المقدسون الثلاثة: الخبز، الثور، الحوت. حين تصير الأرض يوم القيامة خبزة 1/2
أحاديث كثيرة، جاءت في معرض الجواب عن استفسارات اليهود لرسول الإسلام، إما بهدف الإحراج أو الاستفهام لمعرفة مدى موافقة الإسلام لشرائع وعقائد التوراة، جاء الجواب عنها مطابقا لما تدين به اليهود من عجن الأرض لتصِير خبزة وإتحاف الداخلين للجنان بكبد الحيتان، ولحم سيد الثيران.
فمن هذا الحوت ومن هذا الثور اللذان اذخرهما الإله كمؤونة للآخرة؟
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، في الآونة الأخيرة، حديث في أعلى درجات الصحة كما يحلو للمحدثين تسميته، رواه البخاري ومسلم، فاختلفت ردود الفعل تجاهه بين متهكم ومستهزئ، وبين مؤمن يحاول إيجاد مخرج ومعنى يليق بأفهام الناس في القرن الواحد العشرين.
لكن الحديث، بالإضافة لما احتواه من طرافة جَعْل الأرض خبزة، تضمن إحدى أهم المعتقدات التي كانت سائدة في العصور الوسطى بين أتباع الديانتين اليهودية والإسلامية، لم يناقشها أحد، ولو نُشِرت لِتُضاف إلى ظاهر الحديث لزاد العجب وربما صار رمضان رجب.
سنحاول هنا ذكر الحديث موضع التندر، ثم سنكشف عما خفي عن إدراك العوام ممن ليس لهم كبير دراية بالعلوم الشرعية.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (ص): تَكُونُ الأرْضُ يَومَ القِيامَةِ خُبْزَةً واحِدَةً، يَكْفَؤُها الجَبَّارُ بيَدِهِ، كما يَكْفَأُ أحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ في السَّفَرِ، نُزُلًا لأَهْلِ الجَنَّةِ قالَ: فأتَى رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ، فقالَ: بارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ، أبا القاسِمِ ألا أُخْبِرُكَ بنُزُلِ أهْلِ الجَنَّةِ يَومَ القِيامَةِ؟ قالَ: بَلَى قالَ: تَكُونُ الأرْضُ خُبْزَةً واحِدَةً، كما قالَ رَسولُ اللهِ، قالَ: فَنَظَرَ إلَيْنا رَسولُ اللهِ، ثُمَّ ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نَواجِذُهُ، قالَ: ألا أُخْبِرُكَ بإدامِهِمْ؟ قالَ: بَلَى قالَ: إدامُهُمْ بالامٌ ونُونٌ، قالوا: وما هذا؟ قالَ: ثَوْرٌ ونُونٌ، يَأْكُلُ مِن زائِدَةِ كَبِدِهِما سَبْعُونَ ألْفًا”.
وموضع النكتة في الحديث أن الأرض يوم القيامة يُصَيِّرها الله خبزة لإتحاف أهل الجنان بمخبوز الرحمن، بل ويكفؤها أي يقلبها ويميلها كما يقلب الخباز خبزه على النار حتى لا يحترق. إضافة إلى حديث إتحاف أهل الجنة بكبد الحوت كمُقَبِّلات يفتتح به المؤمنون نعيمهم الأبدي قبل تناول الوجبة الأولى “ثور الجنان”.
الحديث ورد من عدة روايات، كلها صحيحة:
– حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ. فَقَالَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ. قَالَ أَخْبَرَنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا قَالَ ابْنُ سَلَامٍ ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ قَالَ أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ الْوَلَدَ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ”. رواه البخاري
– حديث أنس قال: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَجَاءَ حِبْرٌ مِن أحْبَارِ اليَهُودِ فَقالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يا مُحَمَّدُ فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ منها فَقالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلتُ: ألَا تَقُولُ يا رَسولَ اللهِ، فَقالَ اليَهُودِيُّ: إنَّما نَدْعُوهُ باسْمِهِ الذي سَمَّاهُ به أهْلُهُ. فَقالَ رَسولُ اللهِ: إنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الذي سَمَّانِي به أهْلِي، فَقالَ اليَهُودِيُّ: جِئْتُ أسْأَلُكَ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أيَنْفَعُكَ شيءٌ إنْ حَدَّثْتُكَ؟ قالَ: أسْمَعُ بأُذُنَيَّ، فَنَكَتَ رَسولُ اللهِ بعُودٍ معهُ، فَقالَ: سَلْ فَقالَ اليَهُودِيُّ: أيْنَ يَكونُ النَّاسُ يَومَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غيرَ الأرْضِ والسَّمَوَاتُ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ: هُمْ في الظُّلْمَةِ دُونَ الجِسْرِ قالَ: فمَن أوَّلُ النَّاسِ إجَازَةً؟ قالَ: فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ قالَ اليَهُودِيُّ: فَما تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ؟ قالَ: زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ، قالَ: فَما غِذَاؤُهُمْ علَى إثْرِهَا؟ قالَ: يُنْحَرُ لهمْ ثَوْرُ الجَنَّةِ الذي كانَ يَأْكُلُ مِن أطْرَافِهَا قالَ: فَما شَرَابُهُمْ عليه؟ قالَ: مِن عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا قالَ: صَدَقْتَ. قالَ: وجِئْتُ أسْأَلُكَ عن شيءٍ لا يَعْلَمُهُ أحَدٌ مِن أهْلِ الأرْضِ إلَّا نَبِيٌّ، أوْ رَجُلٌ، أوْ رَجُلَانِ. قالَ: يَنْفَعُكَ إنْ حَدَّثْتُكَ؟ قالَ: أسْمَعُ بأُذُنَيَّ. قالَ: جِئْتُ أسْأَلُكَ عَنِ الوَلَدِ؟ قالَ: مَاءُ الرَّجُلِ أبْيَضُ، ومَاءُ المَرْأَةِ أصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمعا، فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ المَرْأَةِ، أذْكَرَا بإذْنِ اللهِ، وإذَا عَلَا مَنِيُّ المَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ، آنَثَا بإذْنِ اللهِ. قالَ اليَهُودِيُّ: لقَدْ صَدَقْتَ، وإنَّكَ لَنَبِيٌّ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ. فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لقَدْ سَأَلَنِي هذا عَنِ الذي سَأَلَنِي عنْه، وما لي عِلْمٌ بشيءٍ منه، حتَّى أتَانِيَ اللَّهُ بهِ. وفي رواية: بمِثْلِهِ، غيرَ أنَّه قالَ: كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وقالَ: زَائِدَةُ كَبِدِ النُّونِ، وقالَ: أذْكَرَ وآنَثَ، ولَمْ يَقُلْ: أذْكَرَا وآنَثَا”. رواه مسلم
هذه الأحاديث كلها جاءت في معرض الجواب عن استفسارات اليهود لرسول الإسلام، إما بهدف الإحراج أو الاستفهام لمعرفة مدى موافقة الإسلام لشرائع وعقائد التوراة، والجواب عنها جاء مطابقا لما تدين به اليهود من عجن الأرض لتصِير خبزة وإتحاف الداخلين للجنان بكبد الحيتان، ولحم سيد الثيران.
فمن هذا الحوت ومن هذا الثور اللذان اذخرهما الإله كمؤونة للآخرة؟
جاء في تفسير ابن كثير في تفسير سورة القلم: “المراد بقوله نون، حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط، وهو حامل للأراضين السبع، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى حدثنا سفيان حدثنا سليمان عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم قال: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب القدر. فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة. ثم خلق”النون” ورفع بخار الماء، ففتقت منه السماء، وبسطت الأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال، فإنها لتفخر على الأرض. وكذا رواه ابن أبي حاتم… وهكذا رواه شعبة، ومحمد بن فضيل، ووكيع، عن الأعمش. وزاد شعبة في روايته: ثم قرأ: ن والقلم وما يسطرون، وقد رواه شريك، عن الأعمش عن أبي ظبيان – أو مجاهد – عن ابن عباس فذكر نحوه. ورواه معمر، عن الأعمش: أن ابن عباس قال… فذكره، ثم قرأ: نون والقلم وما يسطرون. ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: إن أول شيء خلق ربي عز وجل القلم، ثم قال له: اكتب. فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. ثم خلق “النون “فوق الماء، ثم كبس الأرض عليه وقال ابن أبي نجيح: إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال: كان يقال: النون: الحوت العظيم الذي تحت الأرض السابعة…
وذكر البغوي في تفسيره لأولى آيات سور القلم: (نون) اختلفوا فيه فقال ابن عباس: هو الحوت الذي على ظهره الأرض. وهو قول مجاهد ومقاتل والسدي والكلبي.
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: أول ما خلق الله القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض، فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض ثم قرأ ابن عباس: ن والقلم وما يسطرون. واختلفوا في اسم الحوت، فقال الكلبي ومقاتل: اسمه يهموت. وقال الواقدي: ليوثا. وقال كعب: لويثا. وعن علي اسمه بلهوث.
وقالت الرواة: لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأراضين السبع فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب، باسطتين قابضتين على الأراضين السبع، حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله من الفردوس ثورا له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدمي الملك على سنامه، فلم تستقر قدماه فأخذ الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس غلظها مسيرة خمسمائة عام فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفسا فإذا تنفس مَدَّ البحر وإذا رد نفسه جَزَرَ البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت قوائم الثور عليها وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: “يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة” ولم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله نونا وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خَالٍ والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة… قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه، فقال له: أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نَفَضْتَهُم ألقيتهم عن ظهرك، فهم لويثا أن يفعل ذلك فبعث الله دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فَعَجَّ الحوت إلى الله منها فأذن لها الله فخرجت. قال كعب: فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن هَمَّ بشيء من ذلك عادت كما كانت .انتهى من تفسير البغوي.
والحديث الذي استدل به البغوي في تفسيره، روى بعضا منه ابن منده في “التوحيد” والحاكم في “المستدرك”، وصححه السيوطي في صحيح الجامع وهو بلفظ: (إِنَّ الْأَرَضِينَ بَيْنَ كُلِّ أَرْضٍ وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَالْعُلْيَا مِنْهَا عَلَى ظَهْرِ حُوتٍ، قَدِ الْتَقَى طَرَفَاهُ فِي السَّمَاءِ، وَالْحُوتُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ بِيَدِ الْمَلَكِ. وَالثَّانِيَةُ سِجْنُ الرِّيحِ. وَالثَّالِثَةُ فِيهَا حِجَارَةُ جَهَنَّمَ. وَالرَّابِعَةُ فِيهَا كِبْرِيتُ جَهَنَّمَ. وَالْخَامِسَةُ فِيهَا حَيَّاتُ جَهَنَّمَ. وَالسَّادِسَةُ فِيهَا عَقَارِبُ جَهَنَّمَ. وَالسَّابِعَةُ فِيهَا سَقَر، وَفِيهَا إِبْلِيسُ مُصَفّد بالحديد، يد أمامه ويد خلفه، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُطْلِقَهُ لِمَا يَشَاءُ أَطْلَقُهُ).
ورغم أن الحديث قد تُكلم فيه وتم تضعيفه، وعدَّهُ ابن كثير من الإسرائيليات، لكن الأحاديث الصحيحة التي وردت عن الثور والحوت، وأنهما أول ما يأكله أهل الجنة قد أغنت عن هذا الحديث، كما أن رواية ابن عباس الصحيحة، التي قال فيها الذهبي على شرط البخاري ومسلم، قد وافقت الأحاديث والإسرائيليات التي تم تضعيفها: (أوّل ما خلق الله من شيء القلم، فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء، فخلقت منه السماوات، ثم خلق “النون” ـ يعني الحوت – فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحرّكت الأرض فمادت، فأثبت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، قال: وقرأ: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) أخرجه عبد الرزاق في “تفسيره وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبري في “جامع البيان” والحاكم في “المستدرك”..
فهل هناك ارتباط بين الثور والحوت اللذان يحملان الأرض وبين كونهم أول طعام أهل الجنة؟
هذا ما سنراه في الجزء الثاني من هذا الملف.
لقراءة الجزء الثاني: المقدسون الثلاثة: الخبز، الثور، الحوت. حين يقف الثور فوق الحوت… ويحملان الأرض 2/2