المثلية الجنسية بين ذكاء أصحابها وغباء أعدائها
هذه بعض من تأملات الذات الكاتبة في موضوع شائك لكنه مستفز، يحتاج إلى نقاش رصين لتجاوز عتبة الرفض والدخول في مساحة التعايش مع فئة لم تنزل علينا من السماء أو انبثقت من جوف الأرض… بل هي جزء من كيان أمة وجزء من غنى وتنوع هذا الوطن.
نعود، مرة أخرى، للحديث عن موضوع المثلية الجنسية من زاوية جديدة، وهذه المرة لكي نسلط الضوء على بعض الجوانب، ولنثير الانتباه إلى أن عالم المثلية أقوى وأخفى من أي يتم فهمه بسطحية أو ابتسار.
عنوان هذه المقالة قد يثير حفيظة البعض، وقد يدعو البعض الآخر إلى الضحك والسخرية منه. لماذا؟
لأن الذين يرفضون أي تواجد للمثليين بينهم، يجهلون ما الذي جعل هؤلاء المثليين يقاومون كل أشكال العنف والتهميش والاضطهاد حتى استطاعوا الاستمرار في التواجد في كل بقاع الدنيا. كما أن الذين يسخرون ويشمئزون، إنما تأخذهم العزة بالذكورة، التي يفتخرون بها، لكي يتباهوا بكونهم “رْجال” -بتسكين الراء- دون أن يفرقوا بين الذكورة والرجولة! وبالتالي، فما أضحكهم إلا جهلهم بمعطيات واقع مركب ومعقد تتفاعل فيه كل الأطياف، وفي تدافع سوسيو-ثقافي، وآخر سوسيو-اقتصادي يشغلهم أحيانا كثيرة عن الالتفات إلى حياة فئة تستمر في التواجد رغم أنف الذين يعادونها من منطلق إيديو-ثقافي.
المثلية عبر التاريخ ظلت تعاش، تارة في العلن وتارة في الخفاء، فعندما كانت مباحة، وجدناها تتواجد في الاوساط الشعبية، بينما تكتسي صبغة النخبوية داخل أسوار الطبقة الارستقراطية وحياة السلاطين والملوك والقياصرة حين تنحصر في قاع المجتمع وتصبح مسكوتا عنها.
لولا ذكاء المثليين في كل مكان وزمان لما ظلت المثلية تراوح مكانها ذاك ما بين العلن والخفاء، وهذا من مزايا غريزة البقاء التي تجعل الشخص المضطهد يسلك سبيل التقية والعيش على هامش الأضواء، أي في ظلام وليل الحياة اليومية، وحين يتم التسامح معها وتتوفر شروط وظروف العيش في العلن تراها متواجدة بشكل باد للعيان.
في المغرب، المثلية؛ كما باقي أطياف المجتمع المتنوع؛ عيشت بهذه الازدواجية ما بين خفاء عام وظهور خاص، ومعناه أن المثلية تبقى أقلية مستخفية، من أرادها يذهب إلى بعض أماكنها في الفضاءات العامة (الحدائق، وبعض الحمامات والدوشات، وبعض الشوارع ليلا)..
وبما أن المثلية الجنسية بالمغرب مجرمة بقانون جنائي ( الفصل 489 من ق.ج)، ويتعرض المتسم بها فعلا إلى عقوبة حبسية وغرامات مالية، وبما أن المجتمع غير مهيإ لتقبل أصحابها في الفضاء العام إلا لماما، فإن المثليين قد اكتسبوا مع الوقت كل تقنيات المراوغة والاحتيال على القانون وعلى المجتمع، للتواجد بشكل يزاوج ما بين الظهور والاختفاء.
هذا ذكاء تفرضه ظروف عيش هؤلاء بين الأهل وفي الاوساط العمومية من مؤسسات تعليمية، ودور الرياضة وفي مقرات الشغل…الخ:
ذكاء يجعل بعض المواهب ذات التوجه الجنسي المثلي ينحو منحى تفجير التمرد ورفض الواقع، في الإبداع، فنجد مثلا من مصممي الازياء والعارضين من تتفتق عبقريته في تقديم عروض أو منتوجات ذات لمسة مثلية من حيث الأداء أو الإنجاز أو الصنعة البارعة.
في عصرنا الحالي، عشنا مع الكاتب المغربي عبد الله الطايع ظهورا علنيا في شكل عمل أدبي على شكل سيرة ذاتية تعبر عن مستوى العديد من المثليين الراقين في عقليتهم وفي ظهورهم. ولعل هذا الظهور والعلانية الاستثنائية لهذا الاديب المغربي ليس سوى الشجرة التي تخفي وراءها عددا لا يستهان به من المواهب المثلية التي مازالت متخفية.
كما أن هناك من صناع المحتوى من أصبح يتقمص أدوارا نسائية دون التصريح بمثليته، وقد جعل من بعض القضايا الاجتماعية مدخلا لإبراز قدراته على صنع فكاهة ساخرة من مجتمع منافق… ودون ذكر أسماء في هذا الباب، إلا أن الاقتدار في الخروج إلى المجتمع، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لنقد واقع متخبط من طرف مثليين، يخفونها علنا ويعيشونها في أماكنهم الخاصة وداخل الدوائر الضيقة لدى الطبقات المخملية للمجتمع المغربي، إنما يدل على ذكاء مشهود يزحف نحو إرساء ركائز التطبيع مع المثلية من منطلق تصحيح العديد من المغالطات والكليشيهات المرتبطة بالمثليين، مثلما تفعل بعض القنوات الإعلامية الخاصة عندما تبحث لها عن الإثارة بإجراء حوارات واستجوابات بأجر زهيد مع مثليين من عاملي الجنس، مستغلة هشاشة هؤلاء ومعاناتهم مع حياة الليل وما يتعرضون له من اضطهاد وعنف واستهداف، لتؤلب المجتمع عليهم(هن).إن الغباء المقصود هنا عند أولئك الذين يعادون المثليين، يتجلى في معاكسة منطق التاريخ الذي لم يكن يوما لينكر كون المثليين تواجدوا في الماضي، ويتواجدون اليوم في كل بقاع العالم، وسيستمرون في التواجد ما دامت البشرية تقوم أصلا على الاختلاف في كل شيء حتى فيما يتعلق بالميولات العاطفية والجنسية.
ثم… إن مسألة الرفض والتضييق على هذه الفئة، إنما هو مرتبط بجهل تام بعالم المثلية، تاريخها، فلسفة هؤلاء ورؤيتهم للعالم، وبالتالي فالجهل بالشيء يولد الكراهية تجاهه.
من مظاهر غباء أعداء المثلية كذلك أنهم يخشون أن تزحف داخل المجتمع لتصبح قاعدة غالبة سوسيولوجيا! وهذا يعكس تلك النزعة الذكورية المتفشية التي تروج لهذا الطرح القائم على رهاب المثلية، عبر خطابات رنانة تجد لها من مسوغات السرد القصصي في الخطاب الديني المتسيد، ما يؤلب الناس ضدها. بل إن المؤمنين منهم يجدون حرجا نفسيا مع أنفسهم ما بين الاعتقاد بتحريمها، وما بين عيشها في الخفاء مع لزوم استحضار الذنب والعقاب الإلهي!!
هناك غباء قانوني للأسف يخيم على سماء الحريات بالمغرب حين نستمر في الابقاء على الفصل المجرم للمثلية تحت طائلة الشذوذ الجنسي !؟ فالفصل 489 من القانون الجنائي المغربي هو قانون موضوع أيام المقيم العام الفرنسي، وقد كان قانونا محابيا ومنافقا من سلطات الحماية تجاه مجتمع كان في وقته جد محافظ إن لم نقل متخلف، ومع ذلك لم يكن ذلك الفصل المجرم ليمنع مثلية ظاهرة وأخرى خفية عيشت في فترة الحماية وما بعدها بين مواطنين مغاربة وأجانب مقيمين بيننا.
ثم إن من غباء هذا القانون، استمرار تواجده بين حزمة من التعديلات والمراجعات التي طالت المدونة الجنائية، إلى جانب الوضع المتقدم للدستور المغربي، وكذلك ثقل الاتفاقيات الدولية الملزمة التي وقع عليها المغرب والتي تستوجب تكييف القوانين الوطنية مع روح ومضمون الدستور والمواثيق الدولية الملزمة للدول. لهذا فمن باب الواجب الذي تفرضه سنة التطور أن نعدل القانون لينسجم مع تطور المجتمع وبدون عقدة نقص أو خوف من طرف مجتمع تحكمه تفاعلات الثابت والمتحول.
هذه بعض من تأملات الذات الكاتبة في موضوع شائك لكنه مستفز، يحتاج إلى نقاش رصين لتجاوز عتبة الرفض والدخول في مساحة التعايش مع فئة لم تنزل علينا من السماء أو انبثقت من جوف الأرض… بل هي جزء من كيان أمة وجزء من غنى وتنوع هذا الوطن.