عبدالله بن المقفع ومحاولة علمنة الحضارة الإسلامية برسالة الصحابة (الجزء الأول) - Marayana - مرايانا
×
×

عبدالله بن المقفع ومحاولة علمنة الحضارة الإسلامية برسالة الصحابة (الجزء الأول)

التنافر القانوني، يكون دائما مصدر قلق مستمر في الأنظمة القانونية، والقوانين الإسلامية ما قبل المؤسسة، ليست استثناء من تلك القاعدة. والعمل على تنظيم هذه الفوضى كان مسعى كل مشرعي القوانين والأحكام في كل زمان ومكان.
من هذا المنظور عمل عبد الله بن المقفع على توحيد الفتاوى والأحكام القضائية والتنافر المذهبي بدفع من سلطة الخليفة. وهذا أمر، لو كان تحقق، كان من شأنه أن يمهد الطريق نحو علمنة الحضارة الإسلامية ب(رسالة الصحابة) والتي اعتبرها “س.د. جويتين” نقطة انعطاف في الحضارة الإسلامية.

اعتمدنا في كتابة هذه المقالة على: رسائل البلغاء لمحمد كرد علي، وأصول الفقه المحمدي، ومدخل إلى الفقه الإسلامي لجوزيف شاخت، وعلم الكلام والمجتمع لجوزيف فان إس، والمفكرون الأحرار في الإسلام لدومنيك أوروفوا، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية لنصر حامد أبو زيد، تكوين العقل العربي لمحمد عابدالجابري. ومن إسلام القرآن إلى إسلام الحديث لجورج طرابيشي، ومقالتي: القانون والدولة لجوزيف شاخت والفكر السياسي عند المسلمين لـ “ك.س.لامبتون”. وكلتا المقالتين بكتاب تراث الإسلام الجزء الثاني، the first Islamic legal theory: ibn muqaffa on interpretation,authority, and the structure of the law .Joseph e. lowry.

 

كانت (رسالة الصحابة) والتي كتبها ابن المقفع لأبى جعفرالمنصور، تعتبر مذكرة عن حكومة إمبراطورية وتقريرا مطولا لنقد نظام الحكم وطرق إصلاحه. فالأفكار المبثوثة بين ثنايا الرسالة، تمثل دستورا سياسيا خٌطّ لتسير عليه كل فئات المجتمع، ابتداء من رأس السلطة أو الخليفة، وانتهاء بالرعية أوالمجتمع. وقلم ابن المقفع هنا يصدر عن رجل نهضوي ذو نزعة إنسانية واضحة في كتاباته. فكتاباته خالية من كل أشكال التدين، إذ يندُر أن يستشهد بأية أو بحديث حينما يخاطب العقل، وتلك نزعة لفتت انتباه {هانز هينرش شيدر} وذلك على خلاف الأدب الإسلامي المتروك في هذا العصر. ولا شك أن نشأة ابن المقفع في جو قد تلاقح، وامتزجت فيه، شتى الثقافات العالمة. فمع أفول الدولة الأموية وبزوغ فجر الدولة العباسية، شهد ثورات وانقلابات وتقلبات سياسية. فشهد بنفسه ثورة الفرس على العرب بقيادة أبي مسلم الخراساني، وما صحب ذلك من تقلبات اجتماعية وفكرية. وشهد عن كثب مصرع الدولة الأموية وعاين عصرا جديدا اتسم بصراع المتناقضات والأضداد وانصهار الثقافات. وما صحب ذلك من فوضى القضاء وتنافرالأحكام.

التنافر القانوني، يكون دائما مصدر قلق مستمر في الأنظمة القانونية، والقوانين الإسلامية ما قبل المؤسسة، ليست استثناء من تلك القاعدة. والعمل على تنظيم هذه الفوضى كان مسعى كل مشرعي القوانين والأحكام في كل زمان ومكان. من هذا المنظور عمل عبد الله بن المقفع على توحيد الفتاوى والأحكام القضائية والتنافر المذهبي بدفع من سلطة الخليفة. وهذا أمر، لو كان تحقق، كان من شأنه أن يمهد الطريق نحو علمنة الحضارة الإسلامية ب(رسالة الصحابة) والتي اعتبرها “س.د. جويتين” نقطة انعطاف في الحضارة الإسلامية.

(رسالة الصحابة) مفيدة بالنسبة لتاريخ الفقه الإسلامي. حيث يرى {جوزيف شاخت} في ابن المقفع، أنه الشاهد الخارجي الأكثر أهمية لتطوير نظرية الفقه المحمدي. ويثبت {ج.د. لاثام} أن ابن المقفع أعظم من فطن لـ(مشكلة التنافر المذهبي). ويرى {ن. ج. كلوزن} أن (فطنة ابن المقفع قد أدركت الخطورة الملازمة في مثل هذا التنافر). ففي مقطعين مطولين يتناول الكاتب العلاقة بين السلطة والدين أو سلطة الخليفة والشريعة، ففي سياق مناقشة الجيش الخراساني يعالج باقتضاب نسبيا، مشكلة الموالاة المفرطة للأسرة العباسية داخل الجيش العباسي، وقضية (طاعة الخليفة وعصيانه) من منظور لاهوتي بصيغة ( أن الأمير لو أمر الجبال أن تسير سارت ) و( لو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة فُعل ذلك).

بصيغة مفتاحية بالنسبة لنا، لفهم رؤية ابن المقفع القانونية لقضية طاعة وعصيان الخليفة من منظورلاهوتي، وعند بحثه لأوامر الخليفة ما يطاع منها وما لا يطاع، ذكر المبدأ الشهير “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” قال: إن قوما فسروا هذا المبدأ تفسيرا معوجا، فقالوا: إن أمرنا الإمام بمعصية الله فهو أهل أن يعصى… وإن أمرنا الإمام بطاعة الله فهو أهل أن يطاع. فإذا كان الإمام يُعصى في المعصية وكان غير الإمام يطاع في الطاعة، فالإمام ومن سواه في حق الطاعة سواء. إن ابن المقفع يمشكل إشكالية طاعة الخليفة من منظور لاهوتي، ولهذه الصيغة بعض التقديرات، فهو بهذه الصيغة يهدف إلى الحد من سلطة الخليفة المطلقة؛ فهناك مفاهيم ومقدمات أساسية تفهم من صيغته. وهذه المقدمات:

(أ): أن فكرة عصيان الخليفة قد يكون لها ما يبررها في الواقع من منظور لاهوتي، والنتيجة الطبيعية المترتبة على هذه الفكرة وهي الأهم وهو ما هدف إليه ابن المقفع.

(ب): أن البشر يمكن أن يضعوا لأنفسهم المعيار اللاهوتي لاعتبار أن مثل هذا العصيان له ما يبرره في الواقع. بعبارة أخرى هذه صيغة تفترض أن البشر باستطاعتهم أن يحددوا لأنفسهم ما يشكل طاعة شرع الله، وأنهم لذلك لديهم القدرة على تحديد ما هو شرع الله نفسه.

يعلق دومنيك أرفوا على هذين النقيضين {طاعة ومعصية الخليفة} فيقول: لقد اختار ابن المقفع هذين النقيضين ببراعة، لأن الفترة المعنية هي بداية العصر العباسي. فالحد الأول هو حركة الخوارج التي تألبت عليها الأمة بكاملها، متهمة إياها بالتزمت الذي يحول دون تحقيق دار الإسلام. والحد الثاني هو شكل متطرف من أشكال لزوم السكون والإذعان، طوره بعض أنصارالأمويين الذين ظنوا أنهم يستطيعون إسكات كل معارضة تقوم في وجههم بتصويرهم إياهم على أنهم (خلفاء الله).

لم يغال ابن المقفع في تصوره لإشكالية طاعة ومعصية الإمام، وعمل على ربط السلطة القائمة بعقيدتها التأسيسية. واضطر هنا إلى تقديم تنازل بخصوص العنصر الجوهري، أي فكرة التشريع القائم على الوحي، وانصب جل جهده على إحكام المحاكمة الجدلية ليميّز بين ما يخضع لأمر الوحي وما ينفلت منه بغية توضيح الحالات التي يعصى فيها الخليفة من منظور لاهوتي، ومنها يتناول ابن المقفع علاقة الدولة ووظيفتها المتصلة بالسلطة الدينية من خلال إقامة الفروض الدينية، والتي تعتبر سند السلطة السياسية. وهنا نرى أسئلة تعتبر هي الأولى من نوعها، فمن ذا الذي يحق له تفسير وإدارة، وتطبيق، وهلم جرا، الفروض الدينية؟.

التصور الإبستمولوجي للقانون الديني عند ابن المقفع ينقسم لمجالين: ما هو ثابت وغير قابل للتأويل، والمتغير الذي يؤول ويتطلب تفسيرا. هذين التصورين حُددا في عبارات لها قابلية التأثير المتبادل في التفسير البشري للقانون الديني، وتعملان من اتجاه آخر على توسيع حالات عدم اليقين القانونية. يقارن ابن المقفع هذه الفئات من الالتزامات الدينية بمجموعات أخرى من المسائل، تلك التي يملك معها الخليفة حق التفسير؛ وبالنظر إلى هذا، فرخصة الخليفة التفسيرية حصرا وجزءا لا يتجزء من سلطته العيا. ففي الواقع يصف ابن المقفع هذه المجموعة من المسائل، معطيا قائمتين متماثلتين على وجه التقريب من مجالات اختصاص الخليفة، قائمة تعتبر ملائمة فيما يتعلق بتفسيرالخليفة حصرا وبطريقة باتة تقع تحت ثلاثة عناوين عامة: الرأي، والتدبير، والأمر الذي جعل أزمته وعراه في أيدي الأئمة. وهي بعبارة أخرى:

1 الحكم الشخصي. 2: الإدارة. 3: السلطة السياسية التي تتولى مقاليد الحكم بهبة منحها الله.

غير أن هذه المجموعات الثلاث تتداخل مع قائمة أخرى من موضوعات متنوعة متعلقة بحق تفسير وتصرف الخليفة، منها الاستراتيجية العسكرية؛ وجمع وتوزيع الغنائم، وتعيين وعزل المسؤولين؛ وشن الحروب، والتفسير القانوني في الحالات التي لم يرد فيها أثر، وتطبيق ذلك القانون وفقا للكتاب والسنة. غير أن مما يلفت النظر في هذه القائمة، هوالانزلاق الناعم من وظائف الدولة العملية إلى وظيفتها المتعلقة بالسلطة الدينية. هي حقا ملاحظة جديرة بالاعتبار؛ فطبقا لهذا الترتيب، ضمّن عبدالله بن المقفع قضية التنافر المذهبي والفقهي، وإمضاء الحدود وهي بطبيعتها مباحث لاهوتية، في نهاية القائمة العملية أو الإدارية المنوط بها السلطة السياسية مما يعني أنها ليست إلا واجبات إدارية من سلطة الخليفة أو من سلطة الدولة.

ما يهمنا هنا هو أخر نقطتين، فهما ينصان بشكل مميزعلى جوهر الشريعة الإسلامية التي تختلف عن أي نظم قانونية أخرى، فالتشريع الإسلامي يقدم مثالا لظاهرة فريدة يقوم فيها الفقهاء بدور المشرع لا الدولة. في صيغة {إمضاء الأحكام} إماءة إلى قانون العقوبات والتي توعز أن السياق إجرائي وقضائي وليس موضوعيا تشريعيا، مما يحملنا على الإعتقاد بأن هذه العبارة وبالإشارة إلى {الحدود} يشيران نسبيا إلى القضايا الجنائية والمدنية. ويبدو أن ابن المقفع يعمل تأسيسيا على أن يكون للخليفة السلطة التقديرية والتأثير الموضوعي، وليس فقط الإجرائي على محصلة الشريعة، وذلك لتحديد الطريقة التي بها، تُحفظ وتُصان وتُؤدى كل الحقوق وما إلى ذلك وفق لمباديء الشريعة الإسلامية.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *