تُرجم إلى لغات كثيرة وهمشه المسلمون: ابن طفيل مبدع “حي بن يقظان” 1/2
بسببِ صعُوبة القولِ في الموضوع وحساسيته في مجتمعٍ تحكُمهُ السلطة الدينيةُ، المتمثلة في الفقهاء وانتشار مذاهب دينية متشددة، لجأ ابن طفيل للتعبير عن موقفه بأسلوبٍ أدبي، خوفاً من هذه السلطة…
محاولة… استطاع بها تجاوز رقابةِ هؤلاء على الأفكار التي تخالفهُم.
كَتَبَ الفيلسُوفُ الأندلسي ابن طفيل مُؤَلفَهُ “حي ابن يقظان”[1]، فيِ عَهْدِ الخليفَةِ الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن، الذِي اشتَغَلَ وَزيِراً فيِ بلاطِهِ ومُستشارهُ الثقافي، ويُعْتَبَرُ هذَا الكِتابُ هو الوحِيدُ الذِي وَصَلَنَا مِن أَعْمَالِهِ.
اشْتَهَرَ وَذاَعَ صِيتُهُ فيِ الغَرْبِ مُنْذُ عَصْرِ النهْضَةِ، وَنُقِلَ إِلى لُغَاتٍ أُورُبِيَةٍ كَثِيرَةٍ، لكنه قوبل بالتهميش ولم يجد عناية لدى المسلمين وعلمائهم القدامى، الأمر الذي يدعونا للتساؤل حول سبب ذلك. هل يعود الأمر لمضمون الكتاب؟
لماذا غيب هذا العمل البديع لفيلسوف مرموق لقرون في ثقافتنا العربية الإسلامية؟
قبل الحديث عن كتابه “حي بن يقظان” نودُ الإشارة إلى منزلة ابن طفيل ومكانته في الأندلسِ، فهو فيلسوف ومثقف امتاز باشتغاله على الفلسفة وعلوم عصره، خاصة فلسفة أرسطو وأفلاطون، وكان امتدادا للفلاسفة المسلمين في المشرق.
يعتبر أبرز فلاسفة المغرب والأندلس، إلى جانب ابن باجة السرقسطي وابن رشد القرطبي. قال عنه المؤرخ عبد الواحد المراكشي: “اشتغل وزيرا لدى الأمير أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن… وكان أمير المؤمنين أبو يعقوب، شدِيد الشغفِ بهِ. بَلغنيِ أنهُ كان يقيمُ في القصر عندهُ أياماً، ليلا ونهارا، لا يَظْهَرُ. وكان أبو بكر هذا أحد حسناتِ الدهرِ فيِ ذاتهِ وأدواته”[2].
اقرأ أيضا: الحرية الفكرية: هكذا حرم اضطهادُ الفكرِ المسلمينَ من المضي قدما في طريق الحضارة… 4/3
هذه المكانةُ الشريفةُ والمنزلةُ العظيمةُ عند الخليفة، كان لها أثرها على تاريخ الفكر والفلسفةِ بالأندلس، بالنظر إلى الدورِ الذي لعبهُ ابن طفيل في الإشرافِ على حلقات العلم ومجالس العلماء داخل البلاط؛ وهُو ما كان سبباً في ظُهورِ نجمِ ابن رشد الحفيد في سماءِ الفلسفةِ والفلاسفة، حيث قدمَهُ ابن طفيل للخليفة الذي كان مهتماً بدراسةِ فلسفة أرسطو باعتبار ابن رشد خير من سيساعِدُهُ على شرحِ هذه الفلسفة وتحليل خطابها. هذا الأمر سيترك أثرهُ في تاريخِ الفلسفة بعد ذلك وسيلقب ابن رشد بالشارح الأكبر لكتب أرسطو.
هذا لا يعنيٍ أن ابن طفيل لم تكن له القدرةُ العلميةُ للاضطلاع بهذا الدورِ، لكن انشغالهُ بشؤُونِ السياسةِ وتدبير مصَالحِ الوظيفة عند الخليفة، كانت تحُولُ دُونَ تفرغِهِ لهذا الأمر، لأن المتأمل في كتابه “حي ابن يقظان” يقفُ على حجمِ اطلاعهِ وسعة ثقافتِهِ العلمية والفلسفية، وعلى قوة الأفكار التي كان ابن طفيل يقدمُها في أسلوبٍ قصصي يميل إلى جنس الراوية الفلسفية.
فما هي الإشكاليةُ التي تطرحها هذه القصة الفلسفية؟ وما الغايةُ التي تهدف لها؟ ثم لماذا لجأ ابن طفيل إلى أسلوب القصة والحكي الأدبي للتعبير عن أفكارهِ الفلسفية؟
تطرحُ قصةُ “حي بن يقظان” علاقة الشريعة بالحكمة، أو علاقةٌ الدين بالفلسفة، وتحاولُ أن تفُك حدُودَ الاتصال أو الانفصال بين طريقِ كلٍ منَ الدين، باعتباره خطابا إلهيا وصل عن طريق الوحي والنقل من نبي أو شيخ ومعلم، وطريق الفلسفة، كخطاب برهاني يقوم على العقل والتأمل الفكري الذي ينتج علوماً ونظريات علميةٌ.
اقرأ أيضا: السلطة وإعدام الكتب في التاريخ الإسلامي… حكايات مروعة 3/2
معلوم أن هذه العلاقة أو الإشكالية، لم تطرح مع ابن طفيل، بل كانت سابقة على زمنه بقرون، وكانت تسمى عند الفرق الكلامية الإسلامية بمشكلة العقل والنقل. هنا يظهر أن العلاقة التي جمعت الفلسفة بالدين تُحيل دائماً إلى الصراع والجدال. وهو الأمر الذي دفع بالكثير من الفلاسفةِ لمحاولة البحث والكتابة حول الموضوع. في هذا السياق، تأتي محاولةُ ابن طفيل في كتابه للمساهمة في هذا الإشكال.
إن الغاية من هذه القصةِ هو أن الشرائعَ الدينيةُ تهدف إلى نفس ما تهدفُ له الفلسفة، وأنه لا اختلاف بين الفلسفة والدين في الأهداف والنتائج.
بسببِ صعُوبة القولِ في الموضوع وحساسيته في مجتمعٍ تحكُمهُ السلطة الدينيةُ، المتمثلة في الفقهاء وانتشار مذاهب دينية متشددة، لجأ ابن طفيل للتعبير عن موقفه بأسلوبٍ أدبي، خوفاً من هذه السلطة، وهي محاولة… استطاع بها تجاوز رقابةِ هؤلاء على الأفكار التي تخالفهُم.
في الجزء الثاني نتابع: “حي بن يقظان”… ابن طفيل يفكك علاقة الفلسفة بالدين 2/2
[1] – ابن طفيل أبوبكر، حي بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها، يوسف زيدان، دار الأمير، ط2، 1998.
[2] – عبد الواحد المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب، نشره: محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، مطبعة الإستقامة، ط1، القاهرة، 1949 ، ص239
جميل جدا استاذ عبد الصمد… وفقك الله
ابن طفيل و ابن رشد وابن خلدون ومجموعة من الفلاسفة في الغرب الإسلامي خلال العهد الموحي وباعتبار المغرب مركز القرار السياسي والثقافي أتساءل عن غياب دور المغرب في النهضة الفكرية في مقررات الدولة المغربية الشريفة
السلام.
هذه القصة استلهم منها عميد المسرح المغربي المرحوم الطيب الصديقي أشهر مسرحياته “أبو حيان التوحيدي”، والتي لاقت نجاحا كبيرا، وخاصة في فرنسا، لأن الطريقة العبقرية (الحوار ممزوج بالعربية والفرنسية، زيادة على الموضوع) جعلت الكل يصفق لهذا العمل الاحترافي.