سناء العاجي تكتب: بوح عابر - Marayana - مرايانا
×
×

سناء العاجي تكتب: بوح عابر

أنا متعبة فعلا يا صديقي. متعبة جدا يا صديقتي. متعبة ومنهكة ولم يعد في قلبي متسع لخصامات تافهة وعتاب ولوم…

مع نهاية رمضان سنة 2020، أصيب أبي بنزلة برد حادة لم يشف منها رغم مرور الوقت وتعدد العلاجات.

كنا في عز الإقفال التام والخوف من تداعيات كورونا. وكنت خائفة على والدَيَّ من الإصابة بالفيروس، بالنظر لسنهما ولكونهما مصابان بداء السكري.

مع منتصف يوليوز، عرفت من الطبيب أن الأمر يتجاوز أزمة البرد؛ وأنه أفظع من كل التوقعات.

بعدها بأقل من شهر، توفي أبي…

مر الآن أكثر من عام على وفاة والدي… لكني لم أتعافَ تماما. أتذكر أحيانا بعض التفاصيل بابتسامة وبشوق، وأتذكر تفاصيل أخرى بحزن وألم. لا نتحدث في الأمر كثيرا مع إخوتي، لكني أعرف أننا جميعا نعيش نفس المزيج من أحاسيس الحزن والابتسامة والشوق والندم…

لا أكتب اليوم لأنعي والدي. قال لي يوما: “أنا فخور بك!” أدركت حينها كم كلفته هذه الجملة من مجهود لغوي وعاطفي، هو الرجل البسيط غير المتعلم والذي لا يعبر عن مشاعره بالكلمات. والدي، كالعديد من آباء وأمهات جيله، كان يعبر عن الحب بطريقته، لكن قطعا ليس بكلمات.

كبرنا كجيل دون أن نسمع كثيرا عبارات الحب من أهالينا… لكنهم قالوها بطريقتهم: بثمن رحلة مدرسية وفروه على حساب شيء آخر رغبوا فيه، بقطعة لحم مختارة لابنهم أو ابنتهم بينما يكتفون بقطعة أصغر، بحذاء رياضي يقتنونه لابنهم أو ابنتهم بينما يحتفظون بنفس النعل القديم…

هكذا كان أبي وهكذا ما تزال أمي على نفس المنوال.

لا أكتب اليوم لأنعي أبي. أتمناه سعيدا حيث هو…

لكني أكتب لأن موته كان من أفدح خساراتي… ولأني، منذ رحل أبي، تعلمت أن في الحياة خسارات أفدح من تفاصيل صغيرة نشغل بها أنفسنا وحروب تافهة وصراعات دنيئة.

في الحياة أمراض تصيبنا أو تصيب من نحب ولا نستطيع أمامها فرارا ولا حلا ولا علاجا.

في الحياة موت يأخذ من نحب إلى الأبد.. وسيأخذنا يوما ممن نحب!

في الحياة كلمات حب كنا نتمنى أن نقولها ولم ننتبه إلا بعد فوات الأوان.

في الحياة إحباطات فادحة أكبر من كل صغائر الأمور.

في الحياة تعب نفسي وجراح عميقة لا ينتبه لها من يحسدون ابتسامتنا الدائمة.

في الحياة إنهاكات نفسية وجسدية قد تصبح جزءً منا لشهور وسنوات، دون أن نستطيع الخلاص منها ولا حتى البوح بها! فما السبيل للبوح حين لا يرى الآخر فيك إلا انعكاسا باهتا لما يتصورك عليه؟

وما زلت يا صديقي تحاسبني على مكالمة لم تكن وعلى لقاء لم أحضره وعلى إيميل لم أكتبه.

وما زلت يا صديقتي تغضبين لأنك تتصورين نفسك مستهدفة بتدوينة عابرة.

وما زلت يا صديقي تحاسبني على غياب اعتبرته تقصيرا وعلى عيد لم أهنئك فيه وعلى وجبة لم نقتسمها.

وما زلت يا صديقتي تغضبين لأني نسيت هدية عيد الميلاد…

وما زلت يا صديقي تلومني لأني نسيت أن أرد على رسالتك.

وما زلت يا صديقتي مصرة على أن مسار نجاحك لن يكون معبدا ما لم تبعثري مسار شريكاتك في المسار… وكأن الطريق لا يمكن أن يسعكن جميعا.

وما زلت يا صديقي تحاسبني على تفاصيل صغيرة أنا التي اليوم أشتاق لنفسي. أشتاق لأن أنام طويلا، وأقرأ، وأمشي طويلا على الرمل أو في حديقة، وأن أشرب القهوة، وأحضن حبيبا غائبا وأشاهد فيلما تافها… وأنسى.

أن أنسى أحزاني ومخاوفي وهواجسي وتعبي.

أنا متعبة فعلا يا صديقي. متعبة جدا يا صديقتي. متعبة ومنهكة ولم يعد في قلبي متسع لخصامات تافهة وعتاب ولوم…

لم يعد في القلب ولا في الخاطر قدرة على ترضية الخواطر من أجل صغائر الأمور.

تعرف لماذا يا صديقي؟

لأني تعلمت أن بعض الخسائر قد تكون أكثر فداحة. وأنك تستطيع أن تغضب من تدوينة عابرة أو من قهوة لم تكن أو من هدية نسيتها… ذاك حقك، تماما كما هو حقي ألا أترك في القلب مجالا لكل هذا. لأن قلبي مثخن، ولأنني قررت أن بعض الأمور تستحق منا اهتماما أكبر قد نضيعه أحيانا في تفاصيل تافهة. وأننا مذنبون في حق قلوبنا إذا أنهكناها، فلا نترك لها مجالا لكي تهتم بما هو أجمل… وبمن هم أجمل!

 

تعليقات

  1. عبد الله بن احمد

    هي الحكمة صديقتي حين يبلغها المرء تعلمه كيف يسمو عن التفاهات ويهتم بما يستحق الاهتمام فعلا.. اسمحي لي أن اجدد لك التعازي الصادقة على فقد الوالد.. واطلب منك الاهتمام بالام أطال الله في عمرها .. الحكمة صديقتي تجعلنا راسدبن ملقحين .. الحكمةا علاجنا فلنجعلها ضالتنا ..دمت صديقتي حكيمة وسامية في الخلق كما في الفكر..

  2. نزهة

    رائع ما كتبته سيدتي رغم أنه أوجعني.

  3. MEKOUAR . MEK

    هو بوح صادق وممتع كالعهد بك ياأستاذة سناء . تحياتي .

  4. SOUHANE Aziz

    أنا معجب بكتاباتك الراقية حد الجنون لأن كتاباتك فعلا مرأة مجتمع نعيشه بحلوه ومره ودائما املين بغد أفضل أحبك في الإنسانية يا غالية

اترك رداً على عبد الله بن احمد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *