لماذا تقدمت اليابان وتخلّف المغرب؟ 3/1قراءة في كتاب
كل من الدولتين قد واجه تحديات خارجية متشابهة دفعتهما، ظاهريا، إلى إرسال بعثات تعليمية إلى دول الغرب الرأسمالي لتوظيف نتائجها في عملية الإصلاح الداخلي والتنمية، لكن وبينما نجحت المحاولة اليابانية… فشلت مثيلتها المغربية!
“كانت الفرصة سانحة أمام المغرب ليتقدم إلى الأمام خطوات لو أنه خطاها، لصار أعلم وأقوى حتى من بلاد اليابان، التي كانت تغرق في حمأة التخلف والخرافات والتمسك بمقدسات وهمية كانت كالقيود في الأرجل والسلاسل والأغلال في الأعناق”.
هكذا تحدث المؤرخ المغربي محمد داود في موسوعته “تاريخ تطوان”، التي نشرت عام 1960… فأين المغرب من اليابان اليوم!
النموذج الآسيوي؛ الياباني بالأخص، يُعدّ اليوم محطّ دراسات عديدة تحاول استلهام الدروس منه…
عرف الخط التحديثي العام في اليابان، من أواسط القرن الـ19 إلى أيامنا هذه، مرحلتين متباينتين من حيث الأهداف والغايات التي وجهت سياساتها الداخلية والخارجية.
الأولى أنتجت دولة إمبريالية عنصرية لا تؤمن بغير العنف، فيما تأسست الثانية على نقد التجربة السابقة، فاتجهت بالتحديث نحو خيار السلام وقبول الاختلاف والتعايش السلمي.
هذا التوجه الثاني، الذي ابتدأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لا شك، والشواهد عديدة، كانت نتائجه مثمرة على نحو سمح لهذه الدولة بحضور بارز في الساحة العالمية.
اقرأ أيضا: إذا طالع العرب أنفسهم في مرايا يابانية، فهذا ما سيرونه… (الجزء الأول)
النموذج الآسيوي؛ الياباني بالأخص، يُعدّ اليوم محطّ دراسات عديدة تحاول استلهام الدروس منه… على أنه ندرت المقارنة بين تجربتي التحديث في كل من المغرب واليابان.
ومن النادر هذا؛ كتاب “البعثات التعليمية في اليابان والمغرب من أربعينيات القرن التاسع عشر حتى أربعينيات القرن العشرين… تباين المقدمات واختلاف النتائج”.
هل يمكن للمقدمات التاريخية لبلد ما أن تفرز نتائج تنموية مختلفة ومتباينة وأحيانا متعارضة؟
عنوانٌ طويل ينعكس في عدد صفحاته التي تبلغ 847 صفحة، وقد صدرت طبعته الأولى عام 2016 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
الكتاب من توقيع الباحث المغربي المتخصص في التاريخ المعاصر والتاريخ المقارن، يحيى بولحية، ويعالج في ما بين دفتيه إشكالية تنموية لافتة من خلال المقارنة بين مجتمعي اليابان والمغرب…
لماذا تنمو مجتمعات وتزدهر وتتقدم في الإصلاح، بينما تراوح مجتمعات أخرى مكانها مع أنها تخضع للآليات نفسها؟
من مدخل البعثات التعليمية نحو دول الغرب الرأسمالي، في الفترة التي عرفت سُقوطَيْنِ عسكريين في كل من المغرب (1844-1912) واليابان (1853-1945)، يتعقب الباحث مسالك الإجابة عن الإشكالية.
… فكل من الدولتين قد واجه تحديات خارجية متشابهة دفعتهما، ظاهريا، إلى إرسال بعثات تعليمية إلى دول الغرب الرأسمالي لتوظيف نتائجها في عملية الإصلاح الداخلي والتنمية، لكن وبينما نجحت المحاولة اليابانية… فشلت مثيلتها المغربية!
اقرأ أيضا: الأميرة اليابانية أياكو تتخلى عن لقبها للزواج بمن تحب
ما السبب إذن؟ هل نتيجة للبنية المجتمعية المختلفة في المُجتمعين، أم نتيجة البنية الذهنية ودَور المدرسة والنموذج التعليمي في كلا البلدين؟
يعترف اليابانيون اليوم بدور البعثات التعليمية في صوغ المشروع التنموي، وبلورة عناصر القوة التي بوأت بلدهم مكانة متميزة في مشهد العلاقات الدولية، وفي هندسة التكنولوجيا وإنتاجها في حقول المعرفة المختلفة.
يقر الباحث بداية بأن اختيار النموذج الياباني واتخاذه مرآة عاكسة للتشوهات التحديثية في المغرب لا يعني اقتفاء الأثر النعل بالنعل؛ ذلك أنه يظل خاضعا لمنطق النسبية.
إذا كان النموذج هذا قد نجح، مثلا، في تعميم إنجازاته التقنية والعلمية على مستويات متباينة من دول العالم، فإنه افتقد ولا يزال القدرة على نشر قيمه الثقافية عالميا.
الهدف، يؤكد الباحث، ليس أكثر من اتخاذه مرآة لمراجعة إخفاقاتنا التاريخية والنظر عبره إلى تحديد الأسباب المحتملة التي تفسر عللنا وفشلنا التنموي… إخفاقات لا ينطلق الباحث في سبرها من الحاضر كما نرى، إنما من المقدمات الأولى التي أفضت إليها.
اقرأ أيضا: من اليمن، حسين الوادعي يكتب: تاريخنا المثالي العظيم
فهل يمكن للمقدمات التاريخية لبلد ما أن تفرز نتائج تنموية مختلفة ومتباينة وأحيانا متعارضة؟
بعبارة أخرى؛ لماذا أنتجت التجربة التنموية اليابانية في مرحلتها الأولى (1868-1945) مسيرة دموية، بمقدمات فكرية وأسطورية ومجتمعية خاصة، كانت هي ذاتها التي منحت اليابان قمة العطاء التكنولوجي والتنموي خلال المرحلة الثانية؟
أحد المبتعثين المغاربة، آنذاك، قال بحسب ما يورده الباحث: “النصارى كيعلمو العقل والمسلمين كيحفيوه”…
يعترف اليابانيون اليوم بدور البعثات التعليمية في صوغ المشروع التنموي، وبلورة عناصر القوة التي بوأت بلدهم مكانة متميزة في مشهد العلاقات الدولية، وفي هندسة التكنولوجيا وإنتاجها في حقول المعرفة المختلفة.
بفضلها توفرت للإدارة اليابانية، بمختلف تخصصاتها، كفاءات بشرية متميزة اضطلعت بمهمة تخطيط القرارات الحكومية الكبرى وتنفيذها.
بل إن هذه التجربة منحت، بالموازاة، نفسا ثوريا وخطا تنمويا تحرريا لمعظم البلدان الآسيوية… على نحو يؤكد أن مسيرة التحديث لا تعني بالضرورة اقتفاء النموذج الغربي واتخاذه صنما لمواجهة التحديات التنموية.
مناهج التنمية، يشير الباحث، يمكنها أن تسلك دروبا وطرقا أخرى مغايرة ومتقدمة، تتجنب عقدة المركزية الأوروبية، التي سيطرت على العديد من الاتجاهات والتيارات الفكرية والإصلاحية في ما يسمى بالعالم العربي والإسلامي.
هكذا، وعلى امتداد صفحات الكتاب، يضع الباحث البعثات التعليمية، كآلية تحديثية، داخل المغرب واليابان في إطارها التاريخي العام.
قام بتحليل طبيعة النظام السياسي في كلا البلدين، وتطرق إلى تعرضهما للهجمة الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما بحث في خصوصيات البناء الاجتماعي، الثقافي، الرمزي والأسطوري، مستنتجا لحظات القوة والضعف في البنية التربوية في كلا البلدين.
“كانت الفرصة سانحة أمام المغرب ليتقدم إلى الأمام خطوات لو أنه خطاها، لصار أعلم وأقوى حتى من بلاد اليابان، التي كانت تغرق في حمأة التخلف والخرافات والتمسك بمقدسات وهمية كانت كالقيود في الأرجل والسلاسل والأغلال في الأعناق”.
لماذا تباينت النتائج إذن؟
ما طبيعة التعليم الذي استفاد منه المتعلمون المغاربة والطلبة اليابانيون في الخارج؟ ما مدى تحصيلهم الدراسي وما درجة اندماجهم داخل الإدارتين المغربية واليابانية بعد عودتهم؟ وكيف عملت النخب المتعلمة، وما القيمة المضافة التي حققتها لزخم التحديث في بلدانها؟
أحد المبتعثين المغاربة، آنذاك، قال بحسب ما يورده الباحث: “النصارى كيعلمو العقل والمسلمين كيحفيوه”…
في الجزء الثاني، نتابع أهم الإجابات والخلاصات التي توصل إليها الكتاب.
لقراءة الجزء الثاني: حرص المخزن على إعادة إنتاج نفسه… هكذا فشلت البعثات التعليمية المغربية ونجحت اليابانية في تحديث بلادها 3/2
لقراءة الجزء الثالث: صناعة مخزنية: هكذا أفشل تهميش الكفاءات باكرا مشروع الإصلاح بالمغرب… 3/3