من مونتريال ـ كندا. عمر لبشيريت يكتب: الهجرة التي ظلت تلاحقني، وتهرب مني
تعاش الهجرة عندما تتعرض للعنصرية والميز والاحتقار أيضا. لكنني لم أتعرض لها قط، عدا مرة واحدة، لكنني ضحكت فعلا حينها، لأن الذي صدرت عنه إيطالي!!. قال لي: عد إلى بلدك.
ضحكت طويلا من أعماق قلبي. فتفاجأ لردة فعلي قبل أن أجيبه بكل هدوء:
يجب علينا أن نعود نحن الإثنين إلى بلدينا. لكن أن نعود كما وصلنا إلى كندا، نحن عبر طائرة البوينغ وأنتم عبر الباخرات التي حملتكم من بؤس صقلية الى مدينة هاليفاكس بالساحل الشرقي الكندي، كما صور ذلك المخرج فرانسيس فورد كوبولا، في مشهد وصول الطفل “كورليون” الى ميناء نيويورك في رائعة “العراب”…
مرت ست سنوات على تواجدي (أو هجرتي) بمونتريال، بإقليم الكيبك الكندي. بتعبير “أهل الكيبك”: مرت ست شتاءات. لأن التحقيب هنا يحسب بعدد الشتاءات التي استطعت الصمود والعيش فيها. بمعنى أن التحقيب يحمل معنى الإنجاز، وليس الهدر…
كانت الهجرة تقترب مني وتهرب عدة مرات. كانت قدرا يجب أن أجربه، لكن بعد أن يحين وقته، مثل نبوءة.
غازلتني الهجرة، وأنا لم أخرج بعد إلى حيز الوجود، حين كنت لا أزال في العدم، ثم ابتعدت. كان والدي عبدالسلام لبشيريت، رحمه الله، قد قرر مغادرة المغرب اتجاه فرنسا للالتحاق بصديقه الأمازيغي.
استخرج جواز سفر (مازلت أحتفظ به وحملته معي الى كندا لأحقق أمنيته)، وشرع في الاستعداد للهجرة والمغادرة. غير أن السيدة “سوزان الحرار”، المغربية اليهودية، ابنة مدينة الصويرة، التي كان يساعدها في أعمال التجارة، ظلت تلاحقه، الى أن أقنعته بالعدول عن السفر.
الهجرة والغربة كانت تعاش عندما كان البريد و”التنبر” متسيدا، وكان الوسيلة الوحيدة للأخبار. وعندما كان يتم السهر حتى الصباح لأن أحد المغاربة عاد من “لبلاد” وحمل معه أسطوانة أو شريطا لعبد الوهاب الدكالي أو ناس الغيوان أو فاطنة بنت الحسين أو الرايس محمد الدمسيري…
كان مقررا أن يلتحق بصديقه هناك في فرنسا، سنة 1965. أي أنني كنت سأولد، بعد ذلك، “زماگريا” أصيلا ابن عامل مهاجر من دمنات. وكنت سأكتب في الفايسبوك لألعن كل من سخر أو سب اللاعب حكيم زياش ورفاقه “الزماگرية” في المنتخب… لكن ضاعت الفرصة مني وأخلف القدر…
مرت سنوات وأصبح هذا “الزماگري” المؤجل، شابا يمرح ويجوب أزقة درب ميلان (حتى اسم الحي الذي ولدت فيه عنوان للهجرة، كونه يحمل اسم مهاجر أوروبي إلى المغرب في بداية القرن 20)… ثم التحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك بالدارالبيضاء، ليقرر ذات صيف أن يسافر رفقة اثنين من “ولاد درب ميلان” الذين يدرسون معه بالكلية، الى إنجلترا…
إقرأ أيضا: فاروق سلوم من السويد يكتب: أوهام الهجرة والاندماج. بداوة عربية في أرض المهجر
سافرنا عبر القطار مرورا بإسبانيا ثم فرنسا، ودخلنا لندن ذات صباح يوم غائم… طبعا، لم نسافر لأجل السياحة. كنا ننوي البحث عن عمل وجمع ما تيسر من الجنيه الاسترليني والعودة إلى مدرجات الدراسة بالكلية، وفي نيتنا أن “نسخر” من أصدقائنا وزملائنا الطلبة الذين ينتظرون المنحة الجامعية (البئيسة والفقيرة)..
غير أنني غيرت رأيي بإيعاز من مهاجرة مغربية، كانت زميلتي في المطعم الإيطالي الذي اشتغلت به، التي أقنعتني بالبقاء في لندن والبحث عن فرصة للدراسة…
لكن، كان القدر ينتظرني مرة أخرى بإحدى زوايا حديقة لندنية ذات مساء من شهر غشت.
أوقفتنا دورية للشرطة للاشتباه فينا، فتأكدت من سلامة تأشيراتنا، لكنها عثرت معنا على ورقة استخلاص الأجر، وهو ما كان ممنوعا علينا، لأننا نحمل تأشيرة سياحية… فكان مصيرنا الإبعاد صوب المغرب لأننا خرقنا القانون…
ضاعت مرة أخرى فرصة أن أصبح “زماگريا” من عشاق الأرسنال…
غادرت عاصمة الضباب وعدت إلى شمس الدارالبيضاء، إلى أن اشتد عودي وعزمت على الزواج. فعادت الهجرة مرة أخرى للتربص بي، حيث فاتحتني زوجتي أمينة (قبل الزواج) أنها بصدد تهييء ملف للهجرة الى كندا.
“إله الهجرة” لم يسقطني من مفكرته ولم يشطب علي من لائحته. فقد كان صبورا معي وظل ينتظرني حتى “نرطاب على خاطري”… لقد انتظرني قبل ولادتي وظل يتعقبني ويمهلني ويختبرني حتى يتحقق من استحقاقي للانضمام الى منتخبه الوطني “للزماكرية”… إلى أن كان له ذلك، وتيقن من جدارتي لحمل لواء جنوده ورسالته. فطوح بي يوم 4 أكتوبر 2013 إلى الديار الكندية…
رفضت الفكرة، إذ كنت في عز نشاطي النضالي بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكنت أعتبر عيبا أن “نهرب” ونترك شعبنا وأحلامنا النضالية…
طردت جبة “الزماگري” هذه المرة عن اقتناع، وعاكست قدري (هذه المرة بقرار مني)…
لكن الهجرة ظلت تلاحقني وتطاردني، كما لو أنه قد كتب علي أن أصبح “زماگريا” قسرا. فقد ساقها القدر إلي، هذه المرة، بشكل مختلف، حيث كلفت بجريدة “الاتحاد الاشتراكي” في بداية الألفية الثانية، سنة 2003، بالإشراف على ملحق أسبوعي خاص بالهجرة والمهاجرين المغاربة بمختلف قارات العالم… وهو الأول من نوعه في الصحافة المغربية، حينها.
إقرأ أيضا: من كندا، نبيل جميل سليمان يكتب: في الغربة: احتدام الخلاف والعنف الأسري والطلاق
استأنست بالمهاجرين وبالهجرة وسافرت إليهم وتعاطفت مع مشاكلهم وخبرت معاناتهم وعرفت تنظيماتهم. وكان أنني لم أعد أفكر أن أصير مثلهم..
لكن “إله الهجرة” لم يسقطني من مفكرته ولم يشطب علي من لائحته. فقد كان صبورا معي وظل ينتظرني حتى “نرطاب على خاطري”..
لقد انتظرني قبل ولادتي وظل يتعقبني ويمهلني ويختبرني حتى يتحقق من استحقاقي للانضمام الى منتخبه الوطني “للزماكرية”… إلى أن كان له ذلك، وتيقن من جدارتي لحمل لواء جنوده ورسالته. فطوح بي يوم 4 أكتوبر 2013 إلى الديار الكندية…
مع ذلك، بقيت عنيدا. إذ خلال خمس سنوات لم أستشعر فيها أبدا صفة المهاجر، أو “الزماگري”. إذ لم ينعتني أحد بها أبدا، ولم أعش مفارقاتها لا في الدراسة ولا في العمل ولا في الإدارات. هل لأن مونتريال بتعددها الإثني والثقافي تحول دون ذلك؟
لم أجرب أن أعيش وأكون “زماگريا” حتى مع ذاتي أبدا. وكم أريد فعلا أن أجرب ذلك…
فالإحساس بالهجرة رديف بالإحساس بالغربة. لكن، كيف يمكنك أن تعيش ذلك وأنت صباح مساء على اتصال ب “لبلاد” وأهلها ومشاكلها وكوارثها وأفراحها. تفتح “الفايسبوك” فتنهال عليك الأخبار والمشاحنات وكأنك جالس في مقهى الدرب. تفتح الميسنجر وها أنت جالس وسط الأصدقاء تتسامر وتضحك. ويكفي “لايڤ” عبر الواتساب مع الوالدة والأسرة لتطمئن على الأحوال وتعرف أنهم غيروا “التلامط والسدادر”..
كان مقررا أن يلتحق والدي بصديقه هناك في فرنسا، سنة 1965. أي أنني كنت سأولد، بعد ذلك، “زماگريا” أصيلا ابن عامل مهاجر من دمنات. وكنت سأكتب في الفايسبوك لألعن كل من سخر أو سب اللاعب حكيم زياش ورفاقه “الزماگرية” في المنتخب… لكن ضاعت الفرصة مني وأخلف القدر…
حتى القنوات العمومية تلاحقك وأنت تبعد عن “لبلاد” بآلاف الكيلومترات. كيف تشعر بالغربة وأنت تتفرج يوميا على القناة الأولى والثانية والسادسة والرابعة ومصطفى العلوي؟
حتى “الرجاء البيضاوي” (الخضرا)، التي تعشقها، تتابع كل مبارياتها في المنزل أو بمقهى “أميستاد” بشارع “جون طالون” بمونتريال وكأنك في “سطاد دونور” بالدار البيضاء. بل إن المقهى تنتظم، هي أيضا، في صفين بالأحمر والأخضر خلال الديربيات…
إقرأ لنفس الكاتب: حقيقة تكشف لأول مرة. اغتيال عمر بنجلون…هكذا “غيرت” هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرا أعدته حول القضية
يحكي لي أحد قدماء المهاجرين المغاربة هنا بكندا، أن الهجرة والغربة كانت تعاش عندما كان البريد و”التنبر” متسيدا، وكان الوسيلة الوحيدة للأخبار. وعندما كان يتم السهر حتى الصباح لأن أحد المغاربة عاد من “لبلاد” وحمل معه أسطوانة أو شريطا لعبد الوهاب الدكالي أو ناس الغيوان أو فاطنة بنت الحسين أو الرايس محمد الدمسيري…
تعاش الهجرة عندما تتعرض للعنصرية والميز والاحتقار أيضا. لكنني لم أتعرض لها قط، عدا مرة واحدة، لكنني ضحكت فعلا حينها، لأن الذي صدرت عنه إيطالي!!
كان زميلي في العمل، عندما كنت أشتغل في مطعم إيطالي بمونتريال، ويكبرني بعدة سنوات. اختلفنا واحتد بيننا النقاش فقال لي:
- عد إلى بلدك…
ضحكت طويلا من أعماق قلبي. فتفاجأ لردة فعلي قبل أن أجيبه بكل هدوء:
- يجب علينا أن نعود نحن الإثنين إلى بلدينا. لكن أن نعود كما وصلنا إلى كندا، نحن عبر طائرة البوينغ وأنتم عبر الباخرات التي حملتكم من بؤس صقلية الى مدينة هاليفاكس بالساحل الشرقي الكندي، كما صور ذلك المخرج فرانسيس فورد كوبولا، في مشهد وصول الطفل “كورليون” الى ميناء نيويورك في رائعة “العراب”…
تصالح معي بعد ذلك وأصبحنا نسخر معا من وضعنا.
تعاش الهجرة، اليوم، بنار الشوق والحنين. الشوق والحنين لأهل وأحباء تركتهم هناك. وحتى حينما يستبد بك الشوق لجلسة ورائحة ولمسة وصخب، تعيشه بشكل رومانسي وتعزي النفس بزيارة قادمة وتستمع إلى “لمشاهب”…
أقصى درجات الغربة والهجرة هي حينما تشعر بالعجز عن التواجد هناك رفقة قريب أو صديق في لحظات الفقدان والموت. أن لا تتمكن من تقديم العزاء والمواساة وأن تكون بجانب من تعز وتحب (وهذا عشته عندما توفي والد أخي لحسن العسبي مؤخرا)..
أفظع درجات الغربة عندما يجتمع الشوق والحنين والعجز، وأنت في فصل الشتاء الكندي الذي يستبد فيه الطقس طيلة خمسة أشهر، حيث تصبح السماء رمادية والأرض بيضاء… هناك من سقط في جحيم الاكتئاب.
نحن أبناء افريقيا والمتوسط… نقدس الشمس ونحب البحر ورائحته. ولدنا تحت الشمس وكبرنا معها ونكره الغيوم والبرد. لو قدر لنا أن نعبد إلها آخر لعبدنا الشمس بكل فخر مثل أسلافنا…لأن الشمس، تشبهنا، فهي تهاجر وتعود صباح مساء..
قرأت المادة بانتباه وحرص شديد والفتانتباه الأخ عمر أننا نتقاسم شيئا من هذه التماهيات … لكنها الحياة في صورة اكثر عنفوانا وجاذبية …لنستمر فيها بشروطها وأحلامنا