نزوح إلى رواية “نزوح” لحبيب عبد الرب سروري - Marayana - مرايانا
×
×

نزوح إلى رواية “نزوح” لحبيب عبد الرب سروري

“نزوح” رواية أدبية استباقية استشرافية تأملية، رواية أمل وتشاؤم معا، رواية عشق. رواية مكثفة علمية، شيقة، باذخة الجمال، تلتهمها بسرعة، وتحاول أن تسابق الأحرف لمعرفة مصائر أبطالها. رواية تستحق الاحتفاء في موضوع قل أن يُكتب بلغة الضاد.

محمد الشقاع
محمد الشقاع

حدثني حبيب عن «نزوح» (دار الساقي، 2024) عند قدومه إلى بريطانيا أثناء استضافة جامعة درم الأخيرة له في شهر يناير 2023 لمدة شهرين ونصف، لإقامة أدبية بحثية. رأيت البذور الأولى لرواية «نزوح» حينذاك، في صفحات وشخبطات، وأدركتُ إطارها العام قبل توديعي له في محطة قطار ايستون Euston بلندن، على فنجان قهوة، عندما قال:

– ستكون رواية مختلفة عما سبق، لأني سأكتبها في ظرف استثنائي طالما حلمتُ به.

كتبَها عند بدء تقاعده (أو بدقّة: تحوّلهِ إلى «بروفيسور متفرِّغ») في ربيع 2023 وبداية «ولادته الرابعة».

قسّم حبيب عبد الرب سروري حياته إلي أربع ولادات، وتمنى لو كانت ولادته الرابعة هي الأولى، لأنها الوحيدة التي تسمح له بالتفرّغ للكتابة، السفر، التأمل والتحرر من الروتين اليومي الرتيب (يمكن، في هذا الباب، مراجعة كتابه الأخير «الرواية مدرسة الحياة»).

اختيار الاسم كان موفقا بعد بدائل كثيرة جميلة، حيث يعيش الانسان في نزوح مستمر: مراحل عمره، المدن والبلدان التي يعيش فيها أو ينزح إليها، وحتى الأفكار التي يؤمن بها والقيم التي يتبناها. والنزوح يجسد معنى التغير وعدم التقوقع في الحياة. وهي سمة يتطلبها عصرنا الحديث.

«نزوح» رواية نزحت إلينا من فرنسا، بريطانيا، البرتغال وبيروت. وستسقر في بلدان شتى، وسنجد أنفسنا ننزح إليها ومعها!

طبقات الرواية:

تدور أحداث نزوح في ثلاث طبقات روائية: مركبتان فضائيّتان، اليمن (ممثّلةً بأرخبيل سقطرى) وعدن في سبعينيات القرن الماضي.

تبدأ الرواية بهذه الفقرة: “أيُّ بيتٍ من دون امرأة، كما يعرفُ الجميعُ، لا يُعوَّلُ عليه: لا مركزَ جغرافيّ له، ولا مركزَ ثقل! وأيّ مركبةٍ تغادر الأرض لِمهمّةٍ استيطانيّةٍ طويلةِ الأمد، إن كانت من دون أنثى، تتحوّلُ، رويداً رويداً، كما برهنَت تجاربُ رحلات الفضاء، إلى عرينِ مجانين مسعورين: ديوك يُعادي بعضُهم بعضاً، يكرهُهُ ويمقتُه. تضمُرُ أفئدتُهم وتتصحّرُ أرواحُهم، إثر مزيجٍ من قحطٍ موسيقيٍّ وتوتّرٍ نفسيٍّ وضغطٍ عصبيّ، يُضرِمُ تدريجياً عصبوناتِ أدمغتهم، يُكلِّس شُعيراتهم الدمويّة، ويقودُهم، يوماً بعد يوم، إلى الانكماشِ والخواءِ والتّهلُكة”.

وبتساؤلٍ بسيط:

“هل يمكن للإنسان المقيم في بيئةٍ سماويّة مستديمة، بعيداً عن الجاذبية الأرضية، أن يُناكِحَ ويضاجعَ ويُنجِبَ ويتكاثر؟”.
بعد أن حلق بنا سابقا في روايته الشيقة «تقرير الهدهد»، بصحبة إمام العقل أبو العلاء المعري، هاهو حبيب عبد الرب سروري يأخذنا في «نزوح» من جديد في عروج ثانٍ الى الفضاء، في رحلتين بسفينين فضائيتين متوازيتين، كل مركبة فضائية تضم خمسة رواد.

الرحلة الأولى، XxxX00F:

تدور في مركبة بيغاسوس (اسم الحصان الميثولوجي الإغريقي المجنّح). روادها الخمسة، 3 رجال وامرأتان، هم جلال، خولة، مانيارا، سباسكي وفيشر. مهمتها: امتحان قدرة الانسان على الحياة طويلا بعيد عن الأرض. ستستمر الرحلة لمدة سنتين. شعار الرحلة: «الطريق بحد ذاته هو الهدف وليس الوصول إلى المرفأ الأخير».

الرحلة الثانية Yyy4+1W:

تضمّ مركبة الرحلة الثانية أربع نساء ورجل: فيلسوفة، شاعرة، فيزيائية وعالمة أحياء، ورجل أطلقَ عليه اسم «النبي نون». اسمها: «رحلة العائلة السعيدة»، بعد زواج نون من رفيقاته الأربع. مُدّتها سنة ونصف. نون يريد العودة إلى الأرض بعد انتهائها، بعكس زوجاته.

متن الرواية:

لكل مركبة عالمها وقانونها الخاص الذي ينظم عملها والعلاقة بين طاقمها. فمثلا في «مركبة العائلة السعيدة»، بعد أن يتزوج نون من زميلاته الأربع، ينظمّون علاقة الزواج والطلاق وأيام المعاشرة الزوجية بمعونة الكمبيوتر الذي يطلق عليه «وادي عبقر». حفلات زواجهم تمرّ حسب طقوس الأديان السماوية الثلاثة، أمّا الرابع فهو زواج لا دينيّ مدني. شهود الزواج هم أنفسهم: كلّ زوجة شاهدة لزواج أخرى!…

المركبتان مرتبطتان بمركز إدارة وأبحاث في جزيرة سقطرى اليمنية المحمية الطبيعية التي لم تلوث الى الآن، آخر معقل الجمال، تاج اليمن وأجمل أرخبيل في العالم. يوجّه كل مركبة جهازُ الكمبيوتر «وادي عبقر»، آخر اختراعات الذكاء الصناعي (AI).

تدور أحداث الرواية في منتصف القرن الحادي والعشرين، وتُروي بلسان الراوي: حديبو، معتمدا فيها على مذكرات جدّه التي تركها له في فلاش يحتوي على ملفات يوميات هائل، في منتصف السبعينيات من القرن العشرين.

يقول حديبو: اليمن في زمن جدّي، تدهور رويدا رويدا، فتّتنه الحروب الدائمة، أمام تجاهل العالم وإهماله، الحروب المناطقية والطائفية والصراعات الدينية، السلطات السلالية والتيارات الظلامية، الديكتاتوريات القمعية الفاسدة، المليشيات المأجورة وصراعات القوى الاقليمية التي وجدت نموذجيا بالوكالة لتصفية حساباتها وتفجير حروبها.

ثمّ أصيب اليمن فعلا، في زمن الرواية، بالموت الدماغي.

يسرب حديبو إلينا أحداثا حقيقية ممتعة ومحزنة حصلت لجدّه، مثل سرقة محفظته التي تحتوي على صورة حبيبته، ومبلغ 4500 دولار اكتسبها من عمله الصيفيّ الشاقّ في البناء أثناء دراسته الجامعية، سُرقت منه إثناء انتظاره لاستلام تصريح سفر إلى شمال الوطن، وهو في أوّل إجازة صيف. ولك أن تتصور الحزن والغضب الذي ينتابك، ومدى تعاطفك معه عند فقدان رأسماله الكبير الذي نشل منه في غمضة عين، فكانت خسارتان مادية وعاطفية معا، أفسدتا فرحته وإجازته السنوية (صفحة 123)!

“نزوح” هي رحلة العمر بامتياز. رحلة شيقة وممتعة جدا مليئة بالمعلومات والأفكار، والسرد السلس والإثارة والسخرية من الأفكار العبثية، تجرّنا دوما إلى التعاطف مع أبطالها. لا تخلو صفحة من معلومة أو براعة في السرد أو فكاهة، ومن «شقاوة حبيب» وسخريته المعتادة، وتهكمه من أفكار وأحوال لا تسر، وهو يبث حزنه، همّه وحسرته على وطنه. فمثلا، يصف حال اليمن وما يشابها من دولنا العربية المغلوب على أمرها:

«الشعوب التي كانت تنجب، بأرقامٍ تجارية، كاليمن مثلاً، لم تعد تستطيع مواكبةَ الحضارة. تقلّصَ سكّانها حدّ الاندثار، بسبب صراعاتها وحروبِها الداخلية، تخلُّفِها المستفحل، وفتكِ الفقرِ بها، والأمراض المتشابكة والأوبئة (القديمة والجديدة) والبؤس والمجاعات…». (ص18).

ختاما:

عندما تقرأ «نزوح»، تشعر كما لو أنك تشاهد فيلما سينمائيا مكتظا بالحركة داخل المركبتين. أما الوصف لخارج المركبة، فهو مملوء بسحر وجمال الكون والكواكب التي يمر قربها.

تزدحم في الرواية الموسيقى والفلسفة والأفكار. عندما تقرأ ما يدور داخل المركبتين الفضائيتين من نقاشات، وعندما تتعرّف على قوانين تنظيم الحياة اليومية داخل المركبتين، ووصف المضاجعة الحميمية خارج الجاذبية الأرضية، وتساقط الدموع عند البكاء هناك، والاستحمام في الفضاء المطلَق…

الملاحظ في «نزوح»، وقبلها رواية «جزيرة المطفِّفين»، هموم وقلق وهلع مسيطر على فكر حبيب عبد الرب سروري، لما تعيشه البشرية من تغير في المناخ، الهجرة واللجوء، التجسّس الالكتروني والاضطرابات السياسية، جشع وتوحش الشركات الرأسمالية، تفكك الدول والتقوقع الذاتي للشعوب العربية.

“نزوح” رواية أدبية استباقية استشرافية تأملية، رواية أمل وتشاؤم معا، رواية عشق. رواية مكثفة علمية، شيقة، باذخة الجمال، تلتهمها بسرعة، وتحاول أن تسابق الأحرف لمعرفة مصائر أبطالها. رواية تستحق الاحتفاء في موضوع قل أن يُكتب بلغة الضاد.

استدراك:

أجمل الأشياء تلك التي تأتيك دون أن تتوقعها، وعلى حين غرة.

كانت مفاجأة مذهلة أن ترى اسمك على عمل أدبي راق، وكان لها أثر معنوي ومشاعر متضاربة، فالمعنى الحقيقي كبير وأثره النفسي بليغ.

العمل الإبداعي هو عصارة فكر، علم، خبرة وتجارب، وقطعة من روح مبدعة. اقتطاعه ومنحه للآخر لشيءٌ عظيمٌ فعلا. فالإهداء الأدبي هو أسمى درجات الاعتزاز والالفة والمحبة، هدية معنوية لا تضاهيها اي هدية مادية.

شكراً من الأعماق يا حبيب.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *