حركة 20 فبراير وحرية المعتقد
إن الدولة الديمقراطية التي تحمي حرية المعتقد هي بالضرورة دولة علمانية، لأنها تقف بالحياد من جميع المعتقدات ولا تعلن انتماءها لأي دين. وإذا كانت الدولة في المغرب دولة غير دينية، فإنها أيضا دولة غير علمانية.
مطالبتها باحترام حرية المعتقد تمس بجوهرها غير العلماني. لقد شكل انبثاق هذا المطلب في خضم حراك 20 فبراير وفي إطار لجنة رسمية، لحظة استثنائية تشير إلى أن تحقيقه يندرج ضمن أفق تاريخي ممكن الوصول إليه إذا تحققت شروطه على أرض الواقع، وهي شروط تبقى مرتهنة بتحقيق اليسار والقوى العلمانية للهيمنة الإيديولوجية في الحقل الفكري والثقافي.
تسمح المدة الزمنية التي تفصلنا عن حركة 20 فبراير والمقدرة بعقد من الزمن، بتأمل مجريات هذه الحركة بقدر من الموضوعية البعيدة عن حرارة اللحظة وانفعالاتها التي تحجب الرؤية الواضحة وتعيق النطر إليها في إطارها وحجمها الحقيقيين.
الآن، أصبحت تلك الرؤية ممكنة، تسمح بالقراءة واستخلاص الدروس من هذا الحدث الكبير الذي امتد عبر ربوع الوطن، والذي تفاعلت معه جل مدنه، وخاصة الكبيرة منها.
لقد كانت لهذه الحركة نتائج سياسية تجلت في مباشرة إصلاحات دستورية عقب مشاورات مكثفة مع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، أجرتها اللجنة التي تم تكليفها بتلقي مقترحات القوى السياسية والمدنية.
أسفر كل ذلك عن الدستور المعمول به حاليا والمعروف بدستور 2011، وبتشكيل حكومة آلت رئاستها وأغلب حقائبها إلى حزب أصولي هو حزب العدالة والتنمية.
يمكن القول الآن إن كل ما أسفرت عنه حركة 20 فبراير من إصلاحات دستورية وتشكيل حكومة برئاسة حزب أصولي، لا يرقى إلى ما رفعته من شعارات ومطالب تتطلع إلى المساواة والكرامة والعدالة وديمقراطية حقيقة تمتد إلى صلب النظام السياسي القائم، وتخترق جميع مفاصله.
الدستور الحالي، بالرغم من الإصلاحات التي أدخلت عليه، يبقى بعيدا عن أن يكون دستورا تتجلى فيه خصائص النظام الديمقراطي. كما أن الحزب الأصولي الذي أسندت له رئاسة الحكومة يجاهر بمناهضة أهم مرتكزات الديمقراطية، وخاصة الجانب المتعلق بحقوق النساء والحريات الفردية؛ وتاريخه، منذ النشأة، هو تاريخ مناهضة هذه الحقوق والتصدي بشراسة لكل المطالبين بها.
قد تكون هزالة ما أسفرت عنه حركة 20 فبراير في مجال الحريات الفردية مرتبطة بكون هذه الحركة انطلقت في زخمها الأول مسنودة بحركة أصولية هي جماعة العدل والإحسان، التي لا تخفي بدرورها مناهضتها لهذه الحريات وتعبئة قوتها كلما أثير نقاش حول مجال من مجالاتها.
لقد كان ممكنا، في لحظة من لحظات زخم النقاش العمومي حول الإصلاحات الدستورية آنذاك، الظفر بمكتسب هام يتعلق بالتنصيص دستوريا على حرية المعتقد كمبدأ تم تداوله في كواليس اللجنة التي كلفت بتلقي اقتراحات القوي السياسية.
يبدو أن من بين أعضائها من كان ضد هذا المقترح بالمطلق، فقام بتسريب الخبر المرتبط به إلى الإعلام ليقوم الحزب الأصولي من خلال زعيمه عبد الإله بن كيران بالتوسل للملك في أحد تجمعاته الجماهيرية بسحب المقترح لأنهم، كحركة أصولية، سيكونون مضطرين للتصويت بـ “لا” على الدستور، في حال ورد به هذا المقترح.
صحيح أن اليسار كان له حضور في هذه الحركة، واستطاعت تنظيماته الشبابية أن يكون لها وزن ضمن رموزها.
إلا أنها، مع ذلك، لم تستطع أن تعوض الفراغ الذي خلفه انسحاب جماعة العدل والإحسان المفاجئ وغير المفهوم لحد الآن من الحركة وهي في عز أوجها؛ وهو الانسحاب الذي جعلها تفقد زخمها وتدخل في العد العكسي لتراجعها التدريجي، إلى أن خبا صوتها واندثر أثرها تماما مع توالي الأيام والشهور.
لم يكن اليسار إذن قويا بما يكفي ليفرض الاستجابة لمطالبه، خاصة تلك المطالب التي تمس الخلفية الإيديولوجية للسلطة.
الحقيقة أن مطلب حرية المعتقد، لو تم التنصيص عليه في دستور 2011، لكانت الحركة قد حققت انتصارا كبيرا وخلفت بالفعل مكسبا هاما كان سيشكل منعطفا حاسما في تطور المغرب وصيرورته نحو القطع مع التقليد والانتماء بجدارة إلى الحداثة.
غير أن الحركة، للأسف، عانت منذ البداية من عطب بنيوي تجلى في أن وزنها الجماهيري كان معلقا على حضور جماعة أصولية مناهضة في الجوهر لهذا المطلب ومعادية لأسس المجتمع الحديث. فضلا على أن الحزب الذي فاز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التي أجريت عقب إقرار الإصلاحات الدستورية، كان تنويعا أخر على هيمنة الحضور الأصولي على الوعي الشعبي العام.
في ظل هذا المناخ السائد، كان كل مطلب مرتبط بالحريات الفردية يصطدم بالرفض القاطع من قبل التوجهات الأصولية وتنظيماتها المتعددة.
هذا ما وقع مثلا مع مطلب رفع التجريم عن العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج من القانون الجنائي، والإفطار العلني في رمضان وغيرها من المطالب التي لا تتطلب الاستجابة لها كلفة اقتصادية أو موارد إضافية، وإنما تتطلب فقط إرادة سياسية نابعة من الاقتناع بالأهمية القصوى لتحقيق هذه المطالب كشرط ضروري لكل تغيير ديمقراطي حقيقي وجوهري.
إن اختلال ميزان القوي لصالح التوجهات الأصولية وعلى حساب قوى اليسار والتوجهات الليبرالية، هو الذي يفسر التراجع الفوري عن إدراج مطلب حرية المعتقد ضمن الإصلاحات الدستورية، إذا افترضنا أن النظام لم يكن لديه مانع من الإقدام على هذه الخطوة الإصلاحية الهامة. إلا أن هذا الافتراض يبقى مستبعدا بالنظر إلى أن شرعية النظام تقوم في جزء كبير منها على أساس ديني، وهو ما يفسر الحيز الذي يشغله حقل إمارة المؤمنين ضمن الهندسة الدستورية ككل.
لذلك، يمكن القول إن التنصيص على حرية المعتقد سيجد دوما هذا العائق المتمثل في الجانب الديني الذي يرتكز عليه النظام في بناء جزء كبير من شرعيته. ولكي يقدم على مثل هذه الخطوة الإصلاحية، يحتاج إلى تعويض هذا الجانب من شرعيته بشرعية أخرى لا ترتكز على الدين، بل على الدور الهام الذي يستطيع أن يقوم به في انتقال ديمقراطي حقيقي على غرار الدور الذي قامت به الملكية في إسبانيا، عندما سهلت الانتقال إلى النظام الديمقراطي وإحداث قطيعة تامة مع كل أشكال الانفراد بالسلطة.
صحيح أن حركة 20 فبراير لم تؤكد كثيرا على مطلب حرية المعتقد. لكن مطلبها المرتبط بالديمقراطية لا يتناقض مع هذا المطلب، كما أن مكوناتها اليسارية طالبت به في إطار تواجد مناضليها بمجموعة من الهيئات الحقوقية والمدنية المختلفة التي تؤكد على هذا المطلب، والعديد من مناضلي اليسار سجلوا حضورهم في العديد من الوقفات التي طالبت بعدم تجريم الإفطار العلني في رمضان، والعلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج.
إن الدافع لإثارة مطلب حرية المعتقد في ارتباط مع حراك 20 فبراير نابع من أنه لم يسبق لمطلب في أهميته أن أثير في خضم حدث كبير مماثل، وداخل لجنة رسمية مكلفة من السلطة بتدبير مسألة الإصلاحات الدستورية، وإثارته في سياق مماثل يشير إلى ما كان يمكن أن يتمخض عنه الحراك لو انبثق في إطار ميزان قوى مغاير للذي كان سائدا حينئذ.
هذا يعني أن دستور 2011 هو حصيلة لتفاعلات لحظة سياسية لم تسمح إلا بما ورد به من إصلاحات تجعله لا يرقى إلى مصاف الدساتير الديمقراطية، سواء من حيث غياب توازن للسلط لصالح سلطة واحدة، أو من حيث غياب التنصيص على مبادئ لا تكون الديمقراطية إلا بوجودها ولا تستقيم إلا على أساسها.
إن الدولة الديمقراطية التي تحمي حرية المعتقد هي بالضرورة دولة علمانية، لأنها تقف بالحياد من جميع المعتقدات ولا تعلن انتماءها لأي دين. وإذا كانت الدولة في المغرب دولة غير دينية، فإنها أيضا دولة غير علمانية.
مطالبتها باحترام حرية المعتقد تمس بجوهرها غير العلماني. لقد شكل انبثاق هذا المطلب في خضم حراك 20 فبراير وفي إطار لجنة رسمية، لحظة استثنائية تشير إلى أن تحقيقه يندرج ضمن أفق تاريخي ممكن الوصول إليه إذا تحققت شروطه على أرض الواقع، وهي شروط تبقى مرتهنة بتحقيق اليسار والقوى العلمانية للهيمنة الإيديولوجية في الحقل الفكري والثقافي.
اقرأ أيضا:
- من اليمن، حسين الوادعي يكتب: في تهافت دعوى “احترام المعتقدات”
- الحرية الفكرية: هكذا أسهم رجال الدين تاريخيا في قمع الفكر واضطهاده 4/2
- من اليمن، حسين الوادعي يكتب: من “صحيح الدين” إلى “صحيح الدنيا”… لحظة العلمانية العربية
- هشام روزاق يكتب. ذكرى 20 فبراير وبنكيران: زمن “التقاعــس” الاستثنائي
- من اليمن، وسام باسندوه تكتب: إرهابيون وسطيون معتدلون