عين مرايانا على فلسطين… مشاهد من أفق شباب يعيش “نصف حياة” - Marayana - مرايانا
×
×

عين مرايانا على فلسطين… مشاهد من أفق شباب يعيش “نصف حياة”

تستقي مرايانا هنا ثلاث شهادات لشباب فلسطينيين قابلتهم في العاصمة الأردنية عمان. شهادات… تعكس وضعية شبابِ شعبٍ بالكامل، بما أنه لا هامش للاستثناء في الحرب؛ الكلّ مهدد بأن يموت؛ بأن يُأسر، وبأن يُهان ويُذلّ…

خصّصنا، ضمن مجلة مرايانا، عدداً خاصاً بالشباب كان عنوانه: “شباب في مرايانا” (يمكن تحميل العدد مجانا على هذا الرابط). كان ذلك لسبب بسيط؛ هو أنّ فئة الشباب هي أمل كلّ شعب. هي الذّخيرة الحيّة لنهوض أيّ بلد.

اتضح ضمن خلاصات كثيرة في العدد أن وضع الشباب جد معقد في المغرب بشكل حصريّ. لكن… كيف يمكن لمرايانا أن تقرأ وضعاً لشباب يعيش تحت القصف؟ شباب مهدّد في أي وقت ليكون “نعشاً” يحمله الرّفاق فوق الأكتاف ويقادُ للقبر؟

تستقي مرايانا هنا ثلاث شهادات لشباب فلسطينيين قابلتهم في العاصمة الأردنية عمان. شهادات… تعكس وضعية شبابِ شعبٍ بالكامل، بما أنه لا هامش للاستثناء في الحرب؛ الكلّ مهدد بأن يموت؛ بأن يُأسر، وبأن يُهان ويُذلّ…

شمس الدّين: “ليسَ لدينا سوى بعضنا”

ولد شمسُ الدّين فلسطينيًّا، ورضع القضيّة في دماء الشهداء الفلسطينيين كما يحبّ أن يقول. شابٌّ بأفق كبير تصادفه مرايانا، يحمل أثقل حلم في أحشائه: تحرير فلسطين. بدا متحمسا بلا حدود، مرحاً، محبّا للحياة، مادام الوضع في فلسطين يحتّم على كلّ فلسطينيّ أن يعيش “نصف حياة”. هذا المصطلح من نحت شمس الدّين. اخترعه باعتباره الصّفة الموضوعية المعبرة على وضعية الشّباب الفلسطينيّ.

شمس الدين، 27 سنة، شاب فلسطيني

درس شمس الدين (27 سنة) الإعلام والصحافة. تخرّج في ذات المجال، الذي أراد أن يكون عبره صوتاً لكل فلسطينيّ مقهور، وأن يكون صحافيّا ملتزماً بالقضيّة الأولى لكلّ من ولد في فلسطين. شمس الدّين الآن يشتغل في البناء بين الفينة والأخرى، لتوفير مدخول ماليّ يكفي لتغطية الكثير من الحاجيات… بيد أنّه لم يترك قطّ حلمه في أن يصير مُعبراً عن الهموم الفلسطينيّة. يعيش بعقيدة أنّ في القتل، ليس هناك حياد… ليست هناك موضوعية.

“ليسَ لدينا إلاّ بعضنا”. بهذه الخلاصة يلقي شمسُ الدين “قنابل” مأسوية في حقلنا. يحافظ على نظراته الحادة، ويقول: “إنّ كلّ شيء مأزوم جدًّا في فلسطين”؛ ثمّ يزيدُ موضحاً: كلّ من وثقنا بهم تخلّوا عنا. الشّعور اليوميّ بأنّ فلسطين ضاعت لا يجعل البال يهدأ. الذهنُ مشتّت والهمّ كبير. كلّ يوم ننام فيه الليل، ونستيقظ في الصباح، نعتبره فرصة للاستمرار في حياة تقف في النصّف، وتقعُ على ناصية أحلامنا المحطّمة كفلسطينيين.

في حقل الجرح، يحقّ لنا السّؤال: ما الجراح التي يتعفّف شمس الدّين أن ينكأها؟ يجيب بوجع: الجرح ليس قابلاً لأن يشفى مادام الوضع كلفني جدّي وعمي الذين قتلهم الاحتلال بدمّ بارد. الكثير ممن أعرف وأصحابي أيضاً قتلوا. أشعرُ يوميّا أنّ الموت ينتظرني في ركن الزّقاق، أو في ظلّ الشّارع.

يداوي شمس الدين الجراح العميقة بالإيمان، لذلك يجمل قائلاً: حين أستيقظ في الصّباح، أذكر الله كثيراً. لم يعد حبّ الحياة شيئا طريفاً لدينا. فالحزن هو الشّعور العام عندنا. قد نبكي أكثر مما نضحك، مجرّد الشّعور بالاحتلال في عصرنا، بالقمع وبالإذلال والإرهاب، هو العلامة الأبرز على أننا في عالم لم يسلم قطّ من حالة الطّبيعة، حيث القوي يأكل الضّعيف. لكنّ الفلسطينيّ ليس ضعيفا أبداً، وهو يقاوم لأكثر من 70 سنة.

لانا: شباب مهدّد في أمنه

“الله يعين الشباب عندنا بفلسطين”. عبارة الشابة الفلسطينية لانا راتب أبو عيشة (23 سنة)، بلهجتها المشرقيّة تلخّص أشياءً كثيرةً، وتعبّر عن واقعٍ لازال يتشكّل ضمن النّدوب والألم والفوضى، التي يصر أن يرسُمها احتلالٌ دمويّ باسم الدّين. تقول لانا ضمن لقائها مع مرايانا إنّها “تعيش مثل كلّ فتاة فلسطينية مأساة الخوف المطلق. ففي أيّ لحظة يمكن أن يكون ثمّة تفتيش ما، مداهمةُ بيت ما، إطلاق رصاصة ما، أو إهانة فلسطينيّ ما… بلا أيّ سبب وجيه”.

لانا، 23 سنة، شابة فلسطينية

تعتبر لانا أنه، من ضرب الحظ فقط أنّها، طيلة الثّلاثة وعشرين سنة التي قضتها بمدينة نابلس الفلسطينية، لم تتعرض للتفتيش قط، ولم يقتل أيّ واحد من عائلتها. لكنها بالمقابل شاهدت موتى، وتتعامل مع الإحصائيات بشكل أسبوعيّ يعيد الحكاية إلى الدّرجة الصفر: الوجع الفلسطينيّ العام. تحكي أنها تذهب لرام الله كثيراً. وقد يوقف الجندي الصهيونيّ المارّين بين المدن بلا سبب منطقيّ لساعات متواصلة. في هذه الأثناء، يمكن أن يتمّ إنهاء حياة أيّ أحد، بلا أيّ توقّع قوي مسبق.

كل هذا، حسب الشّابة الفلسطينيّة، “يجعل الشّباب الفلسطينيّ منشغلاً بهذا الوضع، ويشتغل في مهن كثيرة باليوم، حتى لو كانت شاقّة، بما أنّ الوضع متأزّم، وفرصُ الشّغل شبه مُنعدمة، ومستقبل الشّباب عامةً مجهول، فيمكن أن يكون شخصاً مبحوثاً عنه بأيّ لحظة”.

تزيد لانا راتب قائلةً، إنّ الفتاة الفلسطينيّة بدورها معنيّة بهذا الوضع، فهي تُشارك في مظاهرات وقد تتعرّض للمهانة دوريّا كذلك. المحتلّ لا يميّز بين امرأة وطفل أو بين ذوي الاحتياجات الخاصة ورجل كهل. المحتلّ متوحّش بلا حدود.

تقول لانا في ختام كلمتها بأسى عميق: مهما تحدثنا، فمن العُسر أن نعبر بأمانة ودقة عن ما يحصل، ما يحصل من إجرام لا تتسع له اللغة. الواقع عندنا صعب، ولا يمكننا نهائيا أن نصفه، فالحديث عن المأساة الفلسطينيّة كله، مجرد جزء صغير مما يحدث فعلاً… في فلسطين.

زكرياء: شبابٌ بطاقاتٍ مكبّلة

زكرياء (27 سنة) شاب فلسطيني قابلته أيضا مرايانا. يقول: “نحن نعيش كشباب يشعر بالضغينة تجاه كيان ما: الاحتلال الصّهيوني. لهذا، لدينا دائما شعور موضوعي أن لدينا عدو يراهن على نسف قدرات الشباب وتكبيلها، عبر إرهابه واعتقاله واختطافه وتعذيبه”.

الكيان، وفق زكرياء، يعرف أن قوة فلسطين في شبابها، ويعي أنها هي الفئة النشيطة والحيوية، ويمكن أن يتفجر رفضها في شكل مقاومة… لذلك، فـ “اسرائيل” تسعى دائماً لتعطيل عجلة الشّبيبة في الأراضي الفلسطينيّة. كلّ شاب فلسطينيّ، بلا هامش للشكّ، هو مُستهدف بشكل مباشر.

زكرياء، 27 سنة، شاب فلسطيني

من مظاهر تقييد قدرات الشباب الفلسطيني، التي يوضحها لنا زكرياء، أنه “لا يتحرك ولا يتنقل بأريحية، بما أن مساحات التحرك جد محدودة. الاحتلال يضع يده في كلّ مكان، ويسيطر على كلّ مكان، حتى على جزء من أراضي الضفة الغربية بسبب السلطات المتواطئة معه”.

بالمقابل، يقول المتحدّث، يستطيع الجنود الإسرائيليّون ولوج مناطق الضفة الغربية، بتأشير من بعض الأطراف الفلسطينيّة، وينفذون عمليّاتهم الخبيثة بدمّ بارد، ثم يغادرون. كما أنّ الشّباب الفلسطيني محروم من أشكال التّرفيه، فهو لا يستطيع الذّهاب للبحر أو الأماكن التي يمكن أن يستمتع فيها”، ويسترسل قائلاً: الأماكن التي نذهبُ لها هي أماكن محدودة جدا، ورغم ذهابنا إليها نشعر بأنّ الخطر محذق وأنّ استفزاز المستوطنين ممكن، فنحاول تفادي إثارة المشاكل.

لا يخامرنا شكّ في أنّ من أصعب الصدمات العاطفية التي يمكن أن يتلقاها شابّ ما، هو فقدان والدته. وهذا بالضبط ما حدث مع زكرياء، الذي قال إنّ والدته استشهدت في 2015، حين كانت ذاهبةً للبيت، فأقدم جنود الاحتلال الإسرائيليّ على إطلاق النار عليها، فقط لأن السيارة تشابهت لهم مع سيارة أخرى.

هل توقّفت المأساة في حياة زكرياء عند هذا الحدّ؟ لعلّ الجزم بذلك صعب، مادام الاحتلال اختطفه وأسره لمدّة سنتين، بعد وفاة أمه بثلاثة أسابيع. لكنّه، رغم كل ذلك، يصف نفسية الشباب الفلسطيني بأنها “تتراوح بين عادي وشاذّ، فليس عاديا العيش تحت الاستعمار في هذا العصر، وليس أي شخص يمكنه تحمل ذلك والتعايش معه كل يوم. كما أنه “عاديّ” من ناحية أننا تعايشنا معها. أن المرارة صارت هي الأصل في فلسطين. انقلبت الموازين عندنا، حتى صار النكد هو الشيء الطبيعيّ عندنا.

كانت هذه شهادات لشباب تُبيّن كيف صار الشّباب الفلسطينيّ ينزفُ كل يوم، حتى دون أن يصيبه الرصاص. هو ينزف لأنه يعيش في وطنه محاصراً. يعيش بأفق شبابيّ مغلق: لا هو حاصل على الفرص، ولا هو قادر على أداء يوميّ سليم بسبب الوضع في الأراضي الفلسطينيّة. تنزف الأرواح قبل الأجساد في فلسطين.

من الواضح أنّه من ضرب المستحيل أن يقول أيّ طبيب أنه يستطيع معالجة النّفسية الشبابيّة الفلسطينية المشروخة، مادامت معرّضة لحالة العود… في كلّ جزء من الثانية.

مقالات قد تثير اهتمامك: 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *