الطنجية المراكشية: “بنت الرّماد” التي أنجبها ذكر
الطنجية ليست وجبة وفقط، وليست طبقا فحسب…
هي بناء ثقافي مهمّ داخل النظام الأنثروبولوجي المغربي. ليس عبثاً أن تصبح الطنجية أكلة عالمية، وتنتقل إلى المطاعم المصنفة، أو أن تصير ضمن اهتمام العديد من المطاعم حول العالم، وليس في المغرب فقط.
قد يبدو السؤال بلا أيّة قيمة لو سألت مُرَّاكشيا مثلاً: هل سبق وأكلت الطنجية؟ لربما هذا السؤال قد يجرحُ كيانا ينتمي إلى رقعة جغرافية، إلى خصوصية سوسيوثقافية، وإلى أنساق اجتماعية وعادات لصيقة بالأرض الحمراء: مراكش.
هنا، تبرز قيمة الحكاية، فالطنجية ليست وجبة وفقط، وليست طبقا فحسب، بل هي بناء ثقافي مهمّ داخل النظام الأنثروبولوجي المغربي. ليس عبثاً أن تصبح الطنجية أكلة عالمية، وتنتقل إلى المطاعم المصنفة، أو أن تصير ضمن اهتمام العديد من المطاعم حول العالم، وليس في المغرب فقط.
من الجانب البديهيّ، يعتبر لفيفٌ من المراكشيّين أنّ تسمية “الطّنجية”، هي على غرار “الطّاجين”، ترتبطُ بالآنية الخزفيّة التي تعدّ فيها الأكلة. هذه الآنية تصنع عند الحرفيين التّقليديين بمنطقة تمصلوحت المُتاخمة لمراكش. لكنّ المراكشيين يطلقون اسم “القلوشة” على هذا “الوعاء” الطينيّ الذي تُطبخُ داخله وجبة الطنجية.
روائح الطنجية في الذات
يسرا المغاري، صحافيّة من أصول مراكشية، ترى أنّ الطّنجية هي أكبر من أن تكون وجبة تسدّ الجوع أو أكلة تحتفي بالغذاء فقط، بل هي لغة ونسق يتقاسمه كلّ المراكشيين بالخصوص. فهي علامة على وجدان وانتماء وتقاليد وجزء عميق من الذات والتاريخ. لكلّ المدن رموزها، والطنجية من بين أبرز التعابير الفصيحة عن الذات المراكشية وتوهّجها أمام الآخر الزّائر، سواء كان مغربيا أو أجنبيّا”.
المغاري، في حديثها إلى مرايانا عن عمليّة تحضير الطنجية، تقول إنها “تستدعي قدراً من الجديّة والجهد”، معتبرةً أنّ “عمليّة الطّهي وعملية الأكل تحتّم على بعض العائلات المراكشيّة العريقة أن تراعي بعض الطقوس، فسيرورة التّحضير مثلاً تفرض الحرص على اقتناء لحم طريّ وتوفير توابل بجودة عالية، إضافة إلى الليمون (الحامض المصير) والسمن وزيت الزيتون”. ثمّ في عملية التقديم، تضيف يسرا، فإنّ العائلة تحرص على تناول هذا الطبق مصحوبا بموسيقى مراكشية محلية على غرار “التقيتيقات” أو “الدقة المراكشية”، إلخ. كل هذا للحفاظ على رمزية الطبق وطقوسه”.
أمّا فوزيّة، وهي ربة بيت مراكشية، فهي تعتبر أنّ “اللّمة حول الطنجية داخل بيوت العائلات المراكشية، تقدم نسقا مخالفا للحياة المعاصرة، حيث كل فرد من العائلة يتناول وجبته وحيداً”، مشيرةً أنّ “الطنجية تمكنت من الحفاظ على جو اللحمة والتضامن من خلال اعتبارها الشكل الأسمى للكرم المراكشيّ. عندما تحلّ ضيفا عند عائلة من مراكش أو حتى عند شخص قطن لمدة بمراكش، فلن يبذل جهدا في التفكير في أيّ طريقة سيكرمك بها كضيف، لأنه يعي أنّ لا شيء يفوق قيمة الطنجية في التعبير الثقافي المراكشي في علاقته بالكرم”.
فوزيّة، الخمسينيّة، توضح أيضا بأنّه “عادة الطنجية لا تحتوي على خضر، وإنما اللحم فقط، ويضيف إلى ذلك بعض المراكشيين العدس أو الفاصوليا البيضاء أو الحمص، لكن يبقى الأساسيّ فيها هو اللّحم، ويمكنُ أن يكون مصحوباً بالقطاني، كما أنّ الطنجية تطورت في العقود الأخيرة، وأصبحت تتضمن لحم الدجاج أيضا، أو وجبة أرجل العجل (الكرعين).
في البدء يوجد الجزار
نتواصل مع رشيد، وهو جزار بدوار الهناء بتاسلطانت مدينة مراكش، الذي يضطر أحيانا، حسب وفرة الطلب، إلى تحضير ما يزيد عن 20 طنجية في اليوم الواحد، مبينا أنّ “الكمّ لم يفقد يوما القيمة التي تتميز بها الطنجية التي أعدّ بالمنطقة، وهو ما جعلها تنافسية بمراكش، وفي منطقة تاسلطانت على وجه التحديد. ما نقوم به يعكس احتراما كبيرا لصورتنا في تصور الآخر، ونتمنى دائما أن يجد الزوار ضالتهم في ما نقدمه لهم”.
رشيد يعيدنا إلى حين كان عمره 16 سنة، حين تعلم تهييء الطنجية. يقول: “تعلمتُ تحضير الطنجية منذ صغري. كنت حينها أشتغل مساعدا لجزار بسوق القواس بحي المحاميد. كنتُ حينها أحثّ الأصدقاء في سني على أن يتعاونوا ويجمعوا ثمن الطنجية، ويأتون لي. كنت أتعلم من هذه الطريقة في البداية، حتى صرتُ محترفا وبدأ الجزار يوكل لي تلك المهمة رغم صعوبتها. إذ، لو كان هناك أيّ خطأ، فإن المحلّ يغامرُ بعلاقته مع الزبون. لكني توفّقت مرارا وتعلمتُ كيف أحضرها بشكل يعكس لذة الطنجية الحقيقية.
بالنسبة لرشيد، فإنّ التنافس مشروع بين جزار وآخر في مجال “صناعة” الطنجية، مشيراً أنه لا أحد يقبل أن يتراجع أداؤه في تحضيرها، حتى أنني ألحّ على نجلي أن يتعلمها كلما جاء إلى المحلّ في الصيف، لأنها إرث، ينبغي أن يكبر الصغار وهم مدركين أن الطنجية جزء من هويتهم، من وجودهم المراكشيّ. إنها تقاليدنا، وهكذا سنضمن استمراراً لقيمنا وأعرافنا، ونضمن استمرار تاريخنا وتاريخ أجدادنا”.
من ناحية أخرى، يجدُ الحاج مصطفى، حرفي مراكشي، أنّه “رغم أنّ التقاليد ربطت وجود المرأة في المطبخ، فإنّ الطنجيّة معروف أنّ الرجل يتفوق كثيراً في إعدادها، ومعروف أيضا أنه لا يمكن لأي كان أن يتطاول أو يتجرأ على طبخها دون مراس ودربة ومعرفة كافية”. كما يواصلُ المتحدث أنّه “لاحظنا مؤخرا اجتهاد مناطق أخرى من المغرب في إعداد الطنجية، لكنه اجتهاد مردود بما أنّه كلما حاولت إخراج الطنجية من محيطها الثقافي، تفقد ذلك التوهج القيميّ”.
الذي يودّ قوله الحاج مصطفى، هو أنّه لا يعترض على من يحاول أن يجعل الثقافة المراكشية تمتدّ إلى ثقافته. لكن، عليه أن يحافظ على ذات الجهد الذي يبذل في مهدها مراكش، لأنه حين تحضرها في مراكش فالكلّ يعرف كيف يتصرف، حتى صاحب الفرناتشي، حيث تُطهى في الغالب”.
لذلك، يختم المتحدث، “كلما أظهر لي أبنائي شريطا متداولا في هذه المواقع الافتراضية الجديدة لشخص يحاول صناعة الطنجية في مكان آخر، إلا ولاحظوا أنّ تعليقات مراكشيين تستنكر وتستهجن، ليس رغبة، مثلاً، في تسييج ثقافتهم أو منع الآخر منها، وإنما حرصا على احترامها ومراعاة شعور ساكنتها”.
أصلُ اللحم في “الطّين“
محمد القنور، كاتب إعلامي وباحث في التراث المغربي المادي واللامادّي، يرى أنّه من الناحية المبدئية، تعدّ الطنجية وجبة أو طبقا مراكشيا بامتياز، وذكوريا أيضا.
القنور، في تصريحه لمرايانا، يقول إنّ “الطنجية في الأصل كان يعدّها الذكور. لكن، طبعا، هذا لم يمنع أن تدخل النساء إلى “محراب” الطنجية وتتفوّقن فيه أيضا في العقود الأخيرة”، مشيراً أنّه “من الناحية التاريخية، كان إعدادها حكرا على الذكور، وخصوصا الصناع التقليديين الذين “ابتدعوا” هذا الطبق في الأصل؛ لاسيما داخل سوق السّمارين المعروف بمراكش. كانت هذه الأكلة في بداياتها أكلة شعبية خالصة، لم ترتبط بالنخبة أو بالطّبقات الميسورة”.
القنور يضيفُ أنّه، في أواخر القرن التاسع عشر حيث ظهرت الطنجية، لم “يُعرف بها التّجار الذين كانوا يعودون لمنازلهم لتناول وجبة الغذاء، ولم يعرف بها الفلاح الذي كان قريبا من بيته دائما، ولكن عُرف بها الحرفي الذي لم يكن يجد وقتا للعودة إلى منزله. حينها، كان الحرفيون يبحثون في إيجاد صيغ للغذاء غير مكلفة، فاهتدى الصانعُ المراكشيّ القديم إلى اختراع “الطنجية”، التي كان يتناولها في دكانه.
تشير القراءات الأنثروبولوجية أنّ الصّانع التقليدي كان يتجول بين جزار وآخر، وكلّ منهم يناوله قطعة صغيرة من اللحم مجاناً، وما أكد هذه القراءة، أنّ اللحوم المتواجدة داخل الطنجية، لم تشكل كتلة موحدة مثلا أو قطعة متماسكة، وإنما كانت عبارة عن قطع صغيرة.
هنا، يوضح الباحث في التراث المغربي المادي واللامادي أنّ الصانع “كان يجمع تلك القطع ويضيف إليها التوابل والزعفران والليمون المخلل والسمن البلدي إن توفّر، وتتم الاستعاضة عنه بزيت الزّيتون أحيانا. ثمّ يأخذها للفرناتشي، أي الجناح المكلف بتسخين مياه الحمامات المغربية الشعبية “.
هكذا، يتم طهيها على مهل فوق جمر “الفرناتشي”. لكن هذه العملية كانت مجانية حينئذ، لأن القيّم على الفرناتشي، كان يعتبر الأمر مقضيا بالطنجية أو بدونها، بمعنى أنّ الجمر متوفر أصلاً، ووضع الطنجية لا يغير من الأمر شيئا ولا يكلف الفرناتشي شيئا بالتّبعة. لذلك لم يرد في الروايات أنّ الحرفي القديم كان يدفع مقابلاً لطهي طنجيته فوق ذلك الرماد، ومنه يطلق على الطنجية “بنت الرماد”. مع الإشارة أنّ الطهي قد يستغرق ليلة كاملة أو نصف يوم.
يجمل القنور بأنّ الطنجية تطورت حتى تمكنت من الخروج من أيدي الصانع التقليدي، ودخلت للبيوت، كما خضعت فيما بعد للعلاقات التبادلية، حتى صارت العلامة المميّزة للمطبخ المرّاكشي عن جدارة. لكنها في الأصل تعكس رسالة قوية للتضامن بين الجزار والصانع التقليدي، كما تعكس التضامن بين الحرفي والبقّال وصاحب الفرناتشي.