سائقو الحافلات: في كل مقعد قصة وداخل كل حافلة سائق يسرد حكاية - Marayana - مرايانا
×
×

سائقو الحافلات: في كل مقعد قصة وداخل كل حافلة سائق يسرد حكاية

أن تنطلق من مراكش مساء وتصل بني ملال ليلا، لتحط الرحال في الراشيدية في الصباح الباكر، فهذا معناه أنك عبرت ثلاث ثقافات… ثلاث مناطق لكل واحدة منها خصوصيتها. مرايانا رافقت الرحلة في منتصفها، انتظرنا با عروب في زاوية الشيخ، بعد أن قطع نصف المسافة، لنكمل معه السير، وينطلق في سرد تجربته في عالم الطرقات.

الحافلة… عالم يربط بين مدينة وأخرى، ثقافة وأخرى. تنقل شكوى الناس، أحزانهم وأفراحهم، غير أنه وراء كل حافلة، شخصية فريدة تجلس على كرسيه، حاملة مِقوده، تسير بين الطرقات…

إنه السائق الذي يشهد على قصص وحكايات، وبجانبه مساعده الذي لا يقل أهمية عنه، بل أحيانا، يفوقه مرتبة.

حياة السائق هي تذكرة ذهاب وإياب يوميا. رحلة متاعب مختلفة، تجربة يتعامل فيها السائق مع أصناف كثيرة من الناس، يخرج بكل رحلة من تجربة جديدة، يتجاوز مخاطر في انتظار يوم آخر يحمل له جديدا آخر.

سفر وتجارب عيش

مرايانا رافقت عبد السلام، وهو سائق مهني يعمل بخط الناظور بني ملال. يقطع عبد السلام مسافة 600 كيلومتر انطلاقا من الناظور، مروراً عبر كرسيف، واد أمليل، فاس ثم إفران وخنيفرة، عبر طريق الأطلس، وصولا لبني ملال. عبد السلام يحمل في قلبه فلسفة فريدة تعكس روح السفر، وتربط البلدان بخيوط الحكايات.

قد تبدو الرحلة من الريف إلى الأطلس المتوسط مجرد تنقل من جهة لأخرى، غير أنها رحلة، يعتبرها عبد السلام خلال حديثه لمرايانا، ببُعد فلسفي فريد. يمتلك عبد السلام حسب قوله فهمًا عميقًا لأهمية اللحظات التي يقضيها مع الناس، سواء كانوا يجتمعون في الحافلة أو حين يروون قصصهم وأمانيهم.

يروي عبد السلام العديد من الحكايات التي يعيشها مع ركابه، حكايات حزينة وأخرى بطعم ُفرح، وأحيانا بتفاصيل لحظات صعبة ومؤلمة. يؤمن السائق أن السفر يتجاوز مجرد وسيلة للانتقال، بل هو فرصة للتواصل والتفاعل بين الأفراد من خلفيات مختلفة.

يقول عبد السلام: “مع كل رحلة أقوم بها، أفتح بابًا جديدًا للمغامرة. أعرف أسماء الركاب الأوفياء والدائمين، أسأل عن أحوالهم وعائلاتهم، أومن بأن السفر يجمعُ الأشخاص ويخلق روابط اجتماعية، كما أومن أن السفر ليس تجربة فردية، بل هو تجربة عيش جماعية”.

يروي لنا عبد السلام أنه، من خلال سماع قصص الآخرين، والتعرف على تجاربهم، يتعلم الكثير عن الحياة والتنوع والتعايش. يرى السائق في السفر واختراق الطرقات جسرًا للتفاهم العابر للثقافات الداخلية والتعرف على الآخرين.

من الريف إلى الأطلس: تذكرة وجودية

يترك عبد السلام الناظور على الساعة السادسة بعد الزوال، وتصل حافلته بني ملال صباحاً، مشيرا إلى أنه ليس مجرد زمن، بل هو زمن وجودي ينطلق من الريف ويعبر فاس مخترقا طُرقات الأطلس حيث أنغام رويشة. بين هذا وذاك محطات رئيسية وثانوية، ينزل ركاب ويصعد آخرون… لكل منهم رحلة وسبب دفعه للسفر.

يقول عبد السلام، الذي خبر طرقات الريف والأطلس لسنوات، إنه تخلى عن مهنته السابقة لأنه يعشق سياقة الحافلة، فقد سبق وقاد عربات في طُرقات الصحراء ومداشرها، ومشيرا إلى مهنته السابقة حيث كان عسكريا أحيل على تقاعد نسبي.

بعد إقلاع الحافلة، تتبدل المشاهد خارج النوافذ. القرى الصغيرة على طول الطريق، محطات الاستراحة، الدخان الكثيف للشواء بواد أمليل، أسوار فاس، أشجار الأرز بين إفران وأزرو. لا يمكن العبور على واد أمليل دون أن يتوقف السائق للعشاء في إحدى مقاهي المدينة المعروفة بالشواء.

يقول عبد السلام إنه يعرف طرقات ومنعرجات الأطلس وأسماءها، كما يعرف العاملين بالمحطات، ويؤكد أن عالم الطرقات عالم صعب فريد، غير أن عالم الطرقات بالليل محفوف بالمخاطر. يسوق حافلته الليل كلَّه، وفي الصباح يتجه للنوم وأخذ قسط من الراحلة استعدادا لرحلة ثانية تنطلق من بني ملال عودة للناظور.

يصاحب عبد السلام مُساعده يونس الذي يجلس بجانبه، يتنقل بين الركاب يتفقد الأماكن الشاغرة، يتصل بالعاملين في المحطات القادمة ليعرف المسافرين والركاب، يقوم يونس بجرد تذاكر السفر ومراقبتها لمطابقتها مع وثيقة الجرد التي تحمل نفس الأرقام، يراقب حالة الحافلة، يساعد في السياقة أحيانا… يونس في الحقيقة هو المشرف على الرحلة، دوره أهم من دور السائق أحيانا.

يقول عبد السلام إنه يتعامل مع الطرق الجبلية الضيقة والمنعرجات الصعبة، بمنتهى الدقة. يواجه تضاريس صعبة وتحديات غير متوقعة، مثل الأمطار الغزيرة والثلوج الكثيفة التي تعوق الرؤية وتجعل الطرق زلقة. يتحدى عبد السلام هذه المصاعب بشجاعة وحكمة، حيث يتعامل معها بحذر واحترافية عالية لضمان سلامة الركاب.

حافلة الزمن الجميل

غير بعيد عن رحلة الناظور بني ملال، سلكت مرايانا رحلة أخرى من بني ملال إلى مدينة الراشيدية بالجنوب الشرقي. حافلة لها عالمها الخاص، يقودها عرُّوب ومعه مساعده أحمد. خلال هاته الرحلة تصبح الطرقات مسرحًا يعكس الحياة بكل تنوعها.

أن تنطلق من مراكش مساء وتصل بني ملال ليلا، لتحط الرحال في الراشيدية في الصباح الباكر، فهذا معناه أنك عبرت ثلاث ثقافات… ثلاث مناطق لكل واحدة منها خصوصيتها. مرايانا رافقت الرحلة في منتصفها، انتظرنا با عروب في زاوية الشيخ، بعد أن قطع نصف المسافة، لنكمل معه السير، وينطلق في سرد تجربته في عالم الطرقات.

الحافلة التي يقودها عروب تشبه الحافلات القديمة؛ لا مكيفات ولا كراسي مريحة. هي حافلة تنتمي لجيل الحافلات “الصامدة” التي تقاوم في الطرقات، نافدة عليا تظل مفتوحة تُدخل الهواء. إذا ما رفعت رأسك نحو الأعلى، تجد عبارة حافظوا على نظافة حافلتكم غير أن العبارة، كما النظافة، كما الحافلة، بدأت تتآكل هي الأخرى.

تنطلق هاته الحافلة من مراكش إلى الراشيدية عبر بني ملال، وتسلك هي الأخرى طريقا صعبا انطلاقا من مراكش، مروراً عبر بني ملال، ثم وَاوْمَانةْ وسيدي يَحْيَى أُوسَعْدْ، ثم زَايْدَة عبر الطريق الوطنية رقم 13، وصولا إلى الراشيدية.

عروب، خلال استضافة مرايانا في حافلته المتواضعة، والتي يبدو عليها أنها أنهكها الزمن كما هو الحال بالنسبة لتقاسيم وجه السائق الأمازيغي الذي لا تفارقه أغاني حادة أوعكي و إيطو تمهاوشت. قبل أن يتحدث، قرر أن يُطرب مسامعنا بخالدة حادة أوعكي “إيمطاون” (الدموع).

يقول عروب إنه بدأ الاشتغال في الحافلات منذ أن كان يبلغ من العمر 19 سنة. اشتغل مساعدا لسائقين، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ثم بدأ يتدرج شيئا فشيئا، ومع مرور الوقت واكتساب التجربة، اكتسب خبرات متعددة في الطرقات، إلى أن حصل على رخصة سياقة الحافلة وباقي الرخص الأخرى، وصار سائقا مهنيا في سن مبكرة.

مخاطر وقصص عالقة

يورد المتحدث أنه جرَّب كل العربات… شاحنات كبيرة ومتوسطة، واشتغل في سياقة الشاحنات لمدة طويلة، إلا أن شغفه كان هو الحافلات التي تعلم فيها مبادئه الأولى. بالنسبة له، رحلة واحدة تعني درسا، في كل إياب يكتشف عروب أشياءَ جديدة، وعند كل عودة… يعود محملاً بما رآه خلال الرحلة.

رحلة الراشيدية لا تخلو من المخاطر، فالطرق الوعرة بين بني ملال والراشيدية عبر ميدلت، رحلة صعبة، طرق لا تصلح حتى للمشي، وبقايا مسالك لا زالت تقاوم النسيان، ففي المغرب العميق حسب عروب، طرقات لا يمكن أن تعبرها إلا بحذر شديد.

مسار عروب لا يخلو من الأحزان… يحكي أنه خبر العابرين على هذا الخط، يعرف بعضهم من يرافقونه باستمرار. إلى جانب نقل الناس، هو ينقل تجاربهم، وينقل أفراحهم وأحزانهم. يحكي أنه خلال سنة 2014، توفي أحد المسافرين في الطريق، ويتذكر كيف أن الكل وقف مصدوما من هذا الحادث المفاجئ، بينما هو ظل صامتا يتأمل مسار الرجل الذي كتب له أن يغادر حياتنا داخل حافلته.

بين خطَّي الناظور والريصاني، حكايات مليئة بالتحديات والمشاعر المتضاربة. بين عروب وعبد السلام قواسم كثيرة… مقود الحافلة، الراديو أنيس السائقين، وأحاديث الركاب الذين يتقاسمون بعض حكاياتهم مع السائق.

يُجمع السائقان على أن الحافلة كتاب يحمل قصص وحكايات، وفي كل مقعد قصة. قد تشترك بعض المقاعد مع أخرى، وقد يتقاسمون الأحاديث الصغيرة التي تكون مدخلا لتقاسم الأفراح أو الأحزان… وربما الضحكات والدموع.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *