من الولايات المتحدة الأمريكية، محمد سعيد يكتب: هل للموت والقتل هوية؟
لا تبرير للقتل إلا إذا كنتم مقتنعين في أعماقكم بأن هؤلاء المدنيين والصحفيين يستحقون القتل، وهذا يعني أنكم مشروع لقتلة
هل للموت والقتل هوية؟
قد يبدو هذا السؤال ساذجا للوهلة الأولى، لكن السر الأساسي من طرحه، هو: هل نتذكر الموت؟ لماذا نموت؟
بين هذه الأسئلة وأخرى عديدة نقول من حيث لا ندري، إن الموت والقتل نقيض الحياة والعكس صحيح. فحوى هذا السر هو أن الحياة لن نكن لنحس بها لولا وجود الموت. إن الحياة هي التي تقتل نفسها بهذا المعنى لتتحول لموت ما، وإلا فلماذا نقتل الآخر كي نحيا نحن عَلى أنقاضه؟ قد يكون هذا القتل رمزيا مثلما يكون ماديا، وهو ما يحصل في الحروب، فالحرب بغزة المحاصرة مثلاً من كل جانب توضح ذلك، حيث يصبح المنطق الحاكم هو: أقتل خصمك يضمن لنفسك استمرارا في الحياة؟ أهو ما يؤسس لحياة جديدة على حساب موت الآخر؟
إذا كان الأمر “لا تقتل” في البدء من الوصايا العشر، فكيف نقتل؟ كيف يمكن للإنسان أن يظهر الشر الذي فيه بوسيلة أخرى أخبث من القتل؟
إذا سرقت، فإنك تحرم المسروق من حقه في الاستفادة من كده وتعبه. إذا استعبدت، فإنك تحرم المستعبد من حقه في الحرية، وإذا أهنت، فإنك تحرم المهان من حقه في الكرامة… أما إذا قتلت، فإنك تحرم الإنسان من حقه في الوجود الذي هو أساس كل حق أخر، فتبا لمن أشعل نار الفتنة والقتل من أول يوم على وجه هذه البسيطة ولم يترك للحب والإيخاء مكانا بين البشر! أو لم يكن حريا بالبشرية أن تعيش في سلام وهدوء تامين، وعوض أن نتباغض ونتناحر نتراحم فيما بيننا، ونجعل من المودة والمحبة بساطا لنا نمشي عليه حفاة لا نخال الشوك ولا جلاميد الصخر؟، أليس بالإمكان أن يستفيق البشر وينفلت من قبضة الشر؟
ليس هناك سبيل لرغد العيش ولراحة البال سوى التآخي وتبادل المحبة والتراحم، فكفانا تفرقة وكفانا تلاسنا وتقاتلا ولنقطع الطريق أمام من يريد شرا بنا! فإن وراء كل هذا الشر أياد خفية تغديه من تحقيدنا على بعضنا
فما معنى القتل؟ ما معنى أن تقتل إنسانا؟
الإقدام على قتل إنسان هو فعل رهيب، ليس فقط لأن القانون يعاقب عليه، وليس فقط لأنه يحرم إنسانا من حقه في الحياة، وليس فقط لأنه كبيرة من الكبائر، وليس فقط لأنه يجعل أحباء المقتول يحزنون على قتله، فكل هذه التفسيرات تحتاج لتفسير أعمق وأشمل وأرسخ، فالشخص الإنساني ليس مجرد وجود يظهر ثم يختفي، كما يظهر القمر ثم يختفي، بل هو كينونة “تُفقد ثم تُفتدى”” losable but redeemable فما نسميه في حياتنا اليومية “رغبة في البقاء” ليس مجرد غريزة تميز الكائنات الحية، بل إن مفهوم الرغبة نفسه يقتضي أن هناك “مرغوبا فيه”، أي شيئا ذا قيمة غير قابلة للاختزال irreducible value… قيمة متعلقة بوجود الشيء محايتة له ترفرف حوله hovering around it كروح لطيفة تُحييه وتَحيا فيه.
القتل هو الفعل الذي يوصل الشخص الإنساني إلى شاطئ الفقدان، حيث يَهْبِل الإنسان وجوده / قيمته، الهبل، هو فقدان ما له قيمة، لذلك سُمي هابيل المقتول بهذا الاسم، ولذلك نقول “هبلتك أمك” أي “ثكلتك”، ولذلك نسمي الجنون “هبلا”، لأن المجنون يفقد أثمن ما يملك، أي عقله.
فعندما نصل إلى شاطئ الفقدان، فإننا ننُوح، “النواح” ليس بكاءً، بل هو تعبير رمزي بالجسد الإنساني عن رفضنا اليائس لفقدان المرثي، لن ننوح على المفقود بل سنبتسم وسنستمر في مقاومة القَتَلَ.
إن القتل لا مبرر له، فالذين يتلكؤون في تبرير القتل والإرهاب، والذين يجدون قتل المدنيين والصحافيين مبرراً دينياً وايديولوجيا وسياسياً هم قتلة بالنيابة، إذ تبريرهم للقتل هو موافقة ضمنية لما يقع بغزة، فلا تبرير للقتل إلا إذا كنتم مقتنعين في أعماقكم بأن هؤلاء المدنيين والصحافيين يستحقون القتل، وهذا يعني أنكم مشروع لقتلة.
القتل لا مبرر له سواء بأرض فلسطين أو العراق أو سوريا، القتلة هم مجرمون من صنف واحد ولو تعددت مذاهبهم ومعتقداتهم الدينية والمادية.