الصرفة وإعجاز القرآن: هل صرف الله العرب عن الإتيان بمثل القرآن فصاحة ونظما وبلاغة؟ - Marayana - مرايانا
×
×

الصرفة وإعجاز القرآن: هل صرف الله العرب عن الإتيان بمثل القرآن فصاحة ونظما وبلاغة؟

… بالتزامن مع الباقلاني، سيكتب الخطابي والرماني في “إعجاز القرآن”، غير أن الملفت هنا في الحِجاج الموجه ضد القرآن هذه المرة، هو النقد الموجه للمتن القرآني نفسه، بلاغة وفصاحة.
قبل ذلك، كان الحِجاج يتم بإنكار بعض الأخبار الواردة فيه، أوبعض صوره كسورة يوسف، كما حدث مع العجاردة، المنتسبين إلى عبد الكريم بن عجرد، أواخر القرن الأول…
والسؤال إذن: إعجاز القرآن، أين يكمن؟ هل في مقدور أحد الإتيان بمثل القرآن بلاغة ونظما أم لا؟ وإن كانت الإجابة بلا، فما سبب ذلك؟ هل هو عجز ذاتي، أم علة خارجية؟

بداية التأليف في إعجاز القرآن

أول كتاب عرفناه، يحمل عنوانه لفظة “إعجاز”، كان كتاب “إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه”، لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المعتزلي المتوفي 306 هجرية، وهذا الكتاب مفقود.

كانت الفترة التي تجمع بين القرن الثالث والرابع الهجري هي فترة كتابة وحجاج ضد نظم القرآن. لذلك، كانت الفترة بين القرن الرابع والخامس الهجري؛ فترة خصبة في تاريخ الدراسات القرآنية، الباقلاني، مثلا، كان قد لمح إلى أن السبب الذي من أجله وضع كتابه “إعجاز القرآن” يختلف عن السبب الذي حدا بالجاحظ إلى تصنيف “نظم القرآن”؛ فالدلالة التي حملتها عناوين الكتابين ظاهرة، نظم القرآن للجاحظ ليس إلا توكيد القول في بلاغة وفصاحة القرآن والكشف عنها، وهذا وقت لم تكن علوم البلاغة قد عرفت بعد. أما “إعجاز القرآن” للباقلاني، فيؤكد على وجود “المعجزة”، وهذا يعني أن هناك من كان ينكرها.

بالتزامن مع الباقلاني، يكتب الخطابي والرماني في “إعجاز القرآن”؛ وهي كتب بعضها من بعض بتعبيرالرافعي. غيرأن الملفت هنا في الحِجاج الموجه ضد القرآن هذه المرة، هو النقد الموجه للمتن القرآني نفسه، بلاغة وفصاحة.

قبل ذلك، كان الحِجاج يتم بإنكار بعض الأخبار الواردة فيه، أوبعض صوره كسورة يوسف، كما حدث هذا على يد العجاردة المنتسبين إلى عبد الكريم بن عجرد أواخر القرن الأول… وعلى كل، وكي لا نبتعد كثيرا عن سياق مقالاتنا، إعجاز القرآن، أين يكمن؟ هل في مقدور أحد الإتيان بمثل القرآن بلاغة ونظما أم لا؟ وإن كانت الإجابة بلا، فما سبب ذلك؟ هل هو عجز ذاتي، أم علة خارجية؟

القرآن. الصرفة كحجاج اسلامي علي معارضي

جرت العادة في التاريخ الإسلامي بنسب فكرة الصرفة لإبراهيم بن سيار النّظام.  وفكرة الصرفة ببساطة وسيأتي تعريفها تفصيلا بعد قليل؛ هي أن العرب لديهم القدرة على الإتيان بمثل القرآن فصاحة ونظما وبلاغة؛ ولكن الله صرفهم عن ذلك. هناك من يربط بين فكرة النّظام وبين الكتب التي صنفت في “إعجاز القرآن” ربطا مباشرا؛ وإن كنا نرى خلاف ذلك.

ما الذي تعنيه الصرفة؟

معنى الصرفة في اللغة حسبما جاءت في “تهذيب اللغة” مصدر الفعل صرف، بمعنى أبعد، ومنه صرف الشيء عن وجه إلى جهة أخرى. وبمعناها الإصطلاحي في أبسط صورها : صرف الله همّ العرب عن معارضة القرآن.

إن للصرفة تعريفات مختلفة وجدناها عند كل من الخطابي والرماني والباقلاني والشريف المرتضى وحمزة العلوي في الطراز.

كل هذه التعريفات لا يختلف مضمونها عما أوردناه بصورة مبسطة. غير أن الصرفة، كما أوردها النظام، هي أبسط ما قيل في تلك النظرية. وهذه آية كل نظرية فترة نشوئها؛ فللصرفة ثلاث أشكال أو تفسيرات في تراثنا؛ جمعهم حمزة العلوي في كتابه الطراز (الجزء الثالث ص 391)، فقال في:

ــ التفسير الأول: أن يريدوا بالصرفة أن الله سلب دواعيهم إلى المعارضة؛ مع أسباب توفر الدواعي في حقهم حاصلة من التقريع بالعجز والاستنزال عن المراتب العالية.

ــ التفسير الثاني: أن يريدوا بالصرفة أن الله سلبهم العلوم التي لابد منها في الإتيان بما يشاكل القرآن ويقاربه. ثم إن سلب تلك العلوم يمكن تنزيله على وجهين: الأول: أن يقال إن تلك العلوم كانت حاصلة لهم على جهة الإستمرار، لكن الله أزالها عن أفئدتهم ومحاها عنهم. وثانيا: إن تلك العلوم ما كانت حاصلة لهم، خلا أن الله صرف دواعيهم عن تجديدها؛ مخافة أن تحصل المعارضة.

ــ التفسير الثالث: أن يراد بالصرفة أن الله منعهم بالإلجاء على جهة القسرعن المعارضة، مع كونهم  قادرين وسلب قواهم عن ذلك؛ فلأجل هذا لم تحصل من جهتهم المعارضة . وحاصل الأمر في هذه المقالة، أنهم قادرون على إيجاد المعارضة للقرآن، إلا أن الله منعهم بما ذكرناه.

خلافا لذلك، هنالك من يحصر الصرفة بين فريقين، فريق يقول بصرفة تنكر الإعجاز البلاغي للقرآن، ويرون بأن الإعجاز القرآني يكمن في الإخبار بالغيب أوالأمورالمستقبلية. ومثّل هذا الرأي النّظام وهشام الفوطي وجعفر بن حرب الهمداني وعباد بن سليمان.. والثاني، فريق يقول بعجز ذاتي في القرآن وعجز عارض، أو عجز بلاغي وعجز بالصرفة؛ ومثل هذا الرأي الجاحظ والرماني والشريف المرتضى وابن سنان الخفاجي والراغب الأصفهاني.

نشأة الصرفة

لكن كيف نشأت فكرة الصرفة؟ وما مصدرها؟ هل هي نتيجة منطقية لإعتقادات داخلية، أم نتيجة لأفكار ونوازع خارجية؟

يكاد يجمع الباحثون على أن مقولة الصرفة نشأت بين المعتزلة في أواخرالقرن الثاني وبداية الثالث الهجري خاصة مع بداية الجدل الكلام في القرآن؛ وأول من قالها إبراهيم بن سيار النّظام. بيد أنهم مختلفون في كيفية نشأتها، فمنهم من يقول بأنها إسلامية خالصة، ومنهم من يقول بخلاف ذلك. غيرأن من يقول بأنها وافدة أو دخيلة يختلفون في مصدرها الخارجي. مصطفى صادق الرافعي، على سبيل المثال، يشير في كتابه “إعجاز القرآن والبلاغة النبوية”، إلى أن الصرفة نشأت نتيجة تأثرالمعتزلة بكتب الفلسفة اليونانية؛ غير أنه لم يوضح لنا كيفية حدوث التأثر هذه.

خلافا لذلك، فهناك فريق أخر يزعم بأنها نتيجة تأثر بالبراهمة وكتاب الفيدا؛ كتاب الفيدا عند الهنود، كتاب مقدس ومعجز، ووجه إعجازه في الصرف عن معارضته تأدبا معه واحتراما له. ولقد قال عنهم البيروني ذلك في كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة”، ص 98.

اعتمد هذا الرأي الشيخ محمد أبو زهرة في “المعجزة الكبرى” حينما أشار إلى أن النّظام قد أخذ هذا الرأي عن البراهمة بعد ترجمة كتبهم في عهد المنصور ومن بعده من الخلفاء، فأخذ النّظام ينتصر لهذا الرأي بأقيسته المتعجلة وأدلته المتسرعة. وقد رد رأي الشيخ محمد أبو زهرة محمد أبو موسى في “الإعجاز البلاغي” وقال بأنه لا يفهم مما ورد عن البراهمة فكرة الصرفة. غير أن الدكتورعبدالرحمن بن معاضة في “القول بالصرفة في إعجاز القرآن” قد رأى بأن محمد أبو زهرة قد يكون محقا بأن النّظام محتمل أن يكون قد أخذ أصل الفكرة دون تفاصيلها عن البراهمة.

من جانبنا، نرى أن مصدر الصرفة اعتقادات إسلامية خالصة. بعض آي القرآن قد يفهم منها فكرة الصرفة ومنها على سبيل المثال: “سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون بغير الحق”، أو “ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنا يصرفون”.

من جهة أخرى، فهذه الفكرة، بما أنها نشأت بين المعتزلة، فهي نتيجة منطقية لفكرة التوحيد الإلهي عند المعتزلة. حرصا منهم على التنزيه المطلق للذات الإلهية، نفوا الصفات الذاتية وتأويل الصفات الخبرية وذهبوا إلى إنكار أن يكون الله قد تكلم بالقرآن حقيقة من جانب آخر، فأدى ذلك من جانب إلى القول بخلق القرآن. فينزهون الله عن الألفاظ والحروف، ومنه ينسبون القرآن إلى غيره؛ فالقرآن مخلوق في محل قائم بذلك المحل، ويستحيل أن يكون في مكانين في حالة واحدة. الذي نقرؤه هو حكاية عن المكتوب الأول في اللوح المحفوظ. أما ما نقرؤه فهو من خلقنا وفعلنا  _الملل  والنحل  للشهرستاني _. بعبارة أخرى، فمعنى أو معاني القرآن من عند الله، أما لفظه ونظمه فمن عند محمد.

يترتب على ذلك فقدان صفة الإعجاز. فالمعجز هو معاني القرآن لأنها صادرة عن الله. إذن، ففكرة الصرفة نتيجة منطقية للأصل الأول من الأصول الخمسة لدى المعتزلة، وليس تأثرا بنوازع خارجية ككتاب الفيدا كما قال أبو زهرة، أو تأثرا بالفلسفة اليونانية كما قال الرافعي.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *