنه مساكن، مجاور، غير مشارك، غير مساهم، لا يتمتع بحقوق، يتمتع بها غيره الذي يحتل مكانة أعلى من مكانته. يجد أن وضعه ناقص، محتاج إلى تزكية، حتى يتخيل واقعا مناقضا للواقع الذي يعيشه. يحاول أن يكيف، فيعثر على كلمة “مواطنة” بمعناها المستحدث. يتيقن أنها حق لكل إنسان بما هو إنسان. لو لم يجد هذه الكلمة جاهزة، لاستعار لفظة أجنبية، كما استعار من قبل لفظة “ديمقراطية” ولفظة “برلمان”.
ويبقى هذا الموقف هو الأكثر جسارة على الإطلاق، عبر عنه مثقف من حجم الأستاذ العروي، وهو الأكثر تعبيرا عن النزوع الحداثي لديه. ذلك أن البيعة بالشكل الذي تقام به، تتعارض صراحة مع الدستور الوضعي الحديث، بل إنها تلغي الكثير من مقتضياته. وهو وضع لا يمث لدولة الحق والقانون بأية صلة. إنه أشبه بكائن حي برأسين.
الموقف الثاني يتعلق بمسألة إدارة أو تدبير الشؤون الدينية، وهنا بالضبط ينهار في نظرنا، كل البنيان النظري المتمحور حول الحداثة والذي أمضى الأستاذ سنوات طويلة في التأسيس له. كيف ذلك؟
في الجزء الثاني من حوار له بعنوان “في الحداثة والدين” (5)، سئل الأستاذ عن تصريح سابق له، مفاده أن الملك هو الوحيد المؤهل لحل المسائل الدينية، فكان جوابه: “حين قلت هذا، فقد قلته بالنسبة للمغرب الأقصى. فهناك وضعية خاصة، استنتجت منها ما استنتجت. لأن هناك ملك اعترف له بالإمامة مند زمن لأنه شريف إلخ… فأنا قلت: بما أن هذا واقع، إرث من الماضي، فعلينا نحن، أنصار الأفكار الحديثة، أن نستثمر ذلك. الاستثمار هو القول: بما أن هذا حدث، فالأفضل لنا أن نعترف بأن هذا حدث، ونقول: طيب، الأمور الدينية كلها موكلة إلى الملك، بصفته أميرا للمؤمنين. معنى ذلك أن كل ما ليس دينيا، كل ما هو دنيوي: الإقتصاد، المال …إلخ، يخرج من بين يديه، ويكون ببديل برلماني منتخب”. ويستطرد: “يجب أن نحرر السياسة من الدين، دفاعا عن الدين. وليس دفاعا عن رجال الدين. لا بد من هيئة دينية تقوم بهذا الواجب المتعلق بالطقوس”.
الدعوة إلى الحداثة وفصل الدين عن الدولة، يعنيان العلمانية في نظرنا المتواضع. وهذا، دون شك، مطلب لكل الحداثيين المعلنين عامة، وإن باحتشام. غير أن العلمانية تعني أيضا أن يكون التدين أمرا شخصيا خاصا، بين الخلق وخالقه، كما يقال، وأن تكون باقي مناحي الحياة أمرا مشتركا بين الجميع، يتم تدبيرها عن طريق هيئات تمثيلية تفرزها انتخابات حرة ونزيهة.
المشكل إذن، لا يكمن في الجهة التي ستتولى أمر مؤسسة دينية ما، بل في المؤسسة الدينية نفسها. الدولة العلمانية لا مجال فيها لأية مؤسسة دينية ترعاها الدولة، أو أية جهة أخرى، وتمولها من المال العام، لتفتي في الشأن العام، الذي ينبغي أن يكون في الأصل، من اختصاص الدستور حصريا. قد يعترض البعض على خلط الشأن العام بالأحوال الشخصية. نبادر بالتوضيح بأن المخرجات السلبية لحالات الطلاق وتعدد الزوجات والإرث وغيرها، تنتهي جميعا في ردهات المحاكم، وليس في وزارة الأوقاف أو المجلس الأعلى العلمي بأي حال.
خلال نفس الحوار، وفي محاولة منه للتقليل من أثر التطرف في الفكر الإسلامي، أشار الأستاذ إلى أن دعوة ابن تيمية “كانت في ظروف معينة. ظروف كان الحكم فيها للمماليك، مماليك الأتراك. والعرب كانوا تحت سلطتهم. ولسبب من الأسباب، جاء ابن تيمية بهذه الدعوة لإحراج السلطة الحاكمة الأجنبية، بربط شرعية السلطة بالجهاد خارج الوطن الإسلامي. فالجهاد عند ابن تيمية، سلاح سياسي لإحراج الطغمة التركمانية الحاكمة آنذاك. هذا الوضع، لا علاقة له بما سبق. الآيات التي استعملها ابن تيمية لا تنطبق على الوضع الذي قام فيه هو، وبالتالي لا يمكن تأويل كلامه لهذه الآيات وفقا للوضعية التي نحن عليها اليوم ” ثم يؤاخذ المستشرق هنري لاووست على اعتبار ابن تيمية مفكرا محوريا في الفكر الإسلامي.
بمعنى آخر فإن ابن تيمية كان مجرد فقيه واعظ على هامش عصره، ووحده المستشرق هنري لاووست هو من أضفى على دعوة صفة المحورية. مما يعني أن الفقه المتطرف ليس سمة ملازمة للفكر الإسلامي، وابن تيمية كان استثناء لا يقاس عليه.
بخصوص هامشية دعوة ابن تيمية، نبادر إلى التوضيح بأن هذا الأخير تتلمذ على يديه كبار فقهاء عصرهم وأشهرهم. نذكر منهم على سبيل المثال: ابن قيم الجوزية، شمس الدين الذهبي، محمد بن عبد الهادي المقدسي، ابن كثير، ابن رجب الحنبلي، ابن فضل الله العمري… وهذا لوحده كفيل بأن يسقط عنه شبهة الهامشية. وحتى لو افترضنا جدلا أنه كان استثناء، فإننا سنصطدم بحقيقة أن كل عصر من عصور تطور الفكر الإسلامي، كان له فقيهه الأصولي، المتطرف، بلغة عصرنا. بدءا من الشافعي وابن حنبل، مرورا بابن تيمية، ووصولا لابن عبد الوهاب وأبي الأعلى المودودي والقرضاوي. الجهاد إذن، مطلب محوري في الفكر الإسلامي وليس انحرافا عن القاعدة. والحديث النبوي “مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ، ولَمْ يُحَدِّثْ به نَفْسَهُ، ماتَ علَى شُعْبَةٍ مِن نِفاقٍ” خير دليل على صحة دعوانا.
أخيرا، ودائما في نفس الحوار، يصرح الأستاذ العروي، بأن “تفسير داعش للقرآن بعيد عن كل عقلانية (..) داعش ليست نابعة منا مائة بالمائة. هناك تأثير خارجي في الموضوع” ولنا أن نقدم ملاحظتين:
– القول بأن تفسير داعش للقرآن غير عقلاني، يفترض أن هناك تفسيرا عقلانيا للقرآن، متفق عليه، حادت عنه داعش. والواقع أنه لا وجود لتفسير واحد للقرآن، بل تفاسير متعددة، لكنها تتقاطع في مجملها مع التصور الداعشي للقرآن. اللهم إذا تبنينا تفاسير بعض القرآنيين ممن يصرون على أن كلمة “اقتلوا” مثلا، لا تعني القتل. وكلمة “اضربوهن” لا تعني الضرب، وهلم مهاترات.
– لا يشرح لنا الأستاذ طبيعة هذا التأثير الأجنبي، أو بالأحرى، الشجرة التي نخفي ورائها غابات مثالبنا. طبيعي أن تكون لكل القوى العظمى مصالح في كل بقاع العالم، وأن تبادر إلى تمويل وتسليح مقاتلين من أجل تحقيق مصالحها على الأرض، بصرف النظر عن معتقدات هؤلاء أو قناعاتهم. لكن هذه القوى ليست هي من أقنع مقاتلي داعش بأنهم سيفوزون بالحور العين، اللائي ينتظرنهم على الضفة الأخرى من كل اغتيال أو تفجير للذات، وسط الأهالي العزل، كما لقنهم من أقام لهم معسكرات غسيل دماغ على السريع، قبل الرمي بهم في أتون الحرب المقدسة.
يكفي النظر إلى تركيبة مقاتلي داعش، لكي نقف على كونهم شتاتا لا يوحدهم لا الموطن ولا اللغة ولا الحالة الاجتماعية. كل ما يجمع بينهم هو الإنتماء إلى أمة الإسلام، وواجب قتال أهل الكفر وإقامة دولة الخلافة… أطلنتس الإسلاميين والمغيبين.
خلاصة
تعرضنا، قدر المستطاع، لمواقف ثلاثة مثقفين أكاديميين من الدين بشكل عام، ومن الدين في علاقته بالدولة. والملاحظة الرئيسية التي يمكننا المجازفة بتسجيلها، هي أن الأساتذة، وإن كانوا على اتفاق تام من حيث المبدأ، على مطلبي الحداثة والليبرالية، فإن هذين المبدأين سرعان ما يتبخران حين يتعلق الأمر بتصورهم للدين. حيث تصدر عنهم جميعا، مواقف رمادية إزاءه، فلا هم تجرؤوا على الدعوة إلى القطيعة المعرفية معه، ولا هم بينوا لنا حدود التعامل معه حين يتعلق بالشأن العام. وحتى حين يتحدثون، نظريا، عن فهم تاريخاني لتاريخ الإسلام، فهم يظلون عند مستوى الطرح النظري، ولا يقترحون آليات أو أدوات عملية لإعادة قراءة تراثنا وفق هذا التصور. فكل ما تحصل لدينا كنتيجة للدعوة لقراءة تاريخانية لتراثنا، هو أن مثقفينا، صاروا يتبنون نفس تصورات وتبريرات رجال الدين، كلما تعلق الأمر بتفسير أو الدفاع عن أية قضية من قضايا التاريخ الإسلامي. ويكفي الرجوع مثلا، إلى الدفاع المستميت للأستاذ الجابري عن كون الدعوة المحمدية لم تكن تتغيى السلطة في المقام الأول، أو تأكيد الأستاذ حميش عن كون القرآن يدعو فقط إلى جهاد الدفع وليس إلى جهاد الطلب، أو تقرير الأستاذ العروي بأن ابن تيمية استثناء في تاريخ الفقه الإسلامي، لنفهم كيف يؤدي تطبيق نظرية ما، أحيانا، إلى عكس النتائج المرجوة.
يتعقد الأمر أكثر، حين يتعلق الأمر بمطلب العلمانية. فإن كان محمد عابد الجابري على الأقل، قد تعرض لمفهوم العلمانية، واقترح مفهومي الليبرالية والعقلانية كبديلين لها، فإن الأستاذين حميش والعروي يتجنبان ذكرها، لا سلبا ولا إيجابا. ونحن نتفهم طبعا، المطبات التي يمكن أن يجرهم إليها، التعبير عن مواقف واضحة من الموضوع. إذ سيجدون أنفسهم، كما ألمحنا أعلاه، في مواجهة مباشرين مع خصمين قويين:
– النظام: حيث أن التركيز على مفهوم العلمانية، يقتضي المطالبة بالسيادة المطلقة لأحكام الدستور، والقوانين المتمخضة عنه من جهة، وإقصاء كافة أنواع الشرعيات الأخرى التي يمكن أن تزاحمه، وعلى رأسها البيعة وإمارة المؤمنين. ولذلك نجد مثلا الأستاذ العروي يدعو إلى الحداثة في كل مناحي الحياة، لكنه حين يوشك على الاصطدام بمؤسسة إمارة المؤمنين، يفضل الانزياح عن نهجه الحداثي اتقاء الدخول في مواجهة مباشرة مع النظام، ولسان حاله يقول: إن كان ولا بد، فالنظام، على الأقل، سيضمن لنا حدا معقولا من التوازنات.
– حماة المعبد القديم: من سنيين وسلفيين، لا يتوانون في وسم العلمانية بالكفر، والتأكيد على أن الإسلام دين ودولة في آن. ونحن نتذكر أنهم أقاموا الدنيا، وأثاروا الكثير من الزوابع ضد مشروع قانون الأحوال الشخصية، زوابع لم يكبح جماحها إلا التدخل الشخصي للملك، بإقرار القانون سنة 2003. ونذكر أيضا أن أعتى الرافضين للقانون بلعوا ألسنتهم وصفقوا له بحرارة. لكنهم استمروا، لاحقا، في وضع العصا في عجلة التطور بنفس الحماس، إذ مازال الكثير من قضايا الأسرة والمجتمع حبيس المعبد القديم: تعدد الزوجات، زواج الصغيرة، المساواة في الإرث، العلاقات الرضائية، إثبات البنوة اعتمادا على الحمض النووي، حرية المعتقد…
هؤلاء قادرون على إلحاق أضرار بليغة، بكل الوسائل المتاحة، بكل من تشبث بفصل الدين عن الدولة، وعن التحرر من وصاية رجل الدين على حيوات الناس.
يتملكنا أحيانا الإحساس بضعف اطلاع الأساتذة على التراث الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالقرآن أو بالفقه والحديث والسنة. ونحن إذ نجازف بهذا الافتراض، لا نهدف إلى الانتقاص من عمق اطلاعهم أو سعة معرفتهم، لكن حين يتعلق الأمر بموروثنا الثقافي تحديدا، يبدو كما لو أنه لا يعنيهم إلا في جانبه المعرفي والسجالي وليس الأنطولوجي. طبعا ليس مطلوبا منهم أبدا، أن يكونوا قد ترعرعوا في وسط سلفي، لكي يعرفوا كيف يستحيل المرء إلى ظل لذاته، وكيف تسهم التربية الدينية الأصولية في قتل ملكات الإبداع وفي اختلال منظومة القيم (بالمعنى الكوني) لذى الأفراد. لكن حين يتعلق الأمر بمصائرنا جميعا على هذه الرقعة من الأرض، فقد يكون لزاما علينا، تحديد أفق واضح للتفكير المشترك في مصيرنا الجماعي، وفي شكل الدولة التي نريد، تلك الدولة التي توفر لكل المواطنين مكانا تحت الشمس، بقطع النظر عن دينهم أو جنسهم أو لون بشرتهم. باختصار، الدولة العلمانية.
لقراءة الجزء الأول: النخبة المثقفة بين الدين والدولة… أركون، الجابري، العروي وحميش 1/2
مراجع وهوامش:
(1) مفهوم الدولة، مفهوم العقل، مفهوم الحرية، مفهوم الإيديولوجيا…
(2) الطبعة الثانية 2007، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء
(3) المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 2009
(4) بتاريخ 07 دجنبر 2014 جريدة شعب بريس. رابط المحاضرة: https://altpresse.com/permalink/22465.html
(5) رابط الحوار: