التنمية الذاتية في المغرب… رهاناتُ التحفيز التي حولها مدرّبون إلى شعوذة
لم يعد “صادماً” أن نرى عروضا لدورات في التنمية الذاتية تتجول بكلّ أريحية وحرية في جدارات حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن…
ما الحاجة اليوم إلى ما يسمى “التنمية الذاتية”؟ هل فهمناها جيداً؟ هل هي حقا شعوذة مغلّفة، أم أننا تورطنا في الأحكام المسبقة التي تعتبرها مجرد ثرثرة بلا جدوى، كما نرى اليوم في تعليقات الفيسبوك وغيرها؟
مساءلة التنمية الذاتية عملية مركّبة، تحتاج إلى خلفية أكاديمية ومعرفية لمعاينة السبب الأصل لوجود هذا المجال، وأيضا، يحتاج إلى مساءلة موضوعية، لاستيعاب كيف يقوم “مدربو” التنمية الذاتية بنقل “الخبرات” التي هم مطالبون بنقلها؛ والأساسيّ في كلّ هذا هو استحضار علم النفس، لفهم الحدود الفاصلة، بين أن تكون مدربا، وأن تكون أخصائيا نفسيا… وهو الفرق الذي يجهله معظم المدربون، بحيث صاروا يعتبرون أنفسهم معالجين:
عامري: الدّخلاء هم السبب
يقول الكاتب في التّنمية الذّاتية مهدي عامري، إنّه لو تأملنا تعريف التنمية الذاتية، فإننا سنعرف أنها ليست سوى تجميعاً لتجارب النجاح في مجموعة من المجالات كالتفوق الدراسي والأعمال واللياقة البدنية، إلخ…
بالتالي، هي تهدفُ من خلال ذلك، وفق عامري، إلى توجيه بعض النّصائح والتّوجيهات للمتلقّي. لكن، تجارب النجاح ليست قابلة للتّعميم، وهي ليست وصفات سحرية، بمعنى أنها غير قابلة لأن تؤدي لذات النتائج مع كل من يجربها، غير أن الأساسي فيها هو روح التّحفيز والإلهام.
حسب ما يقوله عامري لمرايانا، فإنّ التنمية الذاتية ليست علما، وإنما توليفا لمجموعة من المدارس والتخصصات، بحيث تنهل من علم النفس وعلم الاجتماع والميتافيزيقا والفلسفة واللاّهوت والأديان. وقد بدأ الاهتمام بها في بداية سبعينيات القرن الماضي، عندما ظهر في الولايات المتحدة الأمريكية ما يعرف بالبرمجة اللغوية الذاتية PN، التي تهتم بتحسين التواصل ونمذجة وتعميم تجارب النجاح وجعلها قابلة للاستلهام.
بالنسبة لعامري، فإنّ المُشكل الذي حدثَ أنّه، في السّنوات الأخيرة، ظهر زخم من “المدربين” الذين ساهموا في أن تفقد التّنمية الذاتية بريقها وسحرها وتصبح، في تصور عامة الناس، مرادفاً للشّعوذة والثرثرة وبيع الأوهام. لكن، يقول المتحدث، علينا أن لا ننزلق مع هذه الرؤى التي أصبحت تحاكم التنمية الذاتية من منظور سطحي، وإنما ينبغي النظر إلى هذا المجال انطلاقا من نتائجه. هؤلاء المدربون الذين تلقوا تدريبا في أسبوع أو اثنين ويعتقدون أنهم بقدرة قادر أصبحوا “مدربين”، هم نقطة سوداء في سجلّ ممارسة التنمية الذاتية بالمغرب.
يضيف عامري متحسراً، بأن هؤلاء صاروا يرددون جملاً لا تمت للمنطق بصلة من قبيل: “كن ناجحا في دقائق”، “حقق أحلامك في أسابيع”… وبهذه العبارات الساذجة والبسيطة، والبعيدة عن الواقع يعطون الانطباع أن التنمية الذاتية، هي بمثابة المفتاح السحري، الذي يفتح جميع الأبواب.
لكن، يوضح المتحدث، لو تأملنا عمق التنمية الذاتية، فهي تقدم فقط حلولاً ونصائحاً، نابعة من الروح الإيجابية والتفاؤل والإقبال على الحياة والتغيير الإيجابي، إلخ. التّنمية الذاتيّة الحقيقيّة بعيدة عن الثّرثرة وعن كلّ الأوصاف السّلبية التي أُلصقت بها، ولها نتائج رائعة سواء من الناحية الشخصية أو المهنية أو الأكاديمية. فكثيرون أقلعوا عن التدخين والكحوليات بعد حلقات من التّحفيز. وآخرون تخلصوا من الوزن الزائد أيضاً. إنّ التنمية الذاتية هي تخصص بأهداف نبيلة، يتنصر لكلّ ما هو نافع وإيجابي، ويناهض كل ما هو هدّام وسلبي.
الشنتوف: مجال حمّال أوجه
محمد الشنتوف، صحافي ومدرب سابق في التنمية الذاتية يقول إنه تلقى تكوينا في المجال سنة 2014، وصار بموجبه مدربا في التنمية الذاتية. لكن هدفه، حسب تصريحه، كان يرتبط بتقوية قدراته وليس بالعمل في المجال. ولكنه خلص في النهاية بعد الممارسة أنّ هذا المجال حمّال أوجه، ويجمع بين ما هو إيجابي وسلبي في ذات الآن هنا بالمغرب.
الوجه الأول الذي يقدمه الشنتوف في حديثه لمرايانا، هو أنّ “هذا المجال يمكن أن يكون موطنا للنصب والاحتيال من طرف أشخاص يستغلون الظروف النفسية لبعض الناس، ويلعبون على الجانب المؤلم لكي يقتاتوا منه، بدون أدنى معايير إنسانية”.
أمّا الوجه الثاني، حسب المتحدث، فهو أنّ مجال التنمية الذاتية هو موطن كذلك لمن يريد أن يطور نفسه، وبالتالي، هنا تلعب غاية ونية من يتوجه لهذا النوع من التكوينات، أو لنقل المرافقة النفسية والاجتماعية في ثوب التنمية الذاتية. أي أنك، عندما تتوجه لهذا المجال، يكون المطروح، خياران: هل تريد أن تقوّم سلوكا معينا وحالة نفسية تعاني منها؟ أم أنك تريد أن تصبح مدربا في التنمية الذاتية؟
في الحالة الأولى، يقول الشنتوف، ما تنفقه في الدورة التكوينية هو استثمار في نفسك، مع الاستعانة بالقراءة وبمجالات أخرى لكي تفهم أكثر تفاصيل سلوكك ودوافعه.
يعدّ الاستماع دوراً من الأدوار التي يقوم بها المدرب في التنمية الذاتية، لكن المدرب السابق في التنمية الذاتية، يؤكد أن تقويم السلوك والحالة النفسية له حدود معينة، يمكن التعامل مع إحداها بالتنمية الذاتية في حين تحتاج أخرى لتدخل الاخصائي النفسي، وبعضها لتدخّل الطّبيب النفسي.
يختم الشنتوف قائلاً بأنّ التّنمية الذاتية فعلا مجال يمكن أن يساعد الإنسان على التغيير نحو الأفضل، ومفهوم التغيير هنا يرتبط بمتغيرات ترتبط بالشخص، وطبيعة مشاكله… هل هي نفسية أم اجتماعية ام دينية أو مادية أو في المجال العملي أم في المجال الأسري إلخ، ولا يمكن أن ننكر ما يمكن أن يحققه مدربو التنمية الذاتية مع بعض الحالات، إلا أن المشكل يتجلى في عدم قبول بعضهم وتسليمهم بأنّ هناك حدودا لتدخلاتهم.
بنزاكور: أدوار جد محدودة
حين طرحنا الأمر على الأخصائي في علم النفس الاجتماعي، محسن بنزاكور، ارتأى أنه علينا أولاً أن نستحضر الأسس العلمية. “حين نتحدث عن مفهوم الذات، بمفهوم علم النفس والمفهوم الفلسفي، فنحن نتحدث عن الشخصية في أبعادها النفسيّة والاجتماعيّة والمعرفيّة الإدراكيّة وأيضا العلائقيّة، أو ما نسمّيه بالأبعاد المركزة لبناء الذات “.
بالتالي، يقول بنزاكور، تنمية الذات تحتاج إلى تفكيك هذه الأبعاد، مع الإشارة إلى كون بناء الذات لا يتوقف في مرحلة عمرية معينة، فهو يمتد منذ اكتشاف الرضيع لأصابعه حتى نهاية الحياة، لأننا نحتاج أن نتأقلم مع أمرين، مع النمو الذاتي ومع ظروف المجتمع.
هذه التوطئة، يودّ بنزاكور أن يؤكد من خلالها أنّ أدوار مؤطري التنمية الذاتية جد محدودة، لأن استيعاب طبيعة تكوين الذات الإنسانية، يحتاج تكويناً علميا من أربع سنوات، على الأقل، لفهمها والقدرة على تفكيكها وإدراك عمقها حتى لا نسقط في السّذاجة ونخطئ في حقّ الإنسان.
هنا، يودّ المتحدث أن يستدعي تساؤلاً يراوده منذ مدة: كيف تحول مصطلح “التنمية” الذي هو مصطلح اقتصادي، إلى مفهوم يروم بناء الإنسان؟ وهل يمكن أن نقحمهما معا في بعد يتجاوز مفهوم التنمية؟ لأنه في الأصل، نعرف أنّ الذات الإنسانية هي حقيقة موضوعية، نقويها ونبنيها، نزيد من مهاراتها وكفاءتها، لكن ما المقصود بتنميتها؟
الإشكال الثاني، وفق بنزاكور، هو هذا الذي يقوم بهذا الفعل، أي الذي يعتبر نفسه مدرباً في التّنمية الذّاتية، فيفترض أن يكون قد قضى سنتين في الجامعة كتكوين، ويشتغل وفق مبدأ أنه لديه تجربة في مجال معين، فيكتسب بيداغوجيا ومهارات لإيصال تلك التجربة للآخرين لتحفيزهم.
الذي يود بنزاكور قوله، إنّ الشخص يمكنه أن يتحول إلى مدرب في اختصاص واحد فقط: الشركات، الأسرة، الحياة العامة، إلخ… لكن ليس في كل الاختصاصات كما نرى اليوم. بمعنى أن يجب أن يكون قضى أكثر من 20 سنة في مجال ما كتجربة، ثم يحصل على تكوين من سنتين لكي يتوفر على الجانب البيداغوجي المتعلق بالإلقاء والتكوين والمتابعة.
لكن، يقول الأخصائي في علم النفس الاجتماعي، أن الملاحظ هو أن معظم من يمارسون عملهم كمدربين تنتفي فيهم هذه الشروط، وبالتالي يظل السؤال متعلقا بالتأهيل القانوني، لماذا لازالت الدولة المغربية متلكئة ومترددة في جانب تقنين عمل من يعتبرون أنفسهم مدربين في التنمية الذاتية؟ وأيضا، من يراقب هؤلاء ومن يقدم لهم رخصا لممارسة “عملهم” كمدربين”؟ لأنه فعلا علينا أن نتساءل عن الحالات التي تتبعها هؤلاء؟ ما مصيرها؟
يضيف بنزاكور بأنه، حتى إحصائيا، ليست لدينا معطيات دقيقة يمكن أن نفهم بها وجود وحجم ظاهرة “خبراء التنمية الذاتية”. هي منتشرة بشكل خطير ويطرح الكثير من التساؤلات، كما يفترض أن يتم التفكير في تقنينها وتأطيرها، مادامت قد انتشرت بهذا الشكل الكبير.