سعيدة المنبهي: “تذكروني بفرح” 2/2
“تذكروني بفرح، فأنا وإن كان جسدي بين القضبان الموحشة فإن روحي العاتية مخترقة لأسوار السجن العالية وبواباته الموصدة وأصفاده وسياط الجلادين الذين أهدوني إلى الموت. أما جراحي، فباسمة، محلقة بحرية، بحب متناه، تضحية فريدة، وبذل مستميت”.
تطرقنا في الجزء الأول من هذا البورتريه إلى نشأة سعيدة المنبهي، وعرفنا أنها ترعرعت في أسرة مناضلة تشربت منها المبادئ التي دافعت عنها فيما بعد…
فما الطريق الذي سلكته سعيدة المنبهي لتترجم مبادئها إلى واقع؟ إلى أي حد ذهبت في سبيل الدفاع عن مبادئها؟ ما كانت نهاية حكايتها؟ وكيف استطاعت بالشعر أن توثق تاريخ محنتها؟ أسئلة نجيب عنها في الجزء الثاني من هذا البورتريه.
ماتت في سبيل مبادئها
قاد النضال السري في منظمة إلى الأمام جل نشطائها إلى المعتقل السري درب مولاي الشريف بالدار البيضاء. سعيدة المنبهي كانت واحدة منهم. بمعية ثلاث مناضلات بالمنظمة، “اختطفن” يوم 16 يناير 1976، وتمت قيادتهن إلى درب مولاي الشريف، ثم مكثن هناك لثلاثة أشهر حسب بعض الشهادات، تعرضن خلالها لأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، ثم نقلن بعد ذلك إلى السجن المدني بالدار البيضاء.
اقرأ أيضا: التمييز بين الجنسين… فروق شاسعة يحاول القانون حظرها بينما يكرسها المجتمع! 2/1
حُكم على سعيدة المنبهي بخمس سنوات حبسا نافذة بتهمة الضلوع في أنشطة معادية للدولة، إضافة إلى سنتين بتهمة الإساءة للقضاء الجالس. أثناء محاكمتها، لم تتوان عن الدفاع عن حق تقرير المصير، كما أدانت الوضع المأساوي للمرأة في المغرب.
كتابة الشعر لم تكن فعلا تفريغيا بالنسبة لسعيدة، بل أكثر من ذلك بكثير، فهو في عينيها، تأريخ للمرحلة.
تروي والدة سعيدة المنبهي، عن فترة حبس ابنتها: “خلال زياراتي لها بالسجن، كانت سعيدة تردد رغم كل الحواجز المفروضة، إنني هنا يا أمي من أجل العيش الكريم لشعبي. إن معنوياتي عالية باستمرار. إن المستقبل لضحايا الاضطهاد الطبقي والاستبداد السياسي. إنني لا أخاف القمع. إنني أؤمن بقضيتي، قضية كل الجماهير”.
بعد مجموعة من “المعارك النضالية”، خرجت منها سالمة، دخلت سعيدة المنبهي مع رفاقها في إضراب غير محدود عن الطعام، في 8 نونبر 1977، وذلك للاعتراف بهم كمعتقلين سياسيين وأيضا لتحسين ظروف سجنهم وفك العزلة عنهم.
هذا الإضراب بلغ جهد جسد سعيدة المنبهي فيه، 34 يوما، وبعد ذلك لم يعد قادرا على التحمل أكثر، فنقلت إلى مستشفى ابن رشد في الدار البيضاء في 11 دجنبر 1977. كان اليوم يتزامن مع عيد الأضحى، وبسبب الإهمال، انسل الموت إلى سعيدة المنبهي، لتفارق الحياة في عمر الزهور، عن سن لا يربو عن 25 ربيعا.
تاريخ المحنة… يوثقه الشعر أيضا
يقول الأديب المغربي عبد اللطيف اللعبي عن تجربة سعيدة المنبهي في كتابة الشعر: “بدأت سعيدة تكتب الشعر بأظافرها على حائط الزنزانة. كان ذلك في سنة 1976 بالسجن المدني بالبيضاء. كانت تكتب ولا تنقح لأنها لم تكن تفكر في أضواء الشهرة ولا في المخبرين وجواسيس اللغة”.
اقرأ أيضا: مليكة الفاسي… المرأة الوحيدة الموقعة على عريضة المطالبة بالاستقلال 2/1
كتابة الشعر لم تكن فعلا تفريغيا بالنسبة لسعيدة، بل أكثر من ذلك بكثير، فهو في عينيها، تأريخ للمرحلة. يضيف عبد اللطيف اللعبي في تقديمه لأشعار سعيدة، بعدما قام بترجمتها إلى العربية، ونشرها بمجلة البديل سنة 1982:
“كانت تؤرخ المحنة العادية وتفتح قلبها على مصراعيه للطيور المطاردة، للأطفال الموشومين بالفاجعة، للنساء الثكالى اللواتي جردهن الاستغلال والقهر من أثداء العطاء، لرفيق العمر المفصول عنها بكيلومترات الأسوار والعسس، للأنجم المسافرة من قلعة منفى على طول وعرض الوطن الكبير”.
كتبت سعيدة مجموعة من المقالات عالجت فيها مواضيع إنسانية واجتماعية، مثل مقالها الشهير “حول العاهرات بالمغرب”، والذي تناولت فيه شهادات سجينات عن وضعهن المأساوي كبائعات للجنس.
بجانب ذلك، لم تستطع فترة السجن التي قضتها سعيدة أن تنسيها هموم وقضايا شعبها، إنما دخلت في علاقات مع سجناء وسجينات، استطاعت من خلال استجوابهم، ووفاءً لدربها النضالي، كتابة مجموعة من المقالات تعالج فيها مواضيع إنسانية واجتماعية، مثل مقالها الشهير “حول العاهرات بالمغرب”، والذي تناولت فيه شهادات سجينات عن وضعهن المأساوي كبائعات للجنس.
ترى الباحثة في العلوم السياسية، هند عروب[1]، أن للحب حضور ملفت على مدار قصائد سعيدة ورسائلها، فبه قاومت وتماسكت إلى أن رحلت. فحبها لعائلتها فردا فردا، كان متفجرا في الرسائل وتفاصيل أحاديث هذه الرسائل.
اقرأ أيضا: خناثة بنونة وآمنة اللوه: هؤلاء 6 نساء بصمن تاريخ الكتابة الأدبية في المغرب 1\3
أما عن رسائل سعيدة لعائلتها، تقول عروب: “لا ننكر أن دور العائلة جلي في مد جسور الرسالة، الشيء الوحيد الذي يصبر المعتقلين ويشد أزرهم. كانت سعيدة تتحدث مع أخواتها عن كيفية تربية الأولاد ومعاملتهم، عن ذكرياتها مع إخوتها ووالديها، عن أحوالها داخل السجن، حنينها واشتياقها لتقبيلهم. والجميل في رسائلها أنها هي من كانت تطمئنهم عليها”.
كلما حلت ذكرى رحيل سعيدة المنبهي، ظل اسمها يتردد في آذان وقلوب وعلى لسان رفاقها الذين لم ينسوها… كيف لا، وهكذا تكلمت سعيدة، قبل رحيلها:
“تذكروني بفرح، فأنا وإن كان جسدي بين القضبان الموحشة فإن روحي العاتية مخترقة لأسوار السجن العالية وبواباته الموصدة وأصفاده وسياط الجلادين الذين أهدوني إلى الموت. أما جراحي، فباسمة، محلقة بحرية، بحب متناه، تضحية فريدة، وبذل مستميت”.
[1] مؤسسة “مركز هيباتيا الإسكندرية للتفكير والدراسات”.
لقراءة الجزء الأول: سعيدة المنبهي… ثورية لم يقتلها الموت 2/1
المنبهي ياليتها يا ليتها ناضلت لله وباسم كتاب الله … هي فقط ناضلت باسم افكار دنيوية خالصة… نسأل الله لها الرحمة.