أم كلثوم: وحقك أنتِ المنى… والطرب - Marayana - مرايانا
×
×

أم كلثوم: وحقك أنتِ المنى… والطرب

صاحبة العصمة، كوكب الشرق، الست…
ألقاب صارت لغةً، مجرد مرادف لامرأة جعلت من الأغنية، موعدا مقدسا للفرح.
تلك حكاية أم كلثوم، السيدة التي توفيت منذ زمن طويل… لتعلن الخلود.

التّاريخُ ليس أعمى، هو يرى ويعرفُ من يستحق أن يُذكر. التاريخُ لا يكتبُ في صفحاته سوى العظماء، أولئك الذين تركوا بصمة في الحياة.

لم يكُن مشهدُ الجنازة التي حَضرها أزيد من أربعة ملايين مصريا، سوى دليلا على دخُول سيدة الغناء الأولى أم كلثوم سجل التاريخ من أوسع أبوابه. السيدة الأولى التي ربطت بأغانيها المُحيط بالخليج، فكانت وفاتُها مأتما لجسدها، وإعلان خلود لفنها.

البدايات:

هي فاطمةُ بنت الشيخ المؤذن إبراهيم السيد البلتاجي، عُرفت فنيا بأسماء عدة: أم كلثوم، سيدة الغناء العربي، شمس الأصيل، كوكب الشرق…

ولدت لعائلة بسيطة يعملُ معيلها مؤذنا ومنشدا، وأم ربة بيت، في قرية طماي الزهايرة بمُحافظة الدقهلية في31 من ديسمبر 1898.

رُغم تقليدانية الفكر في الريف المصري آنذاك، لم يمنع الأب تعليم ابنته، فدَخلت الكُّتاب. أما المَوهبة الغنائية، فقد ظَهرت حين كان يصطحبُها معهُ في مُناسبات الإنشاد الديني، في سن الثانية عشر.

على إثر هذه الجولات الإنشادية، عُرفت أم كلثوم في أوساط الريف المصري، وتحولت بعد ذلك إلى المصدر الرئيس لدخل الأسرة.

أول تحول في مسارها الفني، سيحدُث عند التقائها بأبو العلا محمد بعد أن سمعها تردد ألحانه في القطار دون معرفتها لهُ.

جمالُ صوتها جعَل أبو العلا يلحُّ على احتضان أم كلثوم، فأقنع الأبَ بانتقالها إلى القاهرة معه.

حفلُها الأول كان مزيجا من مشاعر الإحباط والبهجة.

في مذكراتها المنشورة بجريدة “الجُمهورية” تروي أم كلثوم تفاصيل هذه الليلة…

كان ذلك يوم 19 ماي 1917 حين دخلت قَصر عز الدين يكن بيك بحلوان من أجل إحياء ليلة “الإسراء والمعراج”. رفض عز الدين يكن  أن تنشد أم كلثوم أمامه، وأمر أن تبقى فى بدروم (قبو) القصر هي ومن معها حتى لا يراها أحد، واستدعى الشيخ إسماعيل سكر لأحياء الليلة، كونها تنتمي جُغرافيا للريف، وثقافةُ القصور لا تنتمي إليها إلا الطبقة الرفيعة.

في قبو القصر، رق قلبُ “الخدم” لبكاء أم كلثوم، فأبلغوا زوجة يكن، فنزلت إليها لترتمي “أم كلثوم” فى أحضانها قائلة: “حرام كده نتحبس هنا، طيب سيبونا نروح مادام مفيش ليلة، أعمل إيه حظى كده، وأنا يا ست كنت واضعة أمل على الليلة بتاعتكم دي، أنا قلت لأبويا وأنا فى الطريق إن السعد موعدنا بعد المعازيم الكبار ما يسمعوني، لكن ربنا يمكن له حكمة فى اللي حصل”.

ربتت “زوجة البيك ” على أكتاف “أم كلثوم” وأحاطتها بذراعيها هامسة: “أنت صعبانة عليّ خالص والنبي، أصل عز “بيه” يا بنتي كان فكرك مبهرجة زي الستات اللى بيغنوا فى مصر”، فردت أم كلثوم: “أنا يا ست عايشة فى الفلاحين، ما أقدرش اتبهرج وألبس غير الحشمة. إحنا ناس بتوع ربنا بندور على لقمة العيش بعرقنا واللى جاي يدوب على قد اللى رايح”.

سماعُ الزوجة صوتَ أم كلثوم، سيرغمها على طلب الزوج السماح لها بالغناء. لبى الطلب، وغنت أم كلثوم… فاهتز جميعُ الحاضرين أمام هذا الصوت الطروب.

أجر أم كلثوم في هذه الليلة، كان ثلاثة جنيهات. مبلغ كبير آنذاك، لكن الربح الأكبر لها، تجربة ستعبد لها الطريق لتكونَ “كوكب الشرق”.

من قرية طماي إلى القاهرة: في حضرة الشهرة

ثورة 1919 بمصر، ستغير الكثير من ملامح المُجتمع المصري. أولها تمكينُ المرأة من مزاولة الفن.

انتقلت أم كلثوم إلى القاهرة بشكل نهائي سنة 1921. بدأت مسارها في القاهرة بمسرح البوسفور في ميدان رمسيس بدون فرقة غنائية. كانت قصيدة “وحقك أنت المنى والطلب” أولى الأسطوانات التي صدرت لها في منتصف العشيرينيات، بيع منها ثمانية عشر ألف أسطوانة.

بدايةُ الاحتراف ستكون مع محمد القصبجي، الإنتقال من المرحلة الريفية إلى المدنية على مُستوى الغناء والشكل. شكلا، خلعت أم كلثوم العباءة، وتحولت إلى الفستان الأفرنجي تيمنا بآنسات القاهرة.

فنيا، شكلت فرقتها الغنائية الخاصة.

1928 كانت السنة التي سيبزغ فيها نجمُ أم كلثوم. مونولوج “إن كنت أسامح وأنسى الأسية” سيُحقق أعلى المبيعات وقتها، ليدوي اسمها في الساحة الغنائية.

أم كلثوم في ميزان السياسة

في بلاط الملك فاروق:

تعودُ قصة حصول أم كلثوم على لقب الأميرات إلى عام 1944، خلال حفل رمضاني بمقر النادي الأهلي. كانت أم كلثوم تختمُ أغنية “حبيبي يسعد أوقاته”، فإذا بالملك فاروق يقحتم الحفل. بسرعة البديهة، غيرت أم كلثوم كلمات المقطع الأخير من الأغنية قائلة:

يا نيلنا ميتك سكر

وزرعك في الغيطان نوَّر

يعيش فاروق ويتهنى

ونحيي له ليالي العيد

فور انتهاء الحفل، استدعاها الملك، فوشحها بنيشان الكمال، الذي كان مقتصرا على الأميرات ومنحها لقب صاحبة العصمة.

بَيد أن هذا التَّكريم ستكون له تبعات… بعد ما يعرف بثورة الضباط الأحرار سنة 1952.

ثورة يوليو:

سنة 1952، ستشهدُ مصر ثورة على الملكية من طرف الضباط الأحرار، ثورة لم يسلم منها أولئك الذين كانت لهم علاقة بالملك فاروق، وأبرزهم أم كلثوم.

تم منع أغاني أم كلثوم من الإذاعة الوطنية، وطردها من منصب نقيبة الموسيقيين، كونُها مُطربة العهد السابق. الحكاية هنا، أن ضابطا اسمه “كيلاني”، عندما كان مديراً للإذاعة بعد يوليو، أمر بمنع أغاني أم كلثوم بدعوى أنها من مخلفات العهد السابق، فكان تعليق عبد الناصر المشهور هو: خذ فأساً أو جرافة يا كيلاني وأهدم الأهرام لأنها شيدت قبل الثورة، أو أوقف النيل عن الجريان لأنه كان يجري أيضاً قبل الثورة.

بعض الحكايات تذهب إلى أن كيلاني، كان يريد أن تغني أم كلثوم بعض الأغاني من تأليفه، لكنها رفضت… فقرر محاربتها.

بوساطة مِن الصحافي المصري مصطفى أمين، ألغى جمال عبد الناصر كل هذه القرارات. لكن نقطة التحول في العلاقة بين جمال عبد الناصر والست أم كلثوم، كانت اختيار محمد عبد الوهاب نقيبا للموسيقيين. على إثر ذلك… قررت أم كلثوم الإعتزال نهائيا.

أن يعتزل الصّوت الذي ارتبط به الشعب المصري، هذا ما لا يُريده عبد الناصر، لإدراكه قيمة الفن في إعلاء شأن طرف، وإسقاط طرف آخر.

تواصل مع أم كلثوم وفد مكون من جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم، وأقنعوها بالعدول عن قرار الإعتزال. في هذه اللحظة ستنشأ العلاقة بين الطرفين.

غنت لعبد الناصر:

“بعد الصبر ما طال نهض الشرق وقال، حققنا الآمال برياستك يا جمال”

يا جمال يا مثال الوطنية
أجمل أعيادنا المصرية بنجاتك يوم المنشية

بعد محاولة اغتياله في 26 أكتوبر 1952 في الحادثة المعروفة بـ”المنشية”.

نكسة 67، أفول القدسية:

أشارت الأصابع إلى جمال عبد الناصر، كونهُ سببا في هزيمة 67. وفق ذلك، اعتُبر كل من غنى له مشاركا في الهزيمة. نزعت القدسية عن كل من أيد عبد الناصر، فكتب الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدة هجائية لأم كلثوم:

مدحتِ عشرين ملك وميه وزير ورئيس
مروان وعبد الملك والمفتري وعتريس
بتغني بالزمبلك ولا إنتِ صوت إبليس
من أول المبتدأ حتى نهاية الكون..

من هُنا، ستتجه أم كلثوم توجها آخر، من الغناء للشخص إلى الغناء للوطن.

بداية النهاية:

انقطعت أم كلثوم عن تقديم الحفلات سنة 1971 بعد إصابتها بمرض التهاب الكلي، فكان آخر ما غنته ليلة الحب.

يوم الإثنين 3 فبراير 1975 توفيت أم كلثوم عن عمر ناهز 76 سنة، ليُسدل الستار عن حياة ملؤها الطرب.

قدمت نحو 320 أغنية، وصنفت أغنيتها “الأطلال”، ضمن أفضل مائة أغنية في القرن العشرين.

صاحبة العصمة، كوكب الشرق، الست… ألقاب أضحت لصيقة بأم كلثوم إلى زمننا هذا.

داعبت أغانيها أحاسيس الناس من الخليج إلى المحيط، تجاوزت حاجز الزمن… ليُدفن الجسد، ويبقى الصوتُ طليقا في كل بَيت، ولم يستلم راية الطرب العربي أحد مذ رحيلها.

 

مقالات قد تهمك:

تعليقات

  1. عمر ريان

    ام كلثوم تبقى خالده فيما يخص موضوع الغناء العربي بكل اطيافه : الديني, الوطني والشعبي.غناؤها وسيرة حياتها تؤرخ لفتره مهمه جدا من تاريخ العرب المعاصر في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين .تستحق بجداره وبإمتياز , لقب. ” سيدة الغناء العربي ” . لا تزال حية باغانيها وحاضره في كل مكان من الوطن العربي الكبير , من المحيط إلى الخليج .رحمها الله واسكنها فسيح جناته .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *