الهوية: عن الفرد والجماعة في الثقافة العربية – الإسلامية - Marayana - مرايانا
×
×

الهوية: عن الفرد والجماعة في الثقافة العربية – الإسلامية

محاولة ربط التخلف العربي-الإسلامي بأزمة هووية، هو في حقيقة الأمر هروب ماكر للبحث عن معنى الهوية الفردية والجماعية في الحضارة العربية-الإسلامية، واقتصار على فكرة أن الجميع خاضع لبعد هووي واحد هو الأمة الاسلامية المتخيلة، دون أخذ بعين الاعتبار لكون الدين ليس هو المحدد الهووي الواحد للفرد، بل هو جزء لا يتجزأ من العديد من الهويات التي تنتمي إليها الذات، وتميزها عن باقي الذوات الأخرى.
كل هذا يجعل النظر في التخلف كأزمة هووية هو اتكاء غبي وعدم تقبل المستوى الواقعي الذي تعيشه هذه البلدان اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا

يقول سقراط في (ما بعد الميتافيزيقيا): “إن الهوية تقال على معان عدة”1.

عندما نضع أنفسنا في قبلة الهوية، نجد العديد من الإجابات والتعاريف والتداولات اليومية حول هذا المفهوم، بحيث أصبح فضفاضا، وقادرا على احتواء أي اضطراب أو مشكل اجتماعي، تحت مبرر “أزمة الهوية”؛ حتى أصبح تخلف العرب هو نتاج أزمة حقيقية في هويتهم العربية-الإسلامية.

لابد، في البداية، أن نقف على المفهوم وبشكل جدي، بعيدا عما ترسمه معالم الصحف والتداولات اليومية لهذا المفهوم. لهذا، سوف نحاول أن نجيب عن سؤالين متعلقين بالهوية: ماهي هوية الأنا والنحن؟ ومن يحتوي وينتج الآخر داخل الثقافة العربية؟ وهل نحن بالفعل أمام أزمة هوية؟

حاول نوربت الياس وهو عالم اجتماع ألماني، أن يفسر ويفهم تاريخ الحضارات من خلال دراسة لثنائية هوية الأنا-والنحن (حيث يمكن تعريف هوية الأنا بكونها مجموع التصورات الذاتية التي تميز الشخص عن الآخرين. أما هوية النحن، فهي تلك القيم والمبادئ والتصورات الوجودية التي تحملها الجماعة على نفسها). استنتج نوربت الياس أن تاريخ الحضارات يتمثل دائما في الصراع بين هاتين الهويتين، حيث تنتصر هوية النحن في العصر البدائي، وتمثل هوية الأنا المركز الأساسي للهوية في العصر الحديث. رغم ذلك، لا ينفي الياس حضور الهوية الذاتية في العصور البدائية أو القديمة. بل أن وجودها ضعيف جدا في التأثير والفعل، عكس العصر الحالي الذي برزت فيه الفردانية والحرية الذاتية. كما أنه لا ينفي اختفاء هوية النحن، بل أنها لاتزال حاضرة، لكن في صور ضعيفة. بالتالي، فمقاربة نوربت الياس تؤكد أن هوية الأنا-والنحن في تفاعل مستمر عبر سيرورة التأثير والتأثر2.

في سياق مختلف، تعتبر الفلسفة الجماعية أن الفرد هو نتاج الجماعة، وأن هوية الأنا، دائما وليدة هوية النحن، الذي ينتمي إليها. أي أن الأنا هو نتاج وتابع سلبي لهوية النحن. هوية الجماعة هي التي ترسم معالم الهوية الذاتية وتقودها، حيث تعبر الذات عن نفسها من خلال الانتماء لهوية دينية أو قومية أو عرقية…

هذا الطرح يقر به العديد من السوسيولوجيين الكلاسيكيين مثل دوركايم (الأنا نتاج للنحن عن طريق التنشئة الاجتماعية) وكارل ماركس (الانتماء الطبقي). لكن أمارتيا صن يرفض هذا الطرح في كتابة (الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي)، حيث يبرر أن الهوية هي هويات في الحقيقة، فلا يمكن أن نأخذ من بين هوية واحدة ينتمي إليها الفرد هويته الشاملة. بالنسبة له، فإن “الشخص نفسه يمكن أن يكون بدون تناقض، مواطنا أمريكيا، من أصل كاريبي، وينحدر من أسلاف أفارقة، ومسيحيا، ولبراليا، وامرأة أو رجلا، ونباتيا، وعداء للمسافات الطويلة، ومؤرخا، ومعلما، وروائيا، ومناصرا لقضية المرأة…”3. صن هنا يدعوا إلى الايمان بوجود هويات متعدد لدى الفرد، ولا يمكن أن نعتبر أن هوية واحدة هي هويته الوحيدة الشخصية، بل أن كل هوية تبرز وتظهر من خلال سياقات تموضع الشخص فقط، بينما جميع الهويات تلعب دورا مهم عند الشخص في السياق الذي يحتويها.

لابد للإشارة، هنا، أن الهوية ليست ثابتة عبر الزمن، أي الهوية ليست هي الشيء في ذاته، كما فهمته الفلسفات اليونانية أو الاغريقية، وليس كما ترجمه العرب، باعتباره يحمل المعنى ذاته؛ لأن الهوية في الأصل العربي نابعة من ترجمة لمصطلح يوناني identitatis، يتعلق بالموجودات في وجودها هي بالذات، أي الشيء هو ذاته وليس غير4. في هذا السياق، كيف كانت تفهم الهوية في الثقافة العربية-الإسلامية؟ هل كهوية للأنا أم كهوية للنحن؟

يقر العديد من الباحثين بغياب الذات الفردية في المشهد الثقافي العربي-الإسلام، فالأنا مستلبة من طرف هوية النحن وقوة الجماعة، حيث الفرد أو التفكير الفردي، كان يحمل في طياته العديد من التمثلات القبيحة، والتي ترتبط بالدين. هذا الأمر كان يعطيها هالة قوية تؤثر في محاولة جعل الأنا مركز التفكير، وتعطيها بعدها الهوياتي، أي هوية ذاتية خصوصيتها، بعيدة عن تأثيرات الجماعة. الجماعة المتمثلة في الأمة العربية-الإسلامية المتخيلة، تحتوي جميع مناحي الحياة الفرد! بل أن المسلم الفرد لا يجب أن يخرج عن دائرة الجماعة. هذا الخروج يعتبر زندقة، بل وإن حديثا منسوبا للرسول، جاء فيه: “من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فميتته ميتة جاهلية).

إن هذه الاطروحة التي تنفي الهوية الذاتية أو وجود الفرد في الثقافة العربية-الإسلامية، لهي مبالغة في طرحها. على سبيل المثال، إذا كانت الهوية هي بناء ناتج عن علاقة ثنائية بين ذاتية الفرد وما يتلقاه من الجماعة، حيث كل فرد ينطلق من نفسه ومن الجماعة التي ينتمي إليها، ليخلق أفق هوويا خاصا به يميزه عن الجميع، فداخل الجماعة المسلمة نجد العديد من الهويات الطائفية المتعدد داخل هذا البعد الهووي الكلي: السنة الشيعة، الصوفية، المعتزلة..”. من خلال هذه الطوائف أو الجماعات الصغيرة المرتبطة والمختلفة نوعا ما عن الهوية الكلية (الأمة الإسلامية المتخيلة)، فالفرد هو مرتبط بالجماعة ومنتمي اليها، لكنها لا تمثل هويته الكلية، بل إن له هويات متعددة تمثل فيه الهوية الدينية جزء لا يتجزأ من مجموعة من الهويات المتعددة التي ينتمي إليها. لهذا، فالأنا لا يمكن أن تنفى تحت أي شكل من أشكال، إو التعميم المفرط لأطروحة الفلسفة الجماعية. أي أن الأنا نتاج للنحن بشكل مطلق، بل أن الأنا والنحن دائما في أفق علاقة تأثير وتأثر، كما أن الهوية الجماعية تؤثر على الهوية الذاتية بالقدر الذي تؤثر به الهوية الذاتية على الهوية الجماعية.

لهذا، فالأطروحات التي تنفي وجود الفرد أو حضور الفرد بمعناه الحديث في الثقافة العربية-الإسلامية، هي قاصرة غير قادرة على فهم التعدد والاختلاف الذي يبرز في الواقع، فالفرد في الثقافة العربية-الإسلامية لم يكن أبدا نتاجا مطلقا للجماعة الدينية، بل في أي عصر كان دائما في تفاعل مستمر مع الجماعة وهويتها الذاتية. لهذا، برز الاختلاف والتعدد والتطور… على سبيل المثال، فإن المسلم في المغرب ليس هو نفسه المسلم في السعودية، أي لا نتحدث عن الهوية بالمعنى الفردي، بل نتحدث عن هويات تكون فيها الذاتية جزءً فاعلا، وليس تابعا سلبيا.

لهذا، فالمخيال الغربي نحو الإنسان المسلم، هو نظرة قاصرة عن طبيعة المسلم نفسه، وأفق محاولة ربط الإسلام بالتطرف (الإسلام-فوبيا) أو محاولة ربطه بالتسامح أيضا، لهو أفق سياسي محض، وليس له علاقة بمحاولة فهم المسلم في تعدده واختلافه، بعيدا عن النظرة التعميمية لأطروحة الفلسفة الجماعية.

إن محاولة ربط التخلف العربي-الإسلامي بأزمة هووية، هو في حقيقة الأمر هروب ماكر للبحث عن معنى الهوية الفردية والجماعية في الحضارة العربية-الإسلامية (كيف تتمثل ثنائية الأنا والنحن في هذه الحضارة)، واقتصار على فكرة أن الجميع خاضع لبعد هووي واحد هو الأمة الاسلامية المتخيلة، دون أخذ بعين الاعتبار لكون الدين ليس هو المحدد الهووي الواحد للفرد، بل هو جزء لا يتجزأ من العديد من الهويات التي تنتمي إليها الذات، وتميزها عن باقي الذوات الأخرى. كل هذا يجعل النظر في التخلف كأزمة هووية هو اتكاء غبي وعدم تقبل المستوى الواقعي الذي تعيشه هذه البلدان اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. كما يقول مصطفى حجازي: “المجتمع المتخلف، مجتمع تقليدي جامد، متوجه نحو الماضي”5. بمعنى أن فكرة أزمة الهوية توحي بكون الهوية العربية-الإسلامية ثابتة جامدة، ونموذجها الأعظم ماضٍ مقدس تلاشى قبل مئات السنين.

 

المراجع:

  1. فتحي المسكيني، الهوية والزمان: تأويلات فينومولوجيا لمسألة <النحن>، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2001، ص(5).
  2. نوربرت الياس، مجتمع الافراد، ترجمة (هاني صالح)، دار الحوار، ط1، 2014، ص187
  3. امارتيا صن،الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي، ترجمة (سحر توفيق)، عالم المعرفة، 2008، ص(8).
  4. عزمي بشارة، تأملات في مسألة الهوية، مجلة تبين، العدد 41، 2022.
  5. حجازي مصطفى، التخلف الاجتماعي: مدخل الى سيكولوجية الانسان المقهور، المركز الثقافي العربي، ط9، 2005، ص 104.
تعليقات

  1. عمر

    “كل هذا يجعل النظر في التخلف كأزمة هووية هو اتكاء —غبي— وعدم تقبل المستوى الواقعي الذي تعيشه هذه البلدان اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا”
    للأسف هذا أغبى مقال قرأته في موقعكم المحترم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *