من مصر، محمد حميدة يكتب: رياح التوتر شرقا
لا شك أن العلاقات بين دول شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط مع الغرب وفي المقدمة واشنطن لن تصل لمراحل متقدمة من التوتر في الوقت الراهن، لكن المؤكد أن إعادة هندسة العالم والعلاقات الدولية في المرحلة الحالية ستترك أثرها بما يعيد توازن آليات التعاون وأشكال التعامل مع الغرب بصورة مغايرة عما سبق، لا ترغب واشنطن في ترسيخها
قبل فترة ليست بالبعيدة، حاولت واشنطن دفع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نحو المشاركة في عمليات عسكرية ضد إيران، أو السماح باستخدام أراضيها من قبل إسرائيل لتنفيذ عمليات نوعية تهدف بالأساس لوقف الاتجاه شرقا، وتنامي التقارب بين الدول العربية والصين وروسيا من الأخرى، والذي يعزز محور الشرق بصورة أكرى من الناحية الاقتصادية والاستثمارات والتكامل المأمول.
مواقف متراكمة خلال الفترة الماضية، على الصعيد الدولي، تأسست مع بداية الأزمة في أوكرانيا، تلاها فتور بين الإدارة الأمريكية والعديد من الدول العربية رغم أن بعضها غير معلن كليا، وتبين بشكل سريع أن مواقف العرب أزعجت واشنطن التي حاولت الحفاظ على عدم الذهاب لأبعد من ذلك في التوترات، لكنها راحت تبحث عن وسائل أخرى للرد.
ربما كان أحد الخيارات المؤجلة لواشنطن هو تأجيج المنطقة مجددا عبر الصدام الإسرائيلي الإيراني، وإشعال الجبهات في مرة أخرى، ومعها أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل بتنفيذ هجمات ضد منشآت أصفهان الإيرانية، والتي ستتبعها بعمليات أخرى مشابهة في إيران أو بعض الدول العربية التي تعاني من أزمات أمنية منها العراق وإيران وسوريا واليمن.
قد ترى واشنطن أن تأجيج المنطقة يحقق لها ولحليفتها إسرائيل العديد من الأهداف، فمن جهة، تسعى إسرائيل لمنع إيران من امتلاك قنبلة نووية، وربما هو الأمر الذي تتماهى معه العديد من الدول العربية خشية الصدام المستقبلي مع إيران المبني على الحالة الراهنة التي تشتبك فيها طهران والعواصم العربية إثر وجود بعض الكيانات التي تدين بالولاء لطهران في عواصم عربية، لكن هذا التوجه لا يمنع تروي قادة المنطقة والتمسك بخيار الحوار وخفض التصعيد دون الانزلاق لأعمال ضد طهران رغم الحالة شديدة التوتر معها، فيما تسعى للحد من تداعيات هذا الصراع على المنطقة، وتراقب حسم الملف النووي الإيراني.
حمل الهجوم رسائل عدة منها ما هو للموقف العربي، ومنها لإيران ودول أخرى منها الصين وروسيا، وهي محاولة لخلط الأوراق وتعقيد المشهد بشكل أكبر، إذا وضعنا في الحسبان عامل التوقيت، وتزامن الهجوم مع زيارة بلينكن للقاهرة ومن بعدها رام الله وتل أبيب، إضافة إلى استهدف عدة شاحنات على الحدود السورية- العراقية، والأوضاع التي اشتعلت مؤخرا في فلسطين المحتلة إثر مداهمات نفذتها قوات الاحتلال في جنين.
من نظرة ثنائية، يمكن افتراض واقعية التوتر بين إسرائيل وإيران في سياق ممتد منذ سنوات، لكن النظرة الأعم تفرض رؤية أخرى تؤكد أنها ليست بمعزل عن السياق العالمي والحضور الصيني والروسي في المنطقة العربية والشرق الأوسط بصورة أكبر عما سبق واتجاه العديد من الدول نحو الشرق وتجمع “بريكس” والتوقعات التي تشير إلى النمو الكبير في شرق العالم وتوافر العديد من العوامل المؤهلة لذلك، وهو ما تخشاه واشنطن وإسرائيل كون تطور هذه العلاقة حتى وإن ظلت متوازنة بين الشرق الأوسط ودول مثل الصين وروسيا، فهي على حساب الحضور الأمريكي والغربي. لذا، كان الخيار الأمثل هو “ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد”، الأول هو محاولة منع إيران من امتلاك القنبلة النووية، والثاني صرف الأنظار في الداخل الإسرائيلي نحو الأزمة الخارجية بما يحقق تراجع أو وقف الاحتجاجات ضد نتنياهو، وتعزيز الخطوة بإشعال الوضع داخليا ما تطلب فرض حالة أمنية في معظم المدن، وبالتالي يحافظ نتنياهو على وجوده.
أما العصفور الثالث فهو مرتبط بالشرق الأوسط والمنطقة العربية، وخاصة منطقة الشام والخليج، والتي حتما ستتوتر مع تكرار مثل هذه العمليات ضد منشآت إيرانية أو جماعات في سوريا والعراق واليمن ولبنان على صلة وثيقة بإيران، وهو ما سيدفع هذه الأجسام المسلحة للرد نظرا لعدم وجود حدود مباشرة بين إسرائيل وإيران، الأمر الذي يحقق لواشنطن العديد من الأهداف في المنطقة:
منها تعطيل المشروعات الاقتصادية والاستثمارات التي تخطط لها الصين في الخليج، ورداعلى التقارب الإيراني الروسي خاصة على المستوى العسكري، وزعزعة الوضع في الخليج عبر اليمن والعراق ولبنان أيضا بما يفرض الحاجة لواشنطن مرة أخرى لتحقيق معادلة الأمن.
كما أن أحد الأهداف تتحقق بتوتر المنطقة باعتبارها ردا أمريكيا على المواقف العربية التي التزمت الحياد ولم تنفذ الرغبات الأمريكية، وإرسال رسائل للشرق الأوسط بأن مفاتيح اللعبة ما زالت في يدها.
لا شك أن العلاقات بين دول شمال إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط مع الغرب وفي المقدمة واشنطن لن تصل لمراحل متقدمة من التوتر في الوقت الراهن، لكن المؤكد أن إعادة هندسة العالم والعلاقات الدولية في المرحلة الحالية ستترك أثرها بما يعيد توازن آليات التعاون وأشكال التعامل مع الغرب بصورة مغايرة عما سبق، لا ترغب واشنطن في ترسيخها.