قانون الإطار الجديد للنظام الصحي: هل يبتعد النموذج المغربي عن الدولة الاجتماعية؟ 1\2
يبتعد المغرب كل يوم عن النموذج الاجتماعي المهيمن في أفضل البلدان في مجال الصحة العمومية، حيث يكون القطاع العام في الخطوط الأولى. كما أننا نبتعد كل البعد عن مقولة بنيامين ديسريلي (Benjamin Disraëli)، رئيس الوزراء البريطاني المحافظ في 1878:
“الصحة العمومية هي أساس سعادة الشعب وقوة الدولة (…) لهذا أعتبر أن الصحة العمومية هي الواجب الأول لكل رجل الدولة”.
التحليل المقارن للقانونين الإطارين لعامي 2011 و2022 المتعلقين بالنظام الصحي، إلى جانب رصد تشابهات قوية واختلافات بسيطة وكذلك بعض التراجعات في مسؤولية الدولة، يثير تساؤلات عديدة حول حقوق المرضى والمهنيين والجوانب السياسية والقانونية والمؤسساتية وعن الموارد البشرية والتمويل والرقمنة والحكامة وجودة الرعاية والتكلفة المناسبة واللامركزية، إلخ.
قبل كل شيء، من الواضح أن القانون الإطار الجديد (06ـ22) نسخ النص (34ـ09) الذي سبقه إحدى عشر سنة خلت في مجمل مواده، دون ذكره ولو مرة واحدة ودون الإعلان عن إلغائه لا ضمنيًا ولا صراحةً. أين ذهب قانونيو الأمانة العامة الحكومة، الهيئة المسؤولة عن التحقق من مطابقة المشاريع القانونية للأحكام الدستورية وتوافقها مع النصوص التشريعية والتنظيمية المعمول بها؟
لماذا تم حجب قانون لا يزال ساري المفعول، وكذلك مرسومه التطبيقي المفصل (ذو 57 مادة بما فيها تلك المتعلقة بالخريطة الصحية ومسار الرعاية)؟ لماذا لم يتم الاكتفاء بتغيير بعض مواد القانون الإطار القديم؟ لماذا لم تُصْدر كل مراسيمه وقراراته التطبيقية؟ لقد رصدت منظمة الصحة العالمية عددا كبيرا من النصوص التي لم تر النور مطلقًا والمتعلقة بـمعايير الصحة والجودة والسلامة والاعتماد والحوكمة والنظام المعلوماتي والمؤسسات الاستشارية، والشراكة بين القطاعين العام والخاص؛ كلها مجالات أساسية للإدارة اليومية للقطاع، ولا تتطلب خوض مسار تشريعي جديد بأكمله.
فيما يتعلق بالشكل، كان التجديد في إضافة ديباجة (من صفحة ونصف)، أطول من ديباجة الدستور (صفحة واحدة)، والتي تحتوي على مضامين متناقضة في بعض الأحيان مع مواد النص. ما هي القيمة القانونية لديباجة قانون إطار في المغرب؟ من المؤكد أن ليس لها قيمة ديباجة الدستور الفرنسي لعام 1946، الذي أدى إلى القرار الشهير للمجلس الدستوري.
من ناحية أخرى، من خلال حذف عنوان الفصل الأول: “مسؤولية الدولة في تحقيق أهداف ومبادئ المنظومة الصحية”، واستبداله بـ “أحكام عامة”، وشطب الفقرة الأخيرة من المادة الثانية: “تقع إعمال هذه المبادئ أساساً على عاتق الدولة،” يتَبيَّنُ لنا بوضوح هدف المُشرِّع. كما تؤكد الإشارة إلى المادة 31 من دستور2011، التوجه الاستراتيجي للدولة الذي لم يعترف، إلا في دستوره الخامس بعد الاستقلال، بالحق في الصحة والحماية الاجتماعية وذلك بعد تذويب مسؤولية الدولة وتقاسمها مع 269 مؤسسة عمومية، و1625 مجموعة ترابية (ذات الميزانيات الاجتماعية الهزيلة) ومع الساكنة (التي يعيش ثلثاها في هشاشة).
في تصريحاته العديدة وعروضه التقديمية، أصر وزير الصحة والحماية الاجتماعية على الدور المحوري للقطاع الخاص. غير أن المناطق القروية والجبلية الفقيرة التي لا يستثمر فيها القطاع الخاص تعرف نقصاً حاداً في الموارد البشرية الصحية وتدهوراً في الخدمات، كما هو الحال مع الانخفاض الدراماتيكي في عدد أطباء التخدير والإنعاش والجراحة في جميع أصنافها. نحن نقترب من النموذج الليبرالي الأمريكي دون امتلاك وسائله ومؤسساته الخيرية وعدالته؛ مع العلم أن تكلفته عالية ونتائجه سيئة من حيث التضامن، الإنصاف والولوج إلى العلاج. المغرب، البلد الذي يصنفه البنك الدولي بين البلدان المتوسطة الدخل في الشريحة الدنيا، يبتعد كل يوم عن النموذج الاجتماعي المهيمن في أفضل البلدان في مجال الصحة العمومية، حيث يكون القطاع العام في الخطوط الأولى. كما أننا نبتعد كل البعد عن مقولة بنيامين ديسريلي (Benjamin Disraëli)، رئيس الوزراء البريطاني المحافظ في 1878 : “الصحة العمومية هي أساس سعادة الشعب وقوة الدولة (…) لهذا أعتبر أن الصحة العمومية هي الواجب الأول لكل رجل الدولة”.
التكوين الطبي والبحث العلمي
تحتوي مسودة المشروع على مستجد آخر يتمثل في رغبة وزير الصحة والحماية الاجتماعية في التكلف بهاذين المجالين الذين يوجدان حالياً ضمن اختصاصات وزير التعليم العالي؛ وقد علل هذا الطموح بتمكين المتخرجين من الاستفادة التطور التكنولوجي، كأن الصحة العمومية تمتلك أحسن التجهيزات. كيف سيتم توزيع المهام والمسؤولين والموارد المالية والمادية بين الوزارتين؟ وهي أشياء معقدة ومتشابكة، لدرجة أن الفصل لن يكون بدون أضرار على الوزارتين، وأكثر إزعاجًا لعملية التكوين المتذبذبة.
أمام ندرة الأساتذة الجامعيين والمُؤَطِرين، من سيُكوِّن سنويًا 3300 طبيب وصيدلي وطبيب أسنان؟ وهو وعد قديم للدولة مع المنظمة العالمية للصحة تم تأجيله إلى 2030. كيف ستكون جودة هذا التكوين؟ علما أن العديد من المراكز الاستشفائية الجامعية التي تم إنشاؤها مؤخرًا لا تملك التخصصات الأربعين اللازمة لتستحق هذا التصنيف (CHU). على سبيل المثال، فإن المركز الاستشفائي لطنجة، الذي شُرِع في بنائه سنة 2015 ولم يبدأ تشغيله إلى حدود الآن، يعرف عدة مظاهرات من طرف المتدربين تطالب بتحسين جودة التكوين التي تتم حاليا في مستشفيات الصحة العمومية الإقليمية. المراكز الاستشفائية الأخرى تعرف نفس المظاهرات. ومع ذلك، تلتزم الحكومة ببناء ثلاثة مراكز استشفائية جامعية (CHU) وثلاث كليات طبية جديدة. لا أحد يعرف كيف سيكون تكوين الأطباء فيها؟
كنتيجة منطقية لانخفاض جودة التكوين والتدريب، لا يتقدم عدد كاف من المرشحين لشغر المقاعد الممنوحة للمتدربين وللمقيمين اللذين يفضلون متابعة تكوينهم في الخارج. السؤال المطروح هو: من سيتكلف بصحة المغاربة في السنوات القادمة ومع أي جودة في التكوين؟ هذه الأسئلة تطرح بنفس الحدة في كليات الطب الخاصة.
ومع ذلك، يريد المغرب أن يضاعف نسبة المهنيين الصحيين لـكل 10000 نسمة. سوف ننتقل من 17.4 في عام 2022، إلى 24 مهنيًا في 2025، وهو شيء شبه مستحيل. وحتى مع هذه الزيادة، من الصعب الحديث عن تغطية صحية شاملة، حسب المعايير القديمة للمنظمة العالمية للصحة المحددة في 45. مؤخراً، طالب باحثون بإيصال هذه النسبة إلى 108،9. من جهتها، فإن لجنة النموذج التنموي الجديد لم توصِ إلا بالنسبة القديمة.
من ناحية أخرى، فإن راتب الطبيب في الوظيفة العمومية يساوي راتب موظف حائز على الماجستير، وهو ما أساء كثيراً إلى هذه المهنة. بعد 17 عامًا من المطالب، قبلت الدولة تعويض الحاصل على الدكتوراه في الطب كالحائز على الدكتوراه في الآداب أو العلوم. إلى يومنا هذا، لم يتوصل الأطباء بأي أداء وبعضهم لن يستفيد قبل 2024. التعويضات عن الحراسة أو الإلزامية منخفضة بشكل غير طبيعي (من 72 إلى 386 درهم لكل حصة مكونة من 12 أو 16 ساعة). وهي تعويضات دنيئة مقارنة مع مثيلاتها في القطاع الخاص.
بالإضافة إلى ذلك، ربط القانون الإطار الحالي أجرة مهنيي الصحة والتقنيين والإداريين بالأعمال المهنية التي ينفذونها. هنا، يدخل محررو المشروع في مجال مجهول وصعب لم يدرسوا بما فيه الكفاية المخاطر والمتطلبات المسبقة والعواقب. أولاً، من الضروري أن يكون لديك نظام معلوماتي قوي يسمح بدفع مستحقات” الموظفين” في آجال معقولة، وقبل كل شيء أن يكون مُؤمَّنا من أي تلاعب، بحيث يتم إدخال الأعمال المهنية في قاعدة البيانات للمنتج الحقيقي طبقا للفواتير المرسلة لصناديق التأمين التي عليها كذلك أن تراقب مطابقة تصنيف الأعمال للجدول الرسمي، وهو ما سيكلفها كثيراً من الموارد البشرية ومن الوقت في طلب معلومات إضافية وفي التعويض. يجب علينا أيضًا الانتباه إلى التباينات بين أعمال التخصصات الطبية والتخصصات الجراحية. الفوارق الإقليمية سيكون لها أثر قوي على دخل الأطباء من نفس التخصص وفقًا لمكان التعيين أو التوظيف. كما يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن تعريفة المستشفى العام أقل من تلك المطبقة في القطاع الخاص، ويجب إيلاء اهتمام خاص لأتعاب أخصائيي التخدير. أخيرًا، يجب أن يكون لنا تقدير صحيح للميزانية الإجمالية المخصصة لهذه الطريقة العائمة في الأداء. بدلاً من كل هذه المتاهات التي لا يوجد لها مثيل في أي دولة اجتماعية، علينا أن نجد طريقة أخرى لتحفيز المهنيين الذين تعرضوا للحيف لعدة سنوات. بعد إعادة تقييم الأجور والتعويضات، ستكون المكافأة المرتبطة بإنتاجية جميع الموظفين واحدة من السبل التي يجب استكشافها في مصلحة الجميع؛ وهو موضوع يستحق المزيد من التفكير.
بالإضافة إلى ذلك، يجب إعادة الاعتبار إلى دور ومكانة الممرضات والممرضين في المنظومة وخلق ديبلوم ماجيستر في الممارسة المتقدمة للمساعدة في المناطق النائية.
أخيرًا، لا يزال السؤال المزعج: التكوين لماذا؟ لا علاقة لمناصب العمل المُحدثَة سنويًا (5500) بحاجيات الوزارة. هذا الرقم لا يكفي حتى لاستبدال المتقاعدين. كمثال على الخصاص الخطير في الموارد البشرية، نذكر أن عدد أطباء التخدير في القطاع العام انخفض من 250 إلى 200 في خضم أزمة كوفيد، مما أدى إلى أزمة صحية خطيرة وجدل قانوني غير مسبوق بين الوزير وممثلي ممرضي التخدير حين ألزمهم الوزير بتنفيذ عمليات جراحية عاجلة دون التغطية القانونية والطبية لأخصائي التخدير والإنعاش؛ علما أنه لا يمكنهم أداء بعض الأعمال الفنية المعقدة والأقل خطورة للمرضى. كما يشتكي الممرضون من الضغط النفسي ونقص السلامة في العمل. في هذه الظروف، يستمر البعض في الاندهاش أمام الهجرة غير مسبوقة للمهنيين، التي تتحمل فيها الدولة مسؤولية كبرى. سوف ينتظر المرضى الذين يتعين عليهم الخضوع للعمليات غير المستعجلة إلى أن يحل الوزير مشكلة الافتقار المقلق إلى أطباء التخدير الإنعاش والعديد من التخصصات الجراحية، إلخ.
المؤسسات الاستشارية
لم يتم خلق أي من الست مؤسسات استشارية المعلن عنها في قانون 2011. بل تم حذفها، بما في ذلك لجنة الأخلاقيات (Ethique)، رغم دورها البالغ الأهمية. كان من المتوقع أن يتم تأكيد سلطتها واستقلاليتها، وربطها مباشرة برئاسة الحكومة.
الهيئة العليا للصحة (HAS) و /أو الوكالة الوطنية للتأمين الصحي (ANAM)؟
الهيئة العليا للصحة (HAS)، التي سترى أخيرا النور» تتولى على وجه الخصوص: التأطير التقني للتأمين الاجباري للمرض، وتقييم جودة خدمات المؤسسات الصحية وإبداء الرأي في السياسات العمومية في ميدان الصحة «. هذه الصيغة المختصرة للغاية لا تعطي معلومات كافية عن النوايا الحقيقية للحكومة. في هذا المجال، تمنح تصريحات الوزير بعض المؤشرات حيث قال إن هذه الهيئة سيكون لها صلاحيات تنظيم (régulation) التأمين الاجباري عن المرض، لكن هذه المهمة تقوم بها حاليا الوكالة الوطنية للتأمين على المرض (ANAM)وفقًا للقانون 65-00 على التغطية الطبية الأساسية. هل يعني هذا أنه سيتم الاستغناء عن الوكالة؟
هنا، نبتعد عن المهام المخولة دوليا للهيئة العليا للصحة كسلطة علمية، متعددة التخصصات، مستقلة، مسؤولة عن ضمان جودة العلاج والرعاية الطبية والممارسات المهنية الجيدة، وبروتوكولات الرعاية، والخدمة المُقدمة في الأدوية واللقاحات والأجهزة الطبية والمعدات، إلخ، التي يقدمها عشرات الآلاف من المهنيين، ومؤسسات الرعاية، وشركات الأدوية، والتجهيزات الطبية. فالهيئة هي التي تحدد معايير الجودة والوقاية والسلامة والاعتماد التي طالب بها العديدون. يجب أن نذكر أن جودة الرعاية هي أول أهداف التغطية الصحة العالمية حسب المنظمة الصحة العالمية، أما التمويل، فيأتي في المرتبة الخامسة. يبدو أننا ليس لنا نفس الأهداف.
غير أن الوكالة (ANAM) مكلفة بالسهر على حسن سير نظام التأمين الاجباري عن المرض (AMO) و تؤطر العشرات من المؤسسات المسيرة للتغطية الصحية الأساسية. هدفها الأول هو التوازن المالي للنظام وديمومته.
المؤسستان ضروريتان ويجب أن تظلا مستقلتين عن بعضهما البعض. الأولى لديها وظيفة علمية واستشارية، أما الثانية فلديها وظيفة تدبيرية لمراقبة النظام وتوازناته.
بالإضافة إلى ذلك، إذا كان الهدف هو إصلاح الوكالة، التي لم تنجح في مهمتها، فلا يجب أن ننسى أن ذلك راجع لكون الدولة لم تفوض لها نفس المكانة والاختصاصات كمراقبي القطاعات الأخرى، وبالأخص الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات ((ANRT. هذه الأخيرة تُعد أول وأبرز المؤسسات التنظيمية، وهي تتمتع بكثير من الاستقلال والإمكانيات، وتم وضعها تحت الوصاية المباشرة لرئيس الحكومة، في حين أنANAM توجد تحت وصاية وزير الصحة. إذا كان لا جدال في فائدتها، فذلك مشروط بأن تتمتع بنفس السلطة الزجرية وأن تستعملها بشكل متزن.
هل هدا حقاً ما تريده الدولة؟ علما أن دور ANAM كان محصورا في التدبير المباشرة للراميد RAMED، حيث لعبت دور المراقب والمسير. لذلك، لم يكن لديها إنجازات تذكر. كما نُسِب إليها فشل مراجعة التعريفية المرجعية في عام 2020، رغم الإعلان الرسمي عنها، في حين أن التعريفة في آخر المطاف من اختصاص الوزير الذي يحددها بمرسوم يُنشَر في الجريدة الرسمية. عندما سُؤِل الوزير في مجلس المستشارين عن تضرر المرضى من كلفة العلاج، صرح بأنها يجب أن تكون ربحية للمرضى والعيادات. لقد وضع الوزير الطرفين على نفس المستوى، في حين لا توجد أي مساواة في المعرفة بينهما (Asymétrie d’information). لم يتحمل مسؤوليته خلال ثلاث سنوات، لإعادة النظر في التعريفة ولم ينقص من النسبة المتبقية على عاتق المرضى التي تتجاوز حاليًا أكثر من 50 ٪ من التكاليف الشاملة للعلاج. هذا المعدل لم ينخفض مند عقدين. اللجنة الخاصة للنموذج التنموي الجديد اقترحت الاكتفاء بتخفيض هذه النسبة إلى 30٪ بحلول عام 2035. إلى ذلك الحين، سيستمر المرضى في حالة هشاشة يتحملون هذا العبء ولسوف يتخلون عن العلاج.
لقراءة الجزء الثاني: قانون الإطار الجديد للنظام الصحي: هل يستجيب هذا المشروع لخصائص نظام صحي وطني أكثر نجاعة وإنسانية ووِقائية؟ 2\2