المهندسة المعمارية العالمية زها حديد… ملكةُ المنعطفات ومصممة المسرح الكبير في الرباطهذه حكاية المرأة العراقية التي صارت أشهر المهندسات المعماريات في العالم...
رحلت زها… لكنّ الحديدَ بعدُ يزهو في شتى أنحاء العالم بتصاميمها الفريدة التي تضمنته، مُشكّلةً منه بنايات معمارية لم يشهد التاريخ مثلها، شاهداً أنّ زها حديد لم تكن مجرد مهندسة معمارية، إنّما حسٌّ مرهفٌ فنان… على هيئة إنسان.
وصفتها صحيفة “النيويورك تايمز” الأمريكية بملكة المنعطفات، التي حررت الهندسة المعمارية وأعطتها هوية جديدة معبّرة بالكامل…
لم تكن تستسيغ البناء الكلاسيكي الذي يشبه السجون، وإذ هي كذلك، تفصح عن فلسفة حياة تجابه الكلاسيكي، تكسر الحواجز، وتحتضن العالم بعين فنان وروح ملهمة…
في هذا البورتريه، نتابع حكاية ابنة بغداد، زَها حديد، التي تعد اليوم إحدى أكثر الحكايات الملهمة للنساء، عربيا وعالميا.
رأت زَها حديد النور ببغداد في الـ31 من أكتوبر/تشرين الأول 1950. كان والدها، محمد حسين حديد، رجل أعمال ووزيرا في الحكومة العراقية، فيما كانت والدتها، وجيهة الصابونجي، فنانة.
نشأت زها في أسرة ثرية، وتلقت رعاية بالغة من أبويها وتشجيعا على الاهتمام بالتصميم والعمارة منذ نعومة أظافرها، إذ أبانت عن ذائقة جميلة وذكاء فطري حين عهدا إليها، وهي بعد طفلة، باختيار ديكور غرفتها الخاصة وغرفة استقبال الضيوف.
اقرأ أيضا: علي الوردي… ابن خلدون العراق!
لم يكن ذلك صدفة في الواقع… كانت زيارة مع أبويها في عمر السادسة إلى معرض في دار الأوبرا ببغداد، جعلتها تنبهر بالأشكال الهندسية التي رأتها فتسلل إليها هذا الحب للمعمار خفية.
كانت زها شغوفة بالمذهب التفكيكي الذي جاء ليواجه المألوف ويعلن التمرد ضد البناء الكلاسيكي.
غير أن تشجيع أبويها كان فاصلا في حياتها، إذ صرحت بعد ما صارته: “لم أشك يوما في أنني سأصير محترفة”.
درست زها المرحلة الثانوية ببغداد، ثم انتقلت إلى بيروت لتدرس في الجامعة الأمريكية، حيث حصلت على إجازة في الرياضيات عام 1971، قبل أن تسافر بعد عام إلى لندن حيث درست الهندسة المعمارية في كلية الجمعية المعمارية هناك، التي تخرجت فيها عام 1977.
يومها، قدمت زها؛ كمشروع تخرج، تصميما استوحته من الفن التجريدي الحديث، صدم الجميع بأشكاله الهندسية غير المنتظمة، غير المألوفة… ومع أن كل جديد عصي على القبول لأول وهلة، إلا أن الأمر بدا كمدرسة جديدة في المعمار قيد الإنشاء.
لم تكن مدرسة جديدة في الواقع، كانت زها شغوفة بالمذهب التفكيكي الذي جاء ليواجه المألوف ويعلن التمرد ضد البناء الكلاسيكي.
الناقد المعماري أندريس روبيو يصف مشاريع زها حديد على النحو التالي: “تشبه سفن الفضاء، التي تسبح دون تأثير الجاذبية في فضاء مترامي الأطراف، لا جزء عال فيها ولا منخفض، ولا وجه ولا ظهر، هي مبان تظهر وكأنها في حركة انسيابية في الفضاء المحيط”.
اقرأ أيضا: هذه 7 أسماء مغربية لمعت عالميا في مجال العلوم
قبل أن يذيع صيت زها كمهندسة معمارية، عملت لفترة باحثةً في قسم العمارة بالكلية التي درست بها في لندن. ثم، بدءا من 1987، أستاذة جامعية للتصميم والهندسة المعمارية في جامعات أوروبية وأمريكية ذائعة الصيت، كهارفارد وكولومبيا وشيكاغو…
تصدرت لائحة المفكرين في لائحة مجلة Time الأمريكية للشخصيات المائة الأكثر تأثير في العالم عام 2010.
دشنت زها مسارها المهني فور تخرجها، فعملت في مكتب العمارة الحضرية لمهندسَيْن اسمهما ريم كولهاس وإيليا زينجليس، في روتردام بهولندا…
كان هؤلاء أستاذاها في الكلية، ووصفها كولهاس حين كانت طالبة لديه بـ”الصاروخ الذي ينطلق ببطء قبل أن يرتفع في السماء ويأخذ مسارا متسارعا باستمرار”، مضيفا: “وها هي الآن كوكب في مدارها الخاص الذي لا يضاهيه أحد”.
ثم نهاية عام 1979، استقالت زها من المكتب، وأنشأت مكتبها المعماري الخاص في لندن باسم “Zaha Hadid Architects” إذ حصلت على الجنسية البريطانية… كان يومها غرفة صغيرة يشتغل فيها 4 أشخاص، ليضم اليوم عدة مبان، يشتغل فيها أزيد من 400 شخص.
تلك كانت الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، التي انتهت بتنفيذ نحو 950 مشروعا من تصميمها في 44 دولة بالعالم، من بينها المغرب، الذي قاربت فيه أشغال المسرح الكبير بالرباط، الذي صممته زها، من الانتهاء.
أما أول مشاريعها، فكان محطة فيترا للإطفاء بمدينة فيل إم راين بألمانيا، الذي تم إنجازه عام 1993، وتحول لاحقا إلى متحف.
حصلت زها، عام 2004، على جائزة “Pritzker” المعمارية… أرقى الجوائز المعمارية على الإطلاق.
هذا المشروع أعلن بداية شهرة زها… شهرة صدحت في الآفاق حين حققت نجاحا باهرا عام 1997، إذ فاز مشروعها في مسابقة لتصميم المبنى الجديد لمركز الفنون الحديثة بولاية أوهايو الأمريكية.
اقرأ أيضا: ماري كوري… المآسي لا تكبح الطريق إلى المجد!
كان مشروعها هذا الذي انتهت أشغال إنجازه عام 2003، مبتكرا، يتميز بالجدة، لم تعهد الولايات المتحدة مثله من قبل. كان أول مشاريعها هناك، واعتبرته صحيفة “النيويورك تايمز” من أهم المباني الأمريكية التي أنشئت منذ الحرب الباردة.
مشروعها هذا حصل على جائزتين مرموقتين، الأولى من المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين عام 2004، والثانية من متحف شيكاغو المعماري عام 2005.
أما عام 2004، فقد حصلت زها على جائزة “Pritzker” المعمارية… كان تتويجا باهرا استثنائيا؛ ذلك أنها أرقى الجوائز المعمارية على الإطلاق، تماما مثل جائزة نوبل في مجالات أخرى.
في آخر حياتها، كانت زها قد حصلت على ما يربو عن المائة جائزة ووسام… من بينها وسام الشرف البريطاني برتبة سيدة قائد، والميدالية الذهبية للتصميمات المعمارية، والوسام الإمبراطوري الياباني، وغيرها يفوق المائة كما قلنا.
في سيرة زها نحو 950 مشروعا من تصميمها في 44 دولة بالعالم من بينها المغرب.
زها كانت إحدى أكثر القصص الملهمة في العالم… جاءت في المرتبة الـ69 لأقوى النساء في العالم عام 2008 وفق Forbes، وتصدرت لائحة المفكرين في لائحة مجلة Time الأمريكية للشخصيات المائة الأكثر تأثير في العالم عام 2010.
اقرأ أيضا: فاطمة المرنيسي… أجنحة “واقع المرأة” الذي حلقت به إلى الحلم! 2/1
كانت أيضا واحدة من النساء المائة الأكثر تأثير في بريطانيا حسب BBC عام 2013. واحتلت المرتبة 21 لأكثر النساء العربيات تأثيرا عام 2015، في التصنيف الذي يجريه موقع Arabianbusiness.com.
ثم عن عمر يناهز 65 عاما، والعمر بعد يسمح بالتوهج أكثر، حدث أن ترجلت زها حديد عن صهوة الحياة والحلم على نحو مفاجئ، إذ كف قلبها عن النبض… كان ذلك في ميامي بالولايات المتحدة، في الـ31 من مارس/آذار 2016.
رحلت زها… لكن الحديد بعد يزهو في شتى أنحاء العالم بتصاميمها الفريدة التي تضمنته، مشكلة منه بنايات معمارية لم يشهد التاريخ مثلها، شاهدا أن زها لم تكن مجرد مهندسة معمارية، إنما حس مرهف فنان على هيئة إنسان.
بعض من تصاميم زها حديد:
العراق نبض العظماء على مر التاريخ