جمع الأحاديث وتصنيفها: لماذا يطرح إشكالات؟ 1\2
على مدار تاريخ طويل، طرح جمع الأحاديث النبوية مجموعة من الإشكالات التي تطرق لها الكثير من الباحثين والمهتمين.
إشكالات، انطلقت في الأصل من سؤالي النهي والإجازة لجمع الحديث، والمدة الزمنية الطويلة التي فصلت بين وفاة الرسول وجمع الأحاديث، وما أعقب ذلك من إشكالية الرواية بالمعنى دون اللفظ…
التطور النسبي الذي عرفهُ العقل العربي، بعد صدمات جراء ما يعيشه العالمُ اليوم من تطور وثورة علمية، وبروز مفاهيم كالحداثة والعقلانية وغيرها، كل هذا جعل الاهتمام ينصبُّ نحو تفكيك التراث الديني ونقدِه.
لعلَّ أول ما تعاملَ معه نُقاد مُصنفات الحديث، كونُها شكلت دعامة نحو تشكيل الذهنية العربية، بل عدَّها الكثيرون السبب وراء انهيار منظومة القيم الإنسانية الكونية في الثقافة العربية.
في نَهي الرسول وخلفائه عن كتابة الحديث:
وفق مجموعة من الأدلة النقلية، يذهبُ مجموعة من الرواة إلى أن أحاديث الرسول لم تُكتب في عهده، ولا كانَ المُسلمون يسجلونها في كتاب، كما كان الشأنُ مع القرآن. بل إن الرسول نهى نهيا قاطعا عن كتابة أحاديثه وتدوينها.
“روى أحمد ومسلم والدرامي والترمذي والنسائي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: “لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه”. وأخرج الدرامي عن أبي سعيد كذلك: أنهم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم. ورواية الترمذي عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: “استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا”.[1]
ومن مراسيل ابن أبي مليكة، أن الصديق جمع الناس بعد وفاة النبي، فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه”.[2]
غير أن هُناك أحاديث تُبين إباحة الرسول كتابة الأحاديث. وفق ذلك، يذهب أنصار التدوين، إلى كون أحاديث النهي منسوخة بالأحاديث المُبيحة للكتابة، وهو ما تصدى له عدد من الباحثين والمختصين.
من ذلك مثلا أن مَحمود أبو رية يُبطل هذه العلة قائلا: “ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضا يصح أن يكون به أحدها ناسخا للآخر، لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين أحدهما استدلال من روى عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره، ولو دونوا ونشروا لتوافر ما دونوه”.[3]
إذا كان النهي نُظر إليه من زاوية مخافَة اختلاطه بالقرآن، فإن سؤالا يُطرح في هذا السياق: أليس القرآن الكريم، المُعجز في بيانه وبلاغته وقوة تركيبه، بائن عن كلام البشر؟ وهل العربُ المعروفون بكونهم جهابذة اللغة، غيرُ قادرين على التفرقة بين المُعجزِ وغيره؟
رغم ذلك… تم جمعُ الأحاديث النبوية وتدوينها، بعد مدة طويلة من وفاة الرسول . هنا، طُرح إشكال أساسي بعد ذلك حول الرواية بالمعنى، لصعُوبة روايتها لفظا ومعنى؛ نظرا للمُدة الزمنية التي تفصل بين وفاة الرسول وبين تدوين الأحاديث.
هل تصح رواية الحديث بالمعنى دون اللفظ؟
يَحسب مُعظم الناس أن الأحاديث التي رُويت عن الرسول، رُويت بالمعنى والمبنى (أي اللفظ)، دون تبديل ولا تحريف، في حين أن أغلبَها وارد بالمعنى فقط، وِفق ما فهمه رُواة الأحاديث أنفسهم منها.
ذهب البعضُ إلى إجازة رواية الحديث بالمعنى، شرط إدراك الراوي بدقائق الألفاظ، بصيرا بمقدار التفاوت بينها.
في حين يذهب علماءُ الأصول إلى النهي عن ذلك، “قال أبو إسحاق الشيرازي في اللمع: والاختيار في الرواية أن يروى الخبر بلفظه، لقوله صلى الله عليه وسلم نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمع، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”.
على أن لرواية الحديث بالمعنى أضرارا، أجملها محمود أبو رية في سبعة علل:
– فسادُ الإسناد، والذي يرتبط بشكل مُباشر بالرواة، وإن عُرف هؤلاء بصحة الدين وعدالة الإيمان، إلا أنه قد يتصف هؤلاء بصفات تُفسد الرواية وصدقية الحديث؛ مثلُ عدمُ الاتصال[4]، ومنه أن يكون بعض الرواة متهما بقلة الثقة والكذب، أو مشهورا بالبله والغفلة، أو أن يكون مُتعصبا لبعض الصحابة نافرا من الآخرين.
– نقلُ الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه؛ ووجهُ الفساد هنا، تصور المعنى على غير الجهة المقصودة، ذلك أن الكلام الواحد قد يحتمل معنيين أو أكثر. على أن بعض النقاد كأبي هلال العسكري في كتابه: “الفروق اللغوية” يؤكد على نفي الترادف في اللغة العربية، وأن لكل لفظة معنى خاصا بها يُميزها عن غيرها.
– الجهلُ بالإعراب ومباني كلام العرب، عِلما أن كثيرا من رُواة الحديث – حسب صاحب السنة المحمدية – قوم جهال باللسان العربي.
– التصحيف، ذلك أن عددا من المحدثين لا يضبطون الحروف، وإنما يرسلونها إرسالا اتكالا على الحفظ، وربما كان بين المعنيين المتضادين نُقطة أو حركة.
– إسقاط شيء من الحديث لا يكون إلا به، مثلُ ما رواه قوم عن ابن مسعود عن ليلة الجن، فقال: ما شهدها منا أحد. وروى عنه من طريق آخر أنه رأى قوما من الزط فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن. فالحديثان متعارضان، وإنما أوجب التعارض بينهما، أن الذي روى الحديث الأول أسقط منه كلمة رواها غيره، وإنما الحديث: ما شهدها منا أحد غيري.
– أن ينقل المحدث الحديث، ويغفل عن نقل السبب الموجب له، فيعرض من ذلك إشكال في الحديث أو معارضة لحديث آخر.
– أن يسمع المحدث بعض الحديث ويفوته سماع بعضه.
– نقل الحديث من الصحف دون لقاء الشيوخ والسماع من الأئمة.
واضح إذن، أن نهي الرسول عن رواية الحديث، حسب الكثير من الباحثين، لم يكُن اعتباطا، وإنما لعلل وأسباب عَرضنا أبرزها. والنظر في هذه الأسباب يوجِب، إلى حد كبير، الشك في جُملة الأحاديث التي وصلتنا عن طريق الرواية.
لقراءة الجزء الثاني: صحيح البُخاري… صحيح حقا؟ 2\2
[1] – محمود أبو رية: أضواء على السنة المحمدية، دار المعارف.
[2] – نفسه.
[3] – نفسه
[4] ومعناه أن يسند الحديث للراوي “ب” عن الراوي “أ”، بينما يكون الاثنان قد عاشا في فترتين مختلفتين، بحيث مات أحدهما قبل أن يولد الثاني