الصرفة والإعجاز. هل صرف الله العرب عن الإتيان بمثل القرآن؟… بين قول القدامى ورأي المحدثين
معارضة القرآن، النسج على منواله… تحدي صيغه وبلاغته وألفاظه…
ظلت تلك، بعض أهم القضايا التي شغلت المسلمين، منذ العصور الأولى للإسلام، لينتصب السؤال:
لماذا ناقش علماء الكلام والفقهاء الأمر؟ وما شكل وموضوع المعارضات التي واجهت القرآن؟
هل صرف الله العرب فعلا عن الإتيان بمثل القرآن، رغم فصاحتهم وبلاغتهم؟ وماذا قال القدامى والمحدثون عن قضية الصرفة هذه؟
قلنا، في المقالة السابقة، إن الصرفة كانت نتيجة منطقية للأصل الأول من الأصول الخمسة لدى المعتزلة؛ وليست تأثرا بنوازع خارجية ككتاب الفيدا كما قال أبو زهرة، أو تأثرا بالفلسفة اليونانية كما قال الرافعي. هنا، يترتب سؤال: هل كل المعتزلة طبقا لأصلهم الأول قالت بالصرفة؟
الصرفة، كما شرحناها بتفصيل في المقال السابق، تعني أن العرب لديهم القدرة على الإتيان بمثل القرآن فصاحة ونظما وبلاغة؛ ولكن الله صرفهم عن ذلك.
اختلاف المعتزلة حول الصرفة
ثمة رواية ينسبها السخاوي إلى القول بالصرفة عند كل المعتزلة. غير أننا نرى خلاف ذلك، فهناك معتزلة لا تقر بالصرفة، كالقاضي عبد الجبار والحاكم الجشمي والزمخشري وغيرهم. حتى الرماني المعتزلي نفسه؛ وإن كان قد رأى الصرفة وجها من وجوه الإعجاز المتعددة؛ فهو متناقض تناقضا مزدوجا.
لقد تناقض من جهة مع الأصل الأول لدى معتقده، ثم تناقض ثانيا بالجمع بين الإعجاز اللغوي والبلاغي والصرفة، وهذا ما لا يستقيم مع ذاك، فهو كصراع الأضداد.
نفس ما قلناه على الرماني، يصح قوله مع الجاحظ، فهو في “نظم القرآن” كان قد جمع بين الصرفة والإعجاز البلاغي. لذلك، يتهمه الرافعي بالاضطراب في موقفه، أو يرى موقفه ملتبسا ومضطربا. الجاحظ، في مواضع مختلفة في كتبه، يؤكد على أن القرآن قد بلغ أعلى درجات البلاغة والفصاحة؛ وأفصح العرب وأبلغ خطباءه حين سماع السورة الواحدة من القرآن؛ ليوقن بنفسه العجز عن الإتيان بواحدة على منوالها.
القرآن عند الجاحظ بنظمه معجز. لذلك، يعتبر أول من أشار إلى ما عرف فيما بعد بنظرية النظم.
في السياق نفسه، يرفض الرافعي تلك التهم الموجهة ضد عبد الله بن المقفع بمضاهاة القرآن؛ لأنه أبصر الناس باستحالة المعارضة؛ لا لشيء إلا لأنه من أبلغ الناس. غير أن الجاحظ يقر في أماكن أخرى من كتبه بالصرفة؛ على أنها من قطع باب الشغب على من يشغب على القرآن. وهذا رأي أقره فيما بعد ابن تيمية والرازي، إذا كان غاية هذا القول هو التنزل مع الخصم في الجدل في القرآن.
من الملاحظ أن الصرفة عند الجاحظ تختلف عن تلك التي ذكرها النّظام؛ فلولا الصرفة لدى النّظام لاستطاع العرب الإتيان بمثل القرآن. أما عند الجاحظ، فلولاها لطمع فيه ولشغب المشاغبون على القرآن ولكانت كل محاولة حتى وإن كانت ضعيفة؛ تدخل الشبهة على ضعاف العقول والعوام.
أما الشريف المرتضى، فهو أفضل من تحدث عن الصرفة وقدمها في أنضج صورها وأنقاها. هو أيضا أبرز متكلم تكلم فيها ونافح عنها، فكتب عنها أولا في “الذخيرة في علم الكلام”؛ ثم توسع وبسط القول فيها في “الموضح عن جهة الصرفة” ورد فيه على ردود المعترضين؛ كالقاضي عبد الجبار والباقلاني وغيرهم. ملخص رأيه في الصرفة أنها إنما كانت بأن سلب الله العلوم من كل من رام المعارضة التي يحتاج إليها. فالعرب، طبقا للشريف المرتضى، بلغاء بالفطرة. يقدرون على مثل نظم القرآن فقط، ولا يستطيعون الإتيان بمثل معانيه. والمثل في الفصاحة التي دعوا إلى الإتيان به هو ما كان المعلوم من حالهم تمكنهم منه وقدرتهم عليه؛ وهو المتقارب والمداني؛ لا المماثل على التحقيق؛ الذي ربما أشكل حالهم في التمكن منه.
ثم كان لابن سنان كتاب “سر الصرفة”؛ وفيه ينفي إعجاز نظم القرآن؛ وأنه لم يخرق العادة بالفصاحة؛ وكل فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله. إلا أن الله صرفهم عن ذلك بسلب العلوم الممكنة من ذلك. وهذا الكتاب مفقود بكل أسف، غير أن معظم الباحثين يقولون إنه اختصار لكتاب الشريف المرتضى.
يلاحظ مما سبق أن القول بالصرفة تطور نوعا ما، فكانت فكرة مبسطة عن النظام، وأضاف لها الجاحظ قليلا، ثم تبلورت على يد الشريف المرتضى وابن سنان اللذان وضحا بدقة الكيفية التي تحققت بها. غير أنه قد يلاحظ هنا أن تلك الأسماء محصورة بين المعتزلة والشيعة. فعلى خلافهم؛ كان هناك ممثلا للمدرسة السنية بمعناها الخاص وقال بالصرفة؛ وهو ابن حزم الأندلسي الذي قال إنه، لو كان إعجازه لكونه في أعلى درج البلاغة، لكان لا حجة فيه؛ لأن هذا يكون في كل من كان في أعلى طبقة؛ ولو كان في أعلى درج البلاغة لنزع عنه الصفة الإلهية؛ ولكان بمنزلة الحسن وسهل بن هارون والجاحظ وشعر امرئ القيس.
الأدلة العقلية على الصرفة لدى القائلين بها
هل هناك أدلة عقلية للقائلين بالصرفة؟
نعم، هناك أدلة ارتكنوا إليها، وتلك الأدلة وضحها أبو القاسم البلخي بقوله: واحتج الذين ذهبوا إلى أن نظمه ليس بمعجز، إلى أن الله تعالى أعجز عنه؛ فأنه لو لم يعجز عنه لكان مقدورا عليه؛ بأنه حروف قد جعل بعضها جنب بعض؛ وإذا كان الإنسان قادر اعلى أن يقول (الحمد)، فهو قادر على أن يقول (لله). ثم كذلك القول في كل حرف، وإذا كان هكذا، فالجميع مقدور عليه لولا أن الله أعجز عنه.
خلاصة القول لدى البلخي، هي:
أولا: أن جميع مفردات وألفاظ القرآن هي من وضع العرب.
ثانيا: حتى أن أسلوب القرآن في التركيب هو أسلوب العرب؛ غير أنه جاء بطريقة مخالفة؛ فجاء على طريق النثر ولم يكن شعرا ولا سجعا.
في هذا السياق، قال الشريف المرتضى في “الموضح”، في باب “الدليل على أن نظم القرآن ليس بمعجز”: أما قول الوليد بن المغيرة (قد سمعت الخطب والشعر وكلام الكهنة وليس هذا منه في شيء)؛ فيحتمل أن يكون مصروفا إلى أنه مباين لما سمع في طريقة النظم: لأنه لم يعهد بشيء من الكلام مثل نظم القرآن. وقوله “إن هذا إلا سحر يؤثر”، إنما عني به ما وجد في نفسه من تعذر المعارضة إذا رامها، مع تمكنه من التصرف في الكلام الفصيح وقدرته على ضروبه؛ لأنه لما تعذر عليه ما كان مثله على العادة ممكنا متأتيا، ظن أنه قد سحر؛ ويكون قوله “إن هذا إلا سحر يؤثر” إشارة إلى حاله وامتناع ما امتنع عليه، لا إلى القرآن.
لابد أن نشير هنا إلى أن محمد أبو موسى، في “الإعجاز البلاغي”، نقلا عن إبراهيم منصور في القول بالصرفة في “إعجاز القرآن _عرض ودراسة”، قد أشار إلى أن ثمة تشابه بين الصرفة والسحر، بأن الامتناع عن المماثلة في كليهما من خارج الشيء لا من ذاته، فالقول بالصرفة لا يفيد بأن العرب لم يكونوا عاجزين؛ ولكن حيل بينهم وبين العمل على المماثلة وكذلك الأمر في السحر يشدهم حتى يعجزوا…
ثالثا: أن اللسان العربي، حين نزول القرآن، كان قد نضج واكتملت اللغة؛ فإذا كان الأمر كذلك، فلمَ عجزت العرب عن معارضة القرآن وهم أهل كلام على السليقة وواضعوا العربية ألفاظا وتراكيب؟ الإجابة طبقا لهم بلفظة واحدة: الصرفة.
خلافا للقائلين بالصرفة، كان هنالك تيار كان قد عقد العزم على الكتابة في “بيان إعجاز القرآن” نظما وبلاغة وفصاحة من ناحية؛ ومن ناحية أخرى نقض فكرة الصرفة كوجه وحيد لإعجاز القرآن. كان أول هؤلاء الخطابي، فيقرر في بداية الرسالة بأن الناس قديما وحديثا قد ذهبوا في الموضوع كل مذهب من القول؛ ولم يصدروا عن رأي. لذلك، تعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن. ثم يرفض فكرة الصرفة لأن هذا يتنافى مع آية “قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا”.
هذا الدليل سيرد عليه الشريف المرتضى في “الموضح في الصرفة”. ثم يرد الخطابي الإعجاز بورود الأخبار المستقبلية؛ لأن الإخبار بالغيب ورد في بعض آي القرآن دون بعض. ولو كان الأمر كذلك، لكان بعض القرآن معجزا دون بعضه. بل إن الإعجاز عند الخطابي بأن القرآن جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظم التأليف، متضمنا أصح المعاني وبيان مناهج عباده، من توحيد وتحليل وتحريم. فالإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق، هو أمر تعجز عنه قوى البشر. ثم إن القرآن له وجه آخر من وجوه الإعجاز ذهب عنه الناس، على حد قوله، هو تأثيره في النفوس وصنيعه بالقلوب كما سبق القول. هذه فكرة سيكثر القول عليها الجرجاني في “أسرار البلاغة”.
ثم يأتي الرماني بعد ذلك، فيكتب “النكت في إعجاز القرآن”، وهي رسالة عبارة عن جواب على سؤال وجه له عن “ذكر النكت في إعجاز القرآن دون التطويل بالحجاج”، فيجيب بأن الإعجاز يظهر من سبع جهات: ترك المعارضة والبلاغة والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلية، والتحدي للكافة؛ والصرفة، والمعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة، وقياسه بكل معجز ونقض العادة. ثم إنه يعتبر الفواصل حروفا متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعاني؛ والفواصل بلاغة والأسجاع عيب؛ الفواصل تابعة للمعاني، بينما الأسجاع، المعاني تابعة لها، وجعلها نوعان: متجانسة ومتقاربة.
ولعل الرماني هنا يرد على فكرة الجاحظ الذي اعتبر القرآن، بمجموعه، مماثلا للديوان من الشعر، فالسورة تماثل القصيدة من الديوان، والآية من السورة تماثل البيت من القصيدة، والفاصلة في الآية تماثل القافية من البيت.
