قراءة في كتاب “الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ” لهاشم صالح - Marayana - مرايانا
×
×

قراءة في كتاب “الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ” لهاشم صالح

إن تقييم الكاتب للانتفاضات العربية لم يكن سلبيا بالكامل، إذ يحسب لها إطاحتها بأنظمة شمولية ومطلقة لطالما شكلت عاملا مثبطا ومعيقا للتنمية البشرية؛ كاسرة بذلك حاجز الخوف النفسي.
كما قوض “الربيع العربي” أسطورة نظرية “الاستثناء الإسلامي” التي روج لها دعاة صدام الحضارات وطيف كبير من المستشرقين الغربيين، والتي مفادها أن الشعوب العربية والإسلامية ليس لديها القابلية للدمقرطة بفعل عوامل جينية وفطرية متأصلة في ثقافتها لا سبيل لها إلى الفكاك منها.
هذا التصور يفضي إلى اقتناع استعلائي مؤداه أن الحضارة هي نتاج غربي خالص وتعد حكرا على الشعوب المتقدمة

كتاب من تأليف المثقف التنويري السوري المقيم بالمغرب هاشم صالح، صدر عام 2013 عن دار الساقي ببيروت.

إنه بمثابة تحليل موضوعي للانتفاضات التي شهدتها بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي سميت إعلاميا بـ “الربيع العربي“؛ إذ لم يسقط الكاتب في فخ إضفاء هالة من القدسية والمعصومية على تلك الأحداث. بالموازاة مع ذلك، لم ينجرف هاشم صالح وراء الفريق الذي يتبنى نظرية المؤامرة كتفسير وحيد ومطلق للانتفاضات العربية. فكيف يمكن مقاربة أحداث “الربيع العربي” من زاوية التحليل الفلسفي والموضوعي؟

هل يشكل “الربيع العربي” حدثا تاريخيا؟

الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ - هاشم صالحإن الحدث التاريخي هو الذي يشكل قطيعة إبستيمولوجية ومعرفية حقيقية قياسا إلى الوضع السابق، فهو يفصل بين لحظتين تاريخيتين منفصلتين: ما قبل الحدث، وما بعده.

من هذا المنطلق، يمكن أن نسوق أمثلة عن أحداث تاريخية غيرت وجه البشرية مثل ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية، ناهيك عن بروز حركة الإصلاح الديني وقيام الثورة الفرنسية ونظيرتها الصناعية في السياق الأوروبي وهلم جرا. فهل يصدق وصف الحدث التاريخي على الانتفاضات التي عرفتها بعض الأقطار العربية وسميت “ربيعا عربيا”؟

إن انتفاضات “الربيع العربي” لا يصح وصفها بالحدث التاريخي من منظور مؤلف الكتاب، ذلك أنها عجزت عن إحداث القطيعة الإبستيمولوجية المشروطة لنهوض الأمة، باعتبار أنها كرست هيمنة التيارات السلفية والإخوانية ولم تفرز ثورة حقيقية في الذهنيات والعقول المتحجرة. والحال أننا لم نقطع بعد مع العصبيات الطائفية وما يسميه أمين معلوف بـ”الهويات القاتلة“، كشرط لا غنى عنه للانتقال إلى دولة المواطنة التي تتيح لجميع المواطنين التمتع بنفس الحقوق والواجبات بقطع النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو المذهبية.

تأسيسا على ذلك، تبدو الحاجة ماسة إلى إعادة النظر في التمثلات السائدة عن تراثنا التاريخي والديني وتنقيحه من الجوانب الميتة والمعرقلة لنهضتنا. من ثم، فالاتجاه نحو فهم عقلاني ومستنير لنصوصنا التراثية كفيل بالمصالحة بين القيم الكونية للحداثة والإسلام كدين ورسالة حضارية سمحة.

بناء على ذلك، فإن التنوير العقلي يسبق التحرير السياسي. بتعبير أوضح وأدق، فإن الثورات الفكرية تكون سابقة على نظيرتها السياسية وممهدة لها؛ فلولا كتابات مفكري عصر الأنوار الأوروبي الذين أبدعوا تصورا جديدا للسلطة السياسية وبالأخص جان جاك روسو، لما قامت للثورة الفرنسية قائمة وقس على ذلك.

الربيع العربي من منظور فلسفة التاريخ عند هيغل

هشام صالح
هشام صالح

إن تقييم الكاتب للانتفاضات العربية لم يكن سلبيا بالكامل، إذ يحسب لها إطاحتها بأنظمة شمولية ومطلقة لطالما شكلت عاملا مثبطا ومعيقا للتنمية البشرية؛ كاسرة بذلك حاجز الخوف النفسي. كما قوض “الربيع العربي” أسطورة نظرية “الاستثناء الإسلامي” التي روج لها دعاة صدام الحضارات وطيف كبير من المستشرقين الغربيين، والتي مفادها أن الشعوب العربية والإسلامية ليس لديها القابلية للدمقرطة بفعل عوامل جينية وفطرية متأصلة في ثقافتها لا سبيل لها إلى الفكاك منها. هذا التصور يفضي إلى اقتناع استعلائي مؤداه أن الحضارة هي نتاج غربي خالص وتعد حكرا على الشعوب المتقدمة.

غير أن أهمية “الربيع العربي” تبرز بشكل جلي إذا ما استحضرنا فلسفة التاريخ للفيلسوف الألماني هيغل، كمعطى في التحليل والتفسير. بحسب هيغل، فإن حركة التاريخ تتجه نحو غاية عقلانية وحتمية، ذلك أن الدولة الأخلاقية التي تضمن الحرية والرخاء لجميع المواطنين بوصفها تجسيدا لانتصار مشروع الحداثة، تعد نهايةَ التاريخ، أي أقصى مراحل التطور التاريخي الممكنة.

لكن التقدم وانتصار المشروع الحديث لا يمكن أن يحصل دون صراع مع نقيضه، أي دون معايشة ومواجهة الأوضاع الموسومة بالتخلف والجمود. من هنا، نظر هيغل إلى حقائق الحروب المذهبية والذبح على الهوية التي عرفتها أوروبا القرون الوسطى أو عصر الظلمات كمرحلة ضرورية، بالرغم من قسوتها وفظاعتها؛ إذ لولاها لما اضطر الأوروبيون إلى مراجعة تراثهم المسيحي المتزمت قبل أن يتنسموا هواء الحداثة.

إذا ما أسقطنا فلسفة التاريخ الهيغلية على ما تعيشه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن الانتصارات الانتخابية التي حققتها أحزاب الإسلام السياسي لا تبدو مزعجة بقدر كبير؛ فطالما بقيت تلك التيارات في المعارضة فإنها ستعيق حركة التاريخ والحداثة بسبب ادعائها للمعصومية؛ ناهيك عن قدراتها التعبوية الهائلة. إلا أنه سرعان ما ستنكشف محدوديتها وزيف شعاراتها حين تشارك في الحكم وتصطدم باعتبارات السياسة الوضعية؛ وبالتالي، تفقد مصداقيتها في نظر أتباعها. من هنا، نفهم تأكيد الكاتب على أن الربيع العربي يمثل بداية انحسار الظاهرة الأصولية واندحارها وليس انتصارها.

إن تحليل صعود نجم تيارات الإسلام السياسي من منظور فلسفة التاريخ عند هيغل ينسحب أيضا على المشكلة الطائفية بالعالم العربي، بحيث لطالما اعتقدت الأنظمة القومية العروبية بأن إغلاق الباب أمام النقاش العام ومصادرة التعبير الحر والتعددي إزاء تلك المشكلة المحيرة كفيل باتقاء شر الفتن الطائفية والمذهبية. غير أن تفجرها في أعقاب انتفاضات “الربيع العربي” أبان عن محدودية المقاربة السابقة وراهنية الانتقال إلى دولة المواطنة التي تستوعب كافة مكونات المجتمع على أساس المساواة أمام القانون والنظام الديمقراطي كمرجعية عليا لتدبير مظاهر الاختلاف.

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *