القسوة: بين المجرم السفّاح وطفل يُلقي بالكتاكيت في النار… 2/3
تشمل بعض أنواع القسوة ردود فعل طائشة تجاه التهديدات؛ بعضها يتضمن إغفالا متعمدا للحالة الإنسانية للضحية، ذلك أن إقصاء الآخر لم يجعل لهذه الحالة لدى مرتكب الجريمة أي اعتبار.
أولئك المجرمون القساة، الذين تدفعهم معتقداتهم القوية، يرون في أفعالهم دفاعا ضروريا عن النفس، يحميهم من الأفكار والناس الذين يشكلون تهديدا ضد مظهر حيوي من مظاهر هويتهم.
تساءلنا في الجزء الأول كيف يستطيع الإنسان أن يرتكب الفظاعات، ثم حددنا الفعل القاسي وأنواعه، وخلصنا إلى أن القسوة فعل واع ومتعمد.
في هذا الجزء الثاني، نواصل قراءتنا في كتاب “القسوة… شرور الإنسان والعقل البشري” للباحثة البريطانية كاثلين تايلور، ونرى ما الذي يذكي القسوة؟ وكيف تُقيّم المسؤولية الأخلاقية على ارتكابها؟
القسوة ظاهرة مُعقّدة؛ أعقد مما نتصور… المجرم مُتعدّد الجرائم قاسٍ، بالفعل. لكن الطفل الذي يلقي بالكتاكيت في النار أيضا، وإن كنا قد نجد له الأعذار.
صحيح أنهما لا يتبعان معادلة واحدة في الإجرام. لكن، ثمة عوامل متعددة تُنتج هذه النفعية الباردة مع جمود القلب… في مواقف أخرى، قد تصل إلى نزوع متوحش نحو السادية.
هذه العوامل تتضمن، وفقا لكاثلين تايلور، قوى وضغوطا اجتماعية وثقافية:
ضغوط الرفاق، طلب الإذعان بالطاعة، الإيديولوجيات، الخرافات، الأنماط والتغيرات الاقتصادية المفاجئة، الدوافع البيولوجية كالهرمونات وأمور كثيرة غيرها، مثل المخدرات.
الإنسان ليس دمية!
تتحدث كاثلين بتفصيل في كتابها عن كيف تتطور القسوة إلى فعل، وكيف يكون عليه الأمر في دماغ الإنسان.
دون ارتياد التفاصيل تلك، تخلص الكاتبة إلى أن هناك اختيارا حرا من الفاعل لارتكاب فعل ما… كأن يجلس مثلا في ركن هادئ، ويكتب قائمة بما يؤيد أو يعارض فعله قبل أن يقرر الإقدام عليه من عدمه.
بالتأكيد أن القسوة ليس مثارها الدفاع عن المعتقدات دائما، إلا أن هذه الأخيرة في الغالب ما تُستخدم تلقائيا كمبرر للسلوك العدواني.
تؤكد على هذا الاختيار المنطقي العاقل، بصفة خاصة، عند الحديث عن مرتكبي جرائم القسوة.
… الغريب أنه إذا قرّر شخص ما عدم الإقدام على القسوة، نقنع أنفسنا بأن أسبابا جبرية وقوية تقف وراء ذلك.
لكن، لسوء الحظ، كل أنواع الدوافع، من الخوف إلى الطمع أو الاضطرار إلى بدء الفعل، يمكنها أن تتغلب على موانع الفعل تلك ولو مؤقتا.
على سبيل المثال، عندما يكون الشخص تحت ضغوط قوية، مثلما هو الحال مع أغلب المجرمين، ومع المتطلبات السريعة للموقف، فإنه لن يكون لديه وقت أو ميل للانتباه إلى النوازع المتصارعة بين الإقدام على الفعل أو عدمه.
تُشير الكاتبة إلى أنه ثمة مخاوف من الاعتماد على دراسة المخ في أفعال القسوة. فالانتقاص من قدر الإنسان، واعتباره دمية تحركها خيوط المحفزات والدوافع، مشجوب من الناحية الأخلاقية.
المعتقدات كمثال…
تُقدّم العواطف بعض الأسباب التي تقود الناس إلى السلوك القاسي. قد يكون الدافع غير محدد وغامض وغير كاف، إلا أنه يكون مؤثرا حين يسير في قنوات تُطلق سلوكيات معينة. هذه القنوات ليست سوى المعتقدات…
فكرة الجماعة، مثلا، كجسد يحمل عواطف بين أعضائها وتفرض عليهم فروض الوحدة والطاعة، تُعطي قوة أكبر في مواجهة الدخلاء.
كلما كانت المعتقدات مثل هذه مهمة، يكون الدفاع عنها قويا. وكلما كانت العواطف التي تُؤججها شديدة ومتطرفة، يُحتمل أن يكون رد الفعل أكثر عنفا.
تشمل بعض أنواع القسوة ردود فعل طائشة تجاه التهديدات؛ بعضها يتضمن إغفالا متعمدا للحالة الإنسانية للضحية، ذلك أن إقصاء الآخر لم يجعل لهذه الحالة لدى مرتكب الجريمة أي اعتبار.
أولئك المجرمون القساة، الذين تدفعهم معتقداتهم القوية، يرون في أفعالهم دفاعا ضروريا عن النفس، يحميهم من الأفكار والناس الذين يشكلون تهديدا ضد مظهر حيوي من مظاهر هويتهم.
… من يرتكبون الأعمال الإرهابية مثلا.
بالتأكيد أن القسوة ليس مثارها الدفاع عن المعتقدات دائما، إلا أن هذه الأخيرة في الغالب ما تُستخدم تلقائيا كمبرر للسلوك العدواني.
حرية الإرادة والمسؤولية الأخلاقية
ترى الكاتبة أنه توجد، في معرض مناقشة أفعال الإنسان، مسألة أكثر أهمية من غيرها، تتعلق بحرية الإرادة والمسؤولية الأخلاقية.
هناك رأيان في ذلك. الأول ينظر إلى الأفعال بشروط لا صلة لها بالأخلاق، بحيث تكون حتمية بمعنى ما؛ مهما شعرنا بأنها حرة، تظل في الواقع موجودة بسبب قهري.
فكرة الجماعة، مثلا، كجسد يحمل عواطف بين أعضائها وتفرض عليهم فروض الوحدة والطاعة، تُعطي قوة أكبر في مواجهة الدخلاء. كلما كانت المعتقدات مثل هذه مهمة، يكون الدفاع عنها قويا. وكلما كانت العواطف التي تُؤججها شديدة ومتطرفة، يُحتمل أن يكون رد الفعل أكثر عنفا.
لكن، لو كان العالم كهذا، فهل يكون للمسؤولية الأخلاقية وجود؟ هل نُحاسب الناس ولم يكن أمامهم مفر من فعل ما فعلوه؟ (مذهب الجبرية).
أما الرأي الثاني، فهو المذهب الأخلاقي. الأخير يتمسك بفكرة الالتزام ويرى في الفرد الفاعل وحدةً وكيانا مستقلا حقيقيا أكثر مما يراه تابعا.
الإرادة الأخلاقية الحرة تعني ببساطة أن كل شخص مسؤول عن أفعاله؛ أيا كان ما دفعه إليها.
ما الأرجح؟
تنتهي المعركة بين الرأيين عند سؤال أي العوامل المؤثرة التي يمكن أن يُعتد بها باعتبارها أسبابا، ومن ثم لا يؤاخَذ الفاعل بالمسؤولية الأخلاقية عمّا يفعله.
على سبيل المثال، من يعانون من مرض نفسي شديد، يجري اعتبارهم غير مسؤولين عن أفعالهم.
العوامل مثل هذه أكثر من أن تُحصى… لكن بعضها صعب الاعتداد به، كمواجهة إهانات شديدة في الطفولة مثلا، أو إطاعة القائد في جرائم الحرب، أو المعاناة من النبذ الاجتماعي.
هل يعني هذا أن مثل هؤلاء كان ينبغي أن يعالجوا بدلا من أن يُعاقَبوا؟ سؤال معلق… الحياة ليست بهذه البساطة.
المشكلة، تقول الكاتبة، أنه لا يمكن وضع معيار للتساهل الأخلاقي لكل حالة من هذه الحالات على حدة. فكل حالة جرت في ظروف مختلفة… كما أن عوامل التأثير تلك لا توزن بالميزان نفسه.
نحن قد نُصدر أحكاما أخلاقية بسهولة. لكن، من قمة جبل الجليد، لا يظهر سوى القانون الذي يحدد العقوبات في المجتمع… لذا يُقال: العدالة عمياء.
لقراءة الجزء الثالث: القسوة: هل يمكن الحد من الجرائم الفظيعة ودون عقوبات قاسية؟
لقراءة الجزء الأول: القسوة: كيف يستطيع الإنسان أن يرتكب الفظاعات؟ 1/3