من كندا، عبد الرحمان السعودي يكتب: فلسطين في سوق البشرية… - Marayana - مرايانا
×
×

من كندا، عبد الرحمان السعودي يكتب: فلسطين في سوق البشرية…

انتصر منطق آدم. حافظ على الكرة وعلى القميص والحذاء الرياضي واستمر في حراسة المرمى تحت التشجيعات، وأقسم منذ تلك اللحظة الفارقة في حياته، على ألا يفرط في هذه العلامة التجارية التي تبيض ذهبا، والمسماة “فلسطين”.

عبد الرحمان السعودي

صحيح أننا كنا صغارا، في العاشرة من العمر، ومع ذلك، كنا نعي جيدا مأساة أطفال الحجارة. لذلك قررنا أن نسمي فريقنا لكرة القدم “فريق فلسطين” كنوع من التضامن.

كان لدينا حارس مرمى يدعى “آدم”، يعتمد على العارضة لصد تسديدات الخصم لأنه ضعيف النظر، ولم نكن للأسف نستطيع أن نستغني عن خدماته لأنه صاحب الكرة.

توالي الهزائم النكراء بحصص ثقيلة، جعلنا نقرر بعد طول تفكير أن نغير اسم الفريق لكي لا نجلب العار للقضية النبيلة التي كنا نود صدقا أن نشرفها لكننا لم نستطع، فأردنا الاكتفاء بشرف المحاولة.

اتخذنا القرار الصعب وسط انهيار “آدم” الذي اعترف لنا بأنه ليس صاحب الكرة أساسا، بل هي هدية من فقيه الحي لنصرة فلسطين، وسيطالب باسترجاعها دون شك في حالة تغيير اسم الفريق، والأنكى أن الأقمصة والأحذية الرياضية التي نلبسها سيكون مصيرها العودة إلى مخازن جمعية القدس. كما نبهنا إلى أن هذا الاسم هو الذي يشفع لنا لدى سكان الحي ليتحملوا صراخنا وألفاظنا البذيئة.

لم يكن منتصب القامة ولا مرفوع الهامة وهو يمشي إلى سوق البشرية، ليواصل المتاجرة بمأساة طفل يواجه دبابة بحجر

لكن أخطر ما قاله آدم، هو أن تغيير اسم الفريق سيحرمنا وإلى الأبد من تشجيع فتيات الحي، اللاتي دأبن على مواساتنا بعد كل هزيمة ثقيلة مخزية.

قلبتْ هذه المرافعة المكيافيلية الموازين، وتم التصويت بالإجماع على الاحتفاظ بالاسم رغم العار الذي سنلحقه باسم “فلسطين”.

انتصر منطق آدم. حافظ على الكرة وعلى القميص والحذاء الرياضي واستمر في حراسة المرمى تحت التشجيعات، وأقسم منذ تلك اللحظة الفارقة في حياته، على ألا يفرط في هذه العلامة التجارية التي تبيض ذهبا، والمسماة “فلسطين”.

ظل آدم وفيا لمنهجه في الحياة، وتقلد في سن مبكرة منصب المنسق العام لجمعيات الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، ليتحول في وقت قياسي إلى مفخرة الحي ويصبح أشهر من نار على علم.

لقبوه بـ”صاحب الكوفية”، ونظم مسيرات لا تحصى لمناصرة فلسطين عقب كل مجزرة تقوم بها إسرائيل.

هتف ضد الأمريكان وتوعد خيْبَرْ وبني القَيْنُقاع. رصيده من القراءة – خارج مقرر الدراسة -لا يتجاوز كتاب الجيب لمجموعة أشعار محمود درويش.

رغم مرور كل هذه السنوات، مازلت أستحضر نذالته وهو يخبر رجل السلطة عبر الهاتف عن اسم الشاب الذي هتف ضد النظام في إحدى المظاهرات، فألعن تلك الأيام التي جمعتني به في ملاعب كرة القدم وفصول الدراسة وأزقة الحي وفوق سطح هذا الكوكب

لا يطربه غير صوت أميمة الخليل. يعلق صورة لها في غرفته بحجم يبلغ تسعة أضعاف صورة ياسر عرفات. يهيم بها حبا، ويكن لها مشاعر يحتفظ بها لنفسه لكي لا يقال إن نيته ليست خالصة لوجه فلسطين.

كنا نعرفه من بعيد، فهو الوحيد الذي يرتدي كوفية طوال السنة، مطرَّزة ناصعة البياض، عليها صورة القدس ومكوية بعناية.

كان يحرص دائما على أن يلفها حول عنقه بشكل أنيق ومميز، يليق بتاريخه النضالي الحافل بإحراق العلم الإسرائيلي أمام السفارة الأمريكية، وبالكتابات الخطابية الحماسية التي كان يعلقها على المجلة الحائطية في مرحلة الثانوية إلى جانب رسومات ناجي العلي. لكن اختفاءه المفاجئ والمريب خلّف سيلا من الشائعات والتخمينات، والعديد من علامات الاستفهام.

سمعت فيما سمع الناس، أن آدم فقد الأمل وقرر اعتزال “النضال” بعد أن تبين اغتناء سياسيين فلسطينيين على ظهر القضية الفلسطينية، وتورطهم في المتاجرة بها في المؤتمرات والقمم، شأنهم في ذلك شأن الدول “الشقيقة”، التي استخدمت القضية للاستبداد بالشعوب وإبرام صفقات السلاح.

في رواية أخرى، ادعى البعض أنه يعالج في مصحة نفسية، بسبب اكتئاب حاد أصابه عقب صدمة تبادل إطلاق النار بين فتح وحماس. وقال من لا أثق فيهم، إنه هاجر إلى فلسطين ليحارب جنبا إلى جنب مع إخوانه الفلسطينيين، وتعرض لعملية اختطاف من طرف الموساد الإسرائيلي. وقال الشاعر طرفة بن العبد، ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلا * ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّد.

أجلس في مكاني المعتاد، مستغرقا في الكتابة والحليب الساخن باللويزة. صحوت من خواطري على صوت خطواته يقطع الشارع جاريا نحوي. حاولت التحقق من شخصه دون جدوى، ثم أخذت أتفحص ملامحه وهو يسلم علي بحرارة.

تنبه إلى أنني لم أعرفه، فهتف بثقة وهو يوجه لكمة إلى صدري: “صاحب الكوفية!”

أخفيت دهشتي خلف ضحكات شبه ودودة، وغمغمت بدعاء البلاء أملا في تخفيف ما نزل. لم تكن تبدو عليه علامات الاكتئاب، ولا ندوب الحرب ولا آثار تعذيب الموساد.

طلب قهوة وأشعل سيجارا ثم انهال علي بأسئلة عن حالي مع الدنيا.

معلوماتي عن مصادر تمويل الجمعية جعلتني لا أستغرب عدم حديث المنشور عن عودة اللاجئين الفلسطينيين، وعن وقف الاستيطان الإسرائيلي.

رغم مرور كل هذه السنوات، مازلت أستحضر نذالته وهو يخبر رجل السلطة عبر الهاتف عن اسم الشاب الذي هتف ضد النظام في إحدى المظاهرات، فألعن تلك الأيام التي جمعتني به في ملاعب كرة القدم وفصول الدراسة وأزقة الحي وفوق سطح هذا الكوكب. لذلك كنت أريد للقائي به أن ينفض سريعا.

سألته بجدية ألغت فكرة كوني أمازحه: “بكم بعت الكوفية؟”.

كان يعلم موقفي منه. لذلك، تعامل مع سؤالي بثبات انفعالي كامل قائلا: “الكوفية والكِبة في أمان وسلام جنبا إلى جنب يا عزيزي”.

وقبل أن أستفسر، شرح: “أرأس الآن جمعية تدعو إلى السلام بين العرب والإسرائيليين”. أدركت منهجه الجديد في الحياة، ولم أمنحه الفرصة ليستفيض في التعريف بمنصبه الجديد، فجريت وراء سخريتي الخبيثة وقلت: “آآه… الكوفية لضمان الوظيفة، والكِبة لدفع ثمن السيجار”.

الشرر الذي تطاير من عينيه أشعرني بالانتشاء. ظننت أنه سيغادر فورا، لكن لسوء حظي تمكن من السيطرة على أعصابه.

فتح حقيبته السوداء الجلدية، أفخم وأغلى من تلك التي كان يحمل فيها منشورات حماسية وصورا لمحمد الدُّرة في الأيام الخوالي. أخرج منشورا للجمعية ووضعه أمامي.

من ضمن ما كتب عليه أن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يستوجب الاعتماد على منهج سياسي براغماتي، ودبلوماسية واقعية تستوعب الوضع الراهن بشموليته الجيوستراتيجية التي تفرض التكيف والمواءمة مع متغيرات صراع المصالح…… وما إلى ذلك من آخر صيحات موضة الخطابات السياسية الرائجة هذه الأيام.

 اتخذنا القرار الصعب وسط انهيار “آدم” الذي اعترف لنا بأنه ليس صاحب الكرة أساسا، بل هي هدية من فقيه الحي لنصرة فلسطين، وسيطالب باسترجاعها دون شك في حالة تغيير اسم الفريق

معلوماتي عن مصادر تمويل الجمعية جعلتني لا أستغرب عدم حديث المنشور عن عودة اللاجئين الفلسطينيين، وعن وقف الاستيطان الإسرائيلي.

طلبت منه بطاقة العمل (Business card)، فانفرجت أسارير وجهه وناولني إياها بزهو، في إشارة إلى أنه تجاوز زمن الهتاف والتحق بنادي الكبار.

قرأت على البطاقة أنه رئيس جمعية “المبادرة الدولية من أجل حل الدولتين”. تناولت قلمي على الفور للقيام بتعديل طفيف على اسم الجمعية. لم أقف كثيرا عند عبارة “المبادرة الدولية”، لوجود احتمال توصل الجمعية بفاكس من البنغلاديش عن طريق الخطأ. راقتني عبارة “من أجل حَلِّ” لأن لي فيها مآرب أخرى، ثم شطبت كلمة الدولتين لأكتب بدلا منها الكلمة التي تعكس ما يقوم به آدم منذ خشونة أظافره. رددت إليه بضاعته ليقرأ الاسم الجديد، “جمعية المبادرة الدولية من أجل حَلِّ التَّ..تين”، أعز الله مقداركم.

أجهزت تماما على اللقاء، وعدت في صمت إلى خواطري وكوب الحليب، وأتمم هو شرب قهوته دون أن ينطق بكلمة لكي لا يتحول الحوار إلى تبادل للآراء في الأم والأب.

انسحب في هدوء دون أن يدفع ثمن القهوة. لم يكن منتصب القامة ولا مرفوع الهامة وهو يمشي إلى سوق البشرية، ليواصل المتاجرة بمأساة طفل يواجه دبابة بحجر.

اقرأ أيضا:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *