“المغرب يسكُننا ولا نريدُ العودة”… أنينُ مغاربة في المهجر!
أخصائي نفسي لمرايانا: “التّقاليد والأعرَاف السّائدة في ثقافة معيّنة تشكّل بعضًا من تصوّرات الإنسان المُهاجر. يتزايدُ حنينه إليهَا حينَ يجدُ خفوتاً لتلك الطّقوس الاجتماعيّة، في بلد المهجر، رغم أنّها هي الأصلُ وفقَ تكوينه النفسيّ”.
من التّرف أن نقول بأنّ كثيرا من الشبّاب المغاربة يحلمون بالهجرة. حلمٌ مشروعٌ يطاردُ إغراءات عالم الآخر: الغرب. لكن لتلك الهجرة ثمنٌ يوميّ؛ ليس ثمنا باهظًا بالضرورة ولا يشكّل ارتداداً سلبيًّا دائما، غير أنّه صعبُ الإنكار: إحساس بالغربة وحنينٌ جاثم في القلب وفي… الذّاكرة.
نستمعُ لحكايات مهاجرين مغاربة، حزموا حقائبهم، لكنّهم تركوا شيئا ما في المغرب: شوقٌ بالغ القوّة والاختراق، رغم أنّ البلد… لا يغري بعدُ بالعودة بالنّسبة للكثيرين.
سليمان: حنينٌ يمزّق ولا رغبة قي العودة
سليمان، 25 سنة، مهاجر مغربي تمتدّ رحلته في الهجرة إلى ثمان سنوات. يقول سليمان: هاجرتُ إلى فرنسا بشكل قانونيّ، حيثُ التحقنا بالوالد جميعنا في العائلة. نسكنُ بمدينة أميان الفرنسيّة منذ مجيئنا. الحياة هنا جميلة، لكنّها لا تعوّض ذلك الحنين إلى الوطن الذي يمزّقك كل يوم. فرنسَا ليست جنّة فوق الأرض، إنّما بلدٌ عاديّ، إلاّ أنّه متقدّم اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وهذا هو الضّروريّ والأهمّ في الحِكاية.
يضيفُ المُتحدّث: حين جئتُ وعشتُ هنا، تدمّرت لديّ الكثيرُ من الصّور، التي راكَمتها وأنا طفلٌ، حين كان يأتي والدي من فرنسَا كلّ صيف. كنتُ أظنّه يعيشُ عالماً آخر، خياليًّا بالنّسبة إلينا. نحن ننحدرُ من مدينة هشّة تنمويًّا مثل الرّيصاني، بإقليم الرّاشيدية في المغرب. لهذا، ربّما، الصّور التي كنّا نراها كانَت مثل حُلم، مثل فيلم نشاهدُه في التّلفاز فنندهش.
يردفُ مستطرداً: ما يشدّني إلى فرنسا هي الثّقافة. الثقافة هنا مسألة جد هامّة في هذا البلد. الحرية والفردانيّة تصبحان قيما تتنفّسها. لا أحد سيتدخّل في شؤُونك. هناك أفقٌ معياريّ غريبٌ يتبلورُ في قدرة هؤلاء الناس على المُكاشفة والمصَارحة. نادراً ما تجدُ النفاق. هو موجود لأنه ملازم للإنسان أحياناً، ولكنّ النّاس يعبّرون عن قناعتهم وأفكَارهم بوجه مكشُوف ويحبّون الحياة. إنّهم يحترمون كرامَتك وإنسانيّتك. لنتخيّل أنني بهذا العمر الصّغير أسُوق شاحنة، وهي المهنة التي أحبّ. هل كانوا سيؤمنون بي في المغرب ويسمحُون لي بسياقَتها؟ لا أعتقد.
يجملُ سليمان حكايته لمرايانا قائلاً: لا أجترّ الصّور النمطيّة عن الهّجرة والصور الورديّة، لأنّه، بالفعل، ثمّة شعُور غريبٌ بالنّقص يراودُنا. تحسّ بشَكل يوميّ أن شيئاً ما ينقصك. أن أهلك وبلدك بعيدون عنك. أنّك مهمَا بلغت من النّجاح، فأنت بعيدٌ عن وطنك الحقيقي. وهو إحساسٌ قوي، بشكل مُرعب، في الحقِيقة. رغم قوته وإغرائه، فنحن مدركون أننا، في نفس الوقت، لا نريد العودة، لأننا نهربُ من واقع متردي.
رومايسة: أفكّر في العودة وأخاف النّدم…
رومايسة، 26 سنة، تقول في تصريحها لمرايانا إنّ أوّل شيء يأتي إلى ذهنِها حين تسمعُ المغرب، هو أنّه “الحضنُ الدّافئ الذي لا يلفظك نهائيًّا ولا تحسّ بالثّقل وأنتَ فيه”، على حدّ تعبيرها.
العنصرّية “هي المُعضلة التي أواجهُها مع بعض الألمان. ليسَ كلهم طبعا. أغلبهم متسَامحون. لم يسبَق لي أن ناقشتُ قناعاتي الدينية مع أحد. أعلمُ أنني مواطنة في بلد حديث ولست مؤمنة في دولة دينية مثلاً. لكن، بغضّ النّظر عن هذا، هُناك عنصريّة مقيتَة. أحيانًا تحسّها تلقائيًّا دون أن تجدها في تصرفات أو أقوال. وهذا يدفعني إلى التّفكير مليًّا بأنّ المغرب جميلٌ لأنه بلدي فحسب“، تضيفُ رومايسة.
تستطردُ المتحدّثة: أشتغلُ في محلّ تجاريّ وأصادفُ أناساً من جنسيّات مختَلفة، إلاّ أنّ مُصادفة مغاربة لها طعمٌ خاص. تنتشي الذات بذلك كثيراً في تلكَ اللّحظة. لديّ صديقات وأصدقاء مغاربة أقضي معظَم وقتي خارج العمل معهم. نسافر من حين لآخر مع بعضنا، ونتحدث كثيراً عن المغرب. الحياة هنا تضمن لنا أشياء كثيرة، وهناك فرص كثيرة، لكن الانتماء ينقصُ في هذا البلد.
تلخّص رومايسة شهادَتها، قائلةً: أريد بالفعل العودة إلى المغرب، ويمزقني الحنين للبلد وللعائلة، وأحسب الدقائق كالساعات حين أكون في طريقي إليهم، وأنتظر على الجمر فترة الذهاب للوطن. لحسن الحظّ أن تطور التكنولوجيا خوّل لنا الحديث إلى عائلاتنا عن طريق الصوت والصورة، لكنه اتصال رقمي باهت مع ذلك، لا يعوض عنفوان العِناقات مع الأحباب. هذا الشّوق العارم تتخلله رغبة بالعودة. غير أنها تتعثّر بالخوف من الندم حين يقع الاستقرار في المغرب، لأن كثيراً من العائِدين نجحوا، بالفعل… لكن ليس كلهم.
أنس: الهجرة جميلة… لكن لها ثمنا نفسيّا!
يعودُ أنس بمرايانا إلى ما قبل الهجرة، حين سكنَ المغرب، الذي بات يسكنُه الآن وجدانيًّا. يقول أنس بحرقة واضحة: عندمَا تخرجتُ كطالبٍ للإعلام والاتصال، آمنتُ أن أمارسَ صحافة مهنيّة وحرّة وأخلاقيّة تغادرُ كلّ القُيود المعروفة. إلاّ أني حين ولجتُ للميدان، سرعان ما تكسّرت الصّور الرّومانسيّة كليةً أمامي. وجدتُ أن المشهد الإعلامي في المغرب رتيبٌ وأنّ الأفق مسدُود أمام حريّة التّعبير. كنتُ طالباً حالماً، لكني اكتشفتُ أنّ للحُلم ثمنًا قد يكُون باهظاً.
“بعدها، رتّبتُ أموري وهاجرتُ إلى كندا، وجدتُ إيقاعاً آخر. وجدتُ ذاتي التي كنتُ أبحثُ عنهَا في هذا البلد. لا أفكّر نهائيًّا في العودة. انهارت الكَثير من الفرص بسبَب الجائحَة في المَغرب، والشّبابُ يسعى إلى الهجرة. هناكَ صعوبة للحياة في المغرب لا يمكن تزييفها أو تلميعها، مع أنّ هناك ضوءا وأملا في تبدّل الوضع”، يقول أنس.
يردف بتأثّر: لا أخفي أنني أعيشُ، ككلّ المهاجرين، ضمن ثنائيّة الوجود الواقعيّ في المهجَر، والوجود النّفسي في وطني الأم، الذي هو المغرب. نعيشُ داخل هوية قوية وراسخة، ولكنّنا مطالبون في ذات الوقت أن نندمج في ثقافة أخرى ولغة أخرى ومعايير أخرى”.
يعبّر أنس عن حنينه لبلده، بلسان دارج: أنا مغربي حتى الموت، وكنموت على تمغرابيت وعلى بلادي وكنتمنى نشوفو من أحسن الدّول”.
كخلاصة، يقول أنس: المغرب يتغيّر باستمرار. وهناكَ صُعوبة أخرى أعيشها في المهجر أنّني لا بد أن ألتزم بمتابعة أخبار بلدي وما يجري فيه. أي تقصير قد يجعلني أحسّ بغربة مضاعفة. لا أعرف هل أنا مغربي تماماً أو كنديّ مطلقاً. أجدني ضمن هذه الثّنائية في كثير من المرات. حين لا تعرف تفاصيل ما يجري ببلدك الأم والأصلي، تحسّ أنك تبخسُ أصولك حقّها. أحياناً تحسّ أنّك في عزلة عن كلّ من تحبّهم بعمق. حين تجدُ شخصا يتكلّم الدارجة هنا يغمرك فرحٌ خفيف، لأنك عثرت على بعض منك. على شيء من هويّتك. وهذا يذكرني باستمرار أنّ الهجرة جميلة، ولكن لها ثمنا!
الهويّة تكوينٌ نفسيّ قويّ؟
الأخصائيّ في علم النّفس، محمد كحلاوي، يفسّر هذه الثّنائيّة الوجدانيّة، التي يعيشُها المغاربة في الخارج، من خلال حقيقَة الانتَماء الطّبيعي لمجتمع معيّن ولهويّة وطنيّة ضاربة في جذور الذّات، يصعبُ اقتلاعُها إلى حد استحالة ذلك.
الإنسان ابنُ الثّقافة ابتداءً، لذلك يرى كحلاوي في حديثه مع مرايانا، أنّ التّقاليد والأعرَاف السّائدة في ثقافة معيّنة تشكّل بعضًا من تصوّرات الإنسان المُهاجر. يتزايدُ حنينه إليهَا حينَ يجدُ خفوتاً لتلك الطّقوس الاجتماعيّة، في بلد المهجر، رغم أنّها هي الأصلُ وفقَ تكوينه النفسيّ.
يختمُ المتحدّث بأنّ هناك من فشل في الاندماج تمامًا، ولم يستطع التأقلم مع المهجر؛ وسيطرت عليه أفكار الوحدة والعزلة، وبقي على هامش مجتمع آخر، فعاد بسُرعة إلى وطنه. حتى أنّنا نشهد كثيراً حالات عودة للاستقرار في الوطن، أو للاستثمار في الوطن من طرف كثير من ذوي الخبرة والكفاءة لمشاركة إمكاناتهم مع بلدهم؛ وهي قرارات تصبّ في منحى أنّ الفرد يربّي داخله رابطًا، من العصيّ أن تبترهُ منه تجربته في بيئة أخرى أو ثقافة أخرى. كما تلعبُ التّصوّرات الدّينية لدى كثير من المهاجرين دوراً هامًّا في هذا الصدد.
… الوطنُ فكرة وانتماء وهويّة وشعُور، وأن تهاجر الوطن لا يعني التّحرّر من تلك الفكرة، ولا من ذلك الانتَماء، ولا من تلك الهويّة ولا… من ذلك الشّعور. إنها أشياءٌ تعيشُ مع الإنسان أينما حلّ وارتحل.