“تاريخ الكذب”… هل الكذب متهم في تشكيل السرديات البشرية؟ 2/1قراءة في كتاب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا...
“يمكن اعتبار اللجوء إلى الكذب إحدى الوسائل الضرورية والمشروعة، ليس فقط لكل من يمتهن السياسة أو يمارس الديماغوجية، بل وكذلك لممارسة الحكم”.
نتابع في هذا الملف قراءة في كتاب “تاريخ الكذب”، لكاتبه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، حيث يتساءل عن إمكانية تشكيل تاريخ خاص بالكذب.
الكتاب في الأصل عبارة عن محاضرة ألقاها دريدا بباريس عام 1997، وقد ترجمه الباحث المغربي رشيد بازي إلى العربية، عام 2016، ويعد أحد أندر الدراسات التي تتناول مكانة الكذب في صناعة كبريات السرديات البشرية كالتاريخ مثلا.
يقترح الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو تصنيفا شاملا لأنواع الكذب.
أن تكذب لصالح نفسك بالنسبة له، فهذا مستحيل. أن تكذب لصالح الغير، فهذا تدليس. أن تكذب قصد إلحاق الأذى بالغير، فهذا افتراء، وهو أسوأ أصناف الكذب.
أما أن تكذب، يقول روسو، دون جلب مصلحة أو إلحاق أذى بك أو بغيرك، فأنت لا تعتبر كاذبا، وما تقوله ليس بكذب، إنما مجرد تخيل.
ينبغي الاحتفاظ للكذب بتعريفه الخام، الجامد والصارم. إن لم نفعل ذلك، سيضيع المفهوم في تجاربنا اليومية، حيث نلجأ إلى أنصاف وأرباع الأكاذيب، التي يستحيل أن نتعاطى معها على أنها كذبا.
جاك دريدا إذ يحاول بدوره تحديد تعريف للكذب، يقول: لا يمكن اعتبار الكذب حدثا أو حالة؛ إنه فعل مقصود… فعل يعني أننا نتوجه بالقول إلى الآخرين.
لا يمكن لنا أن نكذب، بحسب دريدا، سوى على الآخرين. يستحيل الكذب على الذات، إلا إذا اعتبرناها بمثابة آخر.
أما الهدف، فهو أن نُسمع الآخر قولا نعرف بوعي بَيّنٍ أنه ادعاءات خاطئة، جزئيا وربما كليا.
من الضروري أن يكون الكاذب على علم بما يقوم به، أن يقصد من وراء ذلك إلى الخداع وإلحاق الأذى والتضليل… وإلا، فهو لا يعتبر كاذبا.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي: الكذب في سبيل الله… أو ماركس حنيفا مسلما
دريدا يعترف بأنه من الصعب تحديد مفهوم للكذب، ومع ذلك، يرى أنه ينبغي الاحتفاظ له بتعريفه ذاك، الخام، الجامد والصارم.
فما الذي يعنيه هذا؟
ببساطة، إن لم نفعل ذلك، سيضيع المفهوم في تجاربنا اليومية، حيث نلجأ إلى أنصاف وأرباع الأكاذيب، التي يستحيل أن نتعاطى معها على أنها كذبا.
بالنسبة لدريدا، فإن الكذب لم يبلغ حدوده المطلقة ليصبح “كاملا ونهائيا” إلا في عصرنا هذا.
هذه الأكاذيب تستقر في منطقة مظلمة؛ هناك حيث يستعصي علينا اتخاذ موقف واضح بين الإرادي واللاإرادي، بين المقصود وغير المقصود، بين الوعي وما تحت الوعي واللاوعي، بين الحضور للذات والغياب عنها، بين العلم والجهل، بين النية الحسنة والنية السيئة، بين ما هو نافع للآخرين وما يضر بهم.
ثمة أيضا صعوبات أكبر يواجهها هذا التأطير، الذي يطلق عليه دريدا المفهوم الطليق للكذب؛ هل الكذب دائما ما يكون رهينا بالأقوال التصريحية؟
اقرأ أيضا: ما الذي تغيّر في “الإسلام” حتى يُغيّر بعض الشيوخ رأيهم نحو التطبيع؟
ماذا عن الخطاب الضمني؟ هل يجب مثلا أن نعتبر الابتسامات المتكلفة من باب حسن اللياقة، أو النظرات وحركات اليد التي تبقى مضمرة، مجرد أكاذيب؟
ثم إنه ينبغي كذلك التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم، وتاريخه في حد ذاته.
هذا الأخير يمثل تاريخا وثقافة يؤثران في مختلف الممارسات والدوافع والنتائج التي يمكن ربطها بالكذب.
انحطاط الكذب!
تعتبر السياسة مجالا خصبا للكذب. تقول الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت في دراسة لها بعنوان “السياسة والحقيقة”:
“يمكن اعتبار اللجوء إلى الكذب إحدى الوسائل الضرورية والمشروعة، ليس فقط لكل من يمتهن السياسة أو يمارس الديماغوجية، بل وكذلك لممارسة الحكم”.
اقرأ أيضا: دروس الجائحة: هل على السّاسة اتّباع العلماء دوماً في اتّخاذ القرارات؟
على الهامش، نلاحظ هنا أنه من الصعب أن يكون للكذب تاريخه الخاص، ذلك أنه يعاش من خلال تجارب مشتركة.
الكذب السياسي بشكله التقليدي، القديم، كان يرتبط عادة بأسرار حقيقية، ومعطيات يتم إخفاؤها كليا على الرأي العام. أما الأكاذيب السياسية العصرية، فهي لا تتعامل مع أسرار، إنما مع وقائع معروفة تقريبا من طرف الجميع.
بالنسبة لدريدا، فإن الكذب لم يبلغ حدوده المطلقة ليصبح “كاملا ونهائيا” إلا في عصرنا هذا.
وقد سبق للكاتب الإنجليزي أوسكار وايلد أن اشتكى مما وصفه بـ”انحطاط الكذب”.
هذا الانحطاط، يقول وايد، يمكن ملاحظته لدى السياسيين والمحامين، بل وحتى عند الصحافيين. سجل في ملاحظته، يشير دريدا، أن مستوى هؤلاء في إتقان الكذب في هبوط مستمر، بل إنهم… توقفوا عن ممارسة فن الكذب!
اقرأ أيضا: من مصر، هند الورداني تكتب: الكتابة تسحبك إليها… رغما عنك
الكذب، بحسب دريدا، فن لا يمكن أن يستمر إلا من خلال الفنانين؛ خاصة الأدباء. فالأدب أحد فنون الخطاب، إلا أنه هو الآخر يجد نفسه مهددا جراء انحطاط مستوى الكذب.
وايلد إذن اشتكى من احتضار الكذب، وبجانب ذلك، أبدت أرندت قلقها من التضخم والتنامي المفرط للكذب في عالم السياسة، ومن بلوغه حده الأقصى.
التاريخ يتحول إلى كذب مطلق!
في دراستها تلك، تورد أردنت مثالين يجسدان “أكاذيب” عصرية. يتعلق الأمر بالزعيم الفرنسي شارل ديغول، والمستشار الألماني كونراد أديناور.
الأول ادعى وبشكل كاد أن يجعل ادعاءه مقنعا، تقول أردنت، بأنه “يجب اعتبار فرنسا من بين الدول التي خرجت منتصرة من الحرب، وبالتالي تعد قوة عظمى”.
أما الثاني فقد ادعى أن “نسبة الذين تضرروا في البلاد من بربرية الوطنية الاشتراكية تبقى نسبيا ضعيفة”.
الكذب، بحسب دريدا، فن لا يمكن أن يستمر إلا من خلال الفنانين؛ خاصة الأدباء. فالأدب أحد فنون الخطاب، إلا أنه هو الآخر يجد نفسه مهددا جراء انحطاط مستوى الكذب.
بهذين المثالين، يسهل وفق دريدا التمييز بين الكذب السياسي التقليدي، والطريقة العصرية التي تعاد بها كتابة التاريخ.
هذه الظاهرة جديدة نسبيا؛ أي التلاعب على مستوى واسع بالأحداث والآراء، وتظهر جليا في الطريقة الجديدة التي أصبحت تخلق بها الصور وتعاد بها كتابة التاريخ.
اقرأ أيضا: سعيد ناشيد يكتب: البطيخ واسم الجلالة
ببساطة، الكذب السياسي بشكله التقليدي، القديم، كان يرتبط عادة بأسرار حقيقية، ومعطيات يتم إخفاؤها كليا على الرأي العام.
أما الأكاذيب السياسية العصرية، فهي لا تتعامل مع أسرار، إنما مع وقائع معروفة تقريبا من طرف الجميع.
في الجزء الثاني نتابع كيف يُسهم الكذب في صناعة تاريخ مُزيّف بحسب دريدا.
لقراءة الجزء الثاني: “تاريخ الكذب”… في السياسة وصناعة التاريخ المزيف 2/2