العلاقة بين الشمال والجنوب في الهجرة والخطاب
إنسجاما والتاريخ الكولونيالي الذي يطبع علاقة الشمال بالجنوب، نجد دائما فكرة المركزية الأوروبية أو الغربية؛ فالبرلمان الأوروبي مثلا يعطي لنفسه كل الشرعية في مراقبة حقوق الإنسان في الجنوب، في حين تصدر منه قرارات تتنافى بشكل مطلق مع حقوق الإنسان غير الأوروبي.
يتجسد نظام الفصل العنصري في الجدار الفاصل بين المحتل والمحتل كنظام سلطوي مرئي؛ يمكن لأي من الطرفين أن يلحظ تواجده. إلا أن هذا الجدار لا يزول بعد زوال المحتل… إنه، وإن هدم من قبل الثوار المحررين لأرضهم، فهو ينبث في كل مكان.
الجدار اللامرئي “كالعشب” ينتشر فوق كل مكان، أما الجدار القديم فيمكننا أن نرمز له بـ “الشجرة” التي نقطعها أو نقتلعها من جذورها. الأهم هنا هو أن هذا العشب ينبث ليس فقط في الأرض المحتلة سابقا، بل يهاجر ويعبر البحر نحو الأرض التي يسكنها المحتلون السابقون… إنه يتجذر في عقولهم، وهو مرض يصيب النخبة المثقفة من باحثين وأكاديميين وصحفيين وغيرهم، يخال لهم أنهم الأحرار والمحررون. يخال لهم أنهم المنقذ والمسيح الذي يخلص الشعوب المقهورة في الجنوب من الأشرار. هم من سيحققون العدالة نظرا لإمكاناتهم في ممارسة الخطاب.
سلطة الخطاب لا مرئية وهذه طبيعتها. ولأنها كذلك، فهي تمارس قهرا رهيبا على سكان الجنوب. إنها مسرحية واحتفال بممارسة التعذيب وإعادة العلاقات التي تنتج هذا التعذيب في شكل عقوبة لها مكانها وزمنها، المتهم المفترض يسكن جنوب البحر والمنصبون أنفسهم محامون وقضاة هم سكان شمال البحر.
إن قاعة المحكمة لا يحاكم فيها فقط الأشخاص بل أيضا الفكر. سكان الشمال يملكون القاعة والكراسي، وبالتالي فهم يملكون الفضاء. التيمة التي يدور حولها هذا النقاش هو طبيعة الْمُستمٓع، أي الفضاء الذي يكون فيه الخطيب والمخاطب في علاقتهما بهذا الفضاء. ما هو معلوم أن الممارس للخطاب لابد وأن يمارس السلطة على الْمُستمِع. هذا ما يجعل كل إمكانية لتحرير الْمُستمٓع من الخطيب وهو أمر في غاية الصعوبة.
تعد قضايا الهجرة واحدة من القضايا التي تفرز لنا وجهات نظر متعددة على شكل تعبيرات اجتماعية وسياسية، بحيث أن كل وجهة نظر تدافع عن مصلحة جماعة أو فئة داخل مجتمع بأكمله دون إقصاء دور الفرد الفاعل كان مهاجرا أو ينتمي إلى المجتمع المدني أو السياسي.
هذه القضايا غالبا ما تفيض عنها العديد من البيانات الحقوقية والكتابات الصحفية والاستقصائية ثم البحوث الأكاديمية، من تحليل للوقائع والتأويل لأحداثها، سواء من لدن الفاعلين في منطقة جنوب البحر المتوسط بشكل عام أو الفاعلين الغربيين شمال البحر. بذلك، يكون من الضروري إقامة علاقة بين الجنوب والشمال، بين الفاعلين في المجال لتبادل الخبرات والتجارب والمعطيات.
إلا أن ما ينبغي أن يكون، يوجد على مسافة بعيدة مما هو كائن، فالعلاقة مع الجنوب تنبني على مبدأ الاستخراجية، ونعني بها الاستنزاف الشرس للمادة الخام – الوقائع- تم الانتاجات المكتوبة والمرئية، فيكون المهاجر هنا هو الموضوع لا الذات الفاعلة، مهما تلبس خطاب أهل الشمال بالدفاع عن الحق أو العدالة أو حتى جلباب التعاطف.
إنسجاما والتاريخ الكولونيالي الذي يطبع علاقة الشمال بالجنوب، تكون الترنسندنتالية جزءا لا يتجزء في هذه العلاقة والتي تحايثها فكرة المركزية الأوروبية أو الغربية، فالبرلمان الأوروبي مثلا يعطي لنفسه كل الشرعية في مراقبة حقوق الإنسان في الجنوب، في حين تصدر منه قرارات تتنافى بشكل مطلق مع حقوق الإنسان– غير الأوروبي –، بما هو إنسان؛ بحيث يصبح كل حق للإنسان الأوروبي بمثابة قهر للإنسان المهاجر والمقيم في أوروبا…
هذه الترنسندتالية أو التعالي بالمعنى البسيط للكلمة، تؤسس لمبدأ الاستخراجية، فيصبح الباحث في الجنوب مجرد آداة وتصبح العلاقة مع الغير علاقة تعيد إنتاج نفس علاقات المرحلة الكولونيالية… وعوض هدم جدار الفصل العنصري، يتم بناؤه كل مرة وترميمه كل لحظة، ليصير شائكا وأكثر علوا.
احسنت القول والنشر اخي شادي بخاري 👏