في الإتقان، ينسب السيوطي هذا للجاحظ، فيقول: سمي الله كتابه مختلفا لما سمى العرب كلامهم على المجمل والتفصيل. سمى جملته قرآنا كما سموا ديوانا، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضه آية كبيت، وآخرها فاصلة كقافية. هذه الفواصل القرآنية سيعتبرها الرافعي صورا تامة للأبعاد التي تنتهي بها الجمل الموسيقية… غير أن معروف الرصافي في “الشخصية المحمدية” سيعتبر أن تلك الفواصل هي الطابع الذي يمتاز به أسلوب القرآن. عند معروف الرصافي، الفواصل القرآنية كالقوافي في القصائد الشعرية، غير أن الإقواء معيبة في القوافي وليست معيبة في الفواصل، والتضمين معيب في القوافي وغير معيب في الفواصل. بذلك، تكون الفواصل القرآنية غير مفيدة بتلك التي تفيد الكلام المسجوع.
ثم يأتي الجرجاني، شيخ البلاغيين، فيكتب “الرسالة الشافية” في الإعجاز، ويتناول فيها بعض نواحي فكرة الإعجاز، وأخصها إثبات إعجاز العرب عن معارضة القرآن. العبرة عنده بعجز العرب المعاصرين للرسول حين نزول القرآن؛ ومن هذا الأصل، ينتقل الجرجاني للنظر في أحوال العرب حين سمعوا القرآن وتحديه لهم. غير أن المتأمل لرسالته يجد حيز تأكيد حقيقة الإعجاز أشمل من توضيح معالمه. غير أنه استطرد وأسهب في ذلك في كتابه الواسع “دلائل الإعجاز” وكان قد تعرض لمقولة الصرفة في موضع واحد فقط بكتابه هذا، للتوسع في الردود على كتاب المغني للقاضي عبد الجبار.
كان الجرجاني قد ذكر أنه من لوازم القول بالصرفة، أنه يلزم منه أن العرب قد تراجعت في البلاغة والبيان بعد نزول القرآن. وأن كلام العرب كان موازيا للقرآن من حيث نظمه وفصاحته قبل نزول الوحي… ويلزمهم أن يكونوا قد عرفوا أنفسهم فقدان علوم وقدرة كانت حاصلة لهم قبل نزول الوحي ولظهر ذلك على ألسنتهم. وظاهر أنه يرد هنا على مقولة الصرفة عند الشريف المرتضى. ثم أنه قد حدثت محاولات فاشلة لمعارضة القرآن من مسيلمة وغيره، وفي هذا رد على من يقول بالصرفة، إذ لو صرفوا حقا، لما كان هناك كل تلك المحاولات بداهة.
أما القاضي عبد الجبار، وهو المعتزلي، فرأيه مخالف لرأي سلفيه النظام والجاحظ في الصرفة؛ فقد تحدث كثيرا في تعليل انصراف العرب عن محاولة معارضة القرآن على ما عرف من صفاتهم وصفات التحدي الذي دعت الحاجة إليه. وقد افترض أمرين: إما أنهم قادرون على المعارضة، ولكنهم لم يفعلوا، وهذا مرفوض عقلا؛ وإما أنهم غير قادرين وقد أدركوا ذلك واستيقنته أنفسهم، فانصرفوا عن ذلك حتى لا يفتضح أمرهم. هذا الانصراف من العرب الذي حدث، ليس صرفا خارجيا أو جبرا من الله لهم عن المعارضة. فليس حفاظا على المعجزة القرآنية حتى لا تنفض بإمكانية المعارضة كما قال النّظام، أو حتى كي لا يطمع في القرآن كما قال الجاحظ. غير أن الشريف المرتضى قد رد عليه ردا مطولا في “الموضح”…
كانت هذه سجالات القدماء في وجه إعجاز القرآن. فما هو رأي المحدثين لهذه القضية؟
سأعرض لرأي محدثين فقط، عربي ومستشرق، والمستشرق هو نولدكه في تاريخ القرآن، أما العربي فهو معروف الرصافي في “الشخصية المحمدية أو سر اللغز المقدس”.
أما نولدكه، فيقول: إذا تفحصنا تحدي محمد عن كثب، اكتشفنا أنه لم يتحدَّ خصومه بأن يأتوا بما يضاهي القرآن من ناحية شعرية أو خطابية، بل بما يضاهيه من حيث الجوهر. وهذا ما لم يكن في وسع أعدائه بطبيعة الحال. فكيف كان لهم أن يدافعوا عن الإيمان القديم بالآلهة وكانوا على اقتناع شديد به، بالطريقة نفسها التي دافع فيها عن وحدة الله وما يتعلق بها من عقائد؟ هل كان بإمكانهم أن يجعلوا الآلهة تتكلم؟ لم يكن هذا ليكون إلا سخرية أو سخافة. أو هل كان لهم أن يتحمسوا لوحدة الله ويناضلوا ضد نبوءة محمد؟ في هذه الحال، لن يكون في وسعهم إلا نسخ القرآن الذي آرادوا أن يأتوا بما يضاهيه، والمثال يقارن بالأصل. إن إيمان محمد كان إيمانا صادقا تجاه قومه، وخلق بنفسه تعبيرا أصيلا عنه. لم يكن بإمكانهم تقليده، وزادت حيرة أسلوبه في صعوبة ذلك بقدرغير يسير…
أما العراقي معروف الرصافي، فيقول في فصل “هل القرآن معجز”، ما ملخصه: إذا نظرت فيما كتبوه (يقصد الباقلاني والجرجاني والخطابي وغيرهم) في مسألة إعجاز القرآن بإمعان وتأن، رأيتهم يتكلمون عن إيمان واعتقاد، لا عن تدبر وتفكير. إن مسألة الإعجاز لو اعتبرت مسألة فنية أدبية محضة، لكان للمنطق فيها مجال، وللحجج والبراهين فيها حيال ونزال، ولكن كيف والأفكار غير حرة؟
في معنى التحدي والمعارضة، يقول: تحدى فلان فلانا إذا نازعه الغلبة ودعاه أن يفعل مثل فعله ليعلم أيهما الغالب. في هذا، يكون أفعال البشر قسمان: جسمانية وروحانية. بعبارة أخرى، جسمية وقلبية.
هناك أفعال القلوب التي تقوم بالنفس لا بالجسم كالعلم والظن والمخالة والحسبان، وأن الناس في أفعال القلوب مختلفون كل الإختلاف، وبعيدون في التساوي فيها كل البعد، حتى يكون أحدهم منها الثريا والآخر في الثرى.
جدير بالذكر هنا أن نقول إن الرافعي في كتابه المذكور قال شيئا قريبا من هذا كوجه من وجوه إعجاز القرآن، أن تركيب الكلام يتبع تركيب المزاج الإنساني، وأن جوهرالإختلاف بين الأساليب الكتابية إنما هو في صورة الفروق الطبيعية التي بها اختلفت الأمزجة، كالعصبي البحت، والعصبي الدموي، فكل أسلوب في إنشاء كل بليغ متمكن ليس إلا مزاجا طبيا للكلام. وما الكلام إلا صورة فكرية من صاحبه. وقد أمعنا في هذا الاستنتاج حتى صار لنا أن نستوضح أكثر أوصاف الكاتب من أسلوب كتابته، برد ذلك إلى الأوصاف النفسية التي تكون من تأثير الأمزجة، ولا ريب في أن الكلام الذي يتفاهم به الناس هو المعنى الذي يحيك في القلوب ويجول في النفوس، وهو بهذا المعنى يعد من أفعال القلوب، فإذا علمت ذلك فاعلم أن معارضة الكلام والإتيان بمثله من كل الوجوه تكاد تكون من المستحيلات. ومن يقارب يكن مقلدا في الكلام لا معارضا أو ناسخ كما فعل مسيلمة، إذ حاول أن يقلد بكلامه القرآن فلم يأت إلا بسخيف لا طائل فيه.