التطبيع… إذعان، خنوع أم مصلحة؟ 3/3
رغم قبول بعض الأنظمة العربية بالتطبيع، مضت إسرائيل في تكريس الاحتلال، ولم توقف عدوانها على الشعب الفلسطيني ولا توقفت عن بناء المستوطنات أو تنفيذ خطة ضم أراض فلسطينية من الضفة الغربية.
بعد جزء أول حاولنا فيه تشريح لفظ التطبيع، مختلف معانيه وسياقات استعماله، وجزء ثان خاض في بعض مستويات المفهوم المتعددة، من سياسي، اقتصادي، أمني وثقافي… في هذا الجزء الثالث والأخير، نعرّج على الرؤية الفلسطينية للتطبيع، ثم نعود لنعرف أوجه الإذعان وربما الخنوع وأيضا المصلحة، في اتفاقات بعض الأنظمة العربية مع إسرائيل.
كيف ينظر الفلسطينيون أنفسهم إلى التطبيع؟ برؤية غير موحدة، ملتبسة…
ليس لسياسات الفصل والتطهير العنصرية التي تعرضوا لها أن تتفتق عن شيء آخر البتة… لكل نتائجٍ مُقدّماتها.
فما عادوا مجموعة واحدة، إنّما خمس مجموعات فرعية: فلسطينيو 48، فلسطينيو القدس، فلسطينيو الضفة الغربية، فلسطينيو غزة، وفلسطينيو الخارج[1].
تعتقد بعض الأنظمة العربية أن التطبيع مع إسرائيل يساعدها في حماية أمنها، وتقريبها من واشنطن، بغض النظر عن موقف الفلسطينيين وموقف شعوبها.
لكل من هؤلاء رؤيته للتطبيع وطرق مناهضته… يختلف ذلك تبعا للمسافة الاجتماعية بينه وبين المستعمِر، ورؤيته السياسية للآخر الإسرائيلي، ولنوع التواصل المشروع الذي تفرضه سياقات تسيير أمور ومتطلبات العيش اليومي[2].
أيا يكن، فاتفاق أوسلو زعزع، على نحو ما، قاعدة الرفض الفلسطيني الشامل لفكرة وجود إسرائيل…
هذا التطبيع أيضا رتّب بين منظمة فتح وإسرائيل انتكاسةً تمثّلت في ضياع 78 بالمائة من أراضي فلسطين، والدخول في مفاوضات على الـ22 بالمائة المتبقية منها[3].
اقرأ أيضا: الحريديم: إسرائيل لن تلم شمل اليهود، ومستشار لعرفات من الحريديم 2/2
ثم… كان مشروطا بالتنسيق الأمني بين الطرفين من أجل قص أجنحة المقاومة الفلسطينية تحت ذريعة “محاربة الإرهاب”.
لقد كان واضحا أنه اتفاق إذعان وخضوع، لأن نتائجه بالنسبة للفلسطينيين كانت هزيلة… أدهى من ذلك، شقّ الجبهة الداخلية بقيام جناح معارض للتسوية[4].
إلا أنه، في المجمل، هناك خطوط ناظمة للفهم الفلسطيني حيال التطبيع يمكن الرجوع إليها عند اختلاف الآراء.
نتنياهو، بالمقابل، يعتقد أن “العالم يهرول إلى إسرائيل، وذلك لأن القوة بكافة أشكالها تجعله يحترمك دون تقديم تنازلات”.
من بينها، أنه يُعد تطبيعاً أي نشاط أو مشروع يهدف لتحقيق “السلام” من دون الاتفاق على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف[5].
والحقوق هذه تعني الحق في تقرير المصير، بما فيه حق اللاجئين في العودة والتعويض طبقا لقرار الأمم المتحدة 194، وكافة القرارات المتعلقة بعروبة القدس، وعدم شرعية الاستيطان ومصادرة الأراضي، وتهجير السكان بالقوة وتغيير الجغرافيا والديموغرافيا[6].
اقرأ أيضا: شمعون ليفي: “تقاليدنا اليهودية، لا يمكن للمرء أن يبدلها لتبرير مصالح إسرائيل” 2\2
نعود إلى الحديث عن التطبيع الذي يخص باقي الأنظمة العربية.
كانت اللاءات الثلاث إحدى مخرجات قمة الخرطوم عام 1967 في التعامل مع إسرائيل… لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض.
هذه اللاءات، منذ ذاك وإلى اليوم، أخذت تتلاشى لدى بعض الأنظمة العربية، فيما يظهر أن البعض الآخر يتشبّث بها.
الأنظمة التي اختارت التطبيع، دائما ما تذرعت بكونه يصب في مصلحة الفلسطينيين لأنه مشروط بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية[7].
اتفاق أوسلو زعزع، على نحو ما، قاعدة الرفض الفلسطيني الشامل لفكرة وجود إسرائيل…
إنْ كان مِن تنازلٍ قُدّم لاحقا، كما تابعنا في الجزء الثاني، فهو الانسحاب على الأقل من الأراضي التي احتلتها إسرائيل العام ذاته.
لكن إسرائيل، على مدى السنين، مضت في تكريس الاحتلال، ولم توقف عدوانها على الشعب الفلسطيني ولا توقفت عن بناء المستوطنات[8] أو تنفيذ خطة ضم أراض فلسطينية من الضفة الغربية.
… وذلك طبعٌ إسرائيلي، يرى البعض أنه مسنود بقوة متغطرسة.
اقرأ أيضا: “يهود ضد الصهيونية”: وجود دولة إسرائيل هو عصيان لله وهو أمر محرم في الديانة اليهودية
في تبرريها للتطبيع مع إسرائيل، قالت الإمارات إنها أقدمت عليه مقابل وقف خطة الضم. إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، صرّح أن الاتفاق لم ينص على أي تجميد للخطة.
الذي يظهر، تنقل صحيفة إندبندنت البريطانية عن مسؤولين إماراتيين، أن بلادهم لم تحصل على ضمانات من إسرائيل لوفق ضم أجزاء من الضفة الغربية.
ثمّ حين انتقد الفلسطينيون ما قامت به الإمارات، صرّح مساعد وزير الخارجية الإماراتي، عمر غباش، أنها “دولة مستقلة وليس الفلسطينيون من يحدد لها طبيعة علاقتها بإسرائيل”.
يُعد تطبيعاً أي نشاط أو مشروع يهدف لتحقيق “السلام” من دون الاتفاق على الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف.
يبدو أن الأنظمة العربية، الخليجية منها خاصة، تنحو إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل التوصل إلى حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية.
هذه الأنظمة تعتقد أن التطبيع مع إسرائيل يساعدها في حماية أمنها، وتقريبها من واشنطن، بغض النظر عن موقف الفلسطينيين وموقف شعوبها[9].
نتنياهو، بالمقابل، يعتقد أن “العالم يهرول إلى إسرائيل، وذلك لأن القوة بكافة أشكالها تجعله يحترمك دون تقديم تنازلات”[10].
في الاتفاق مع الإمارات، مثلا، يقول بوضوح إنه يعتمد على مبدأين: “السلام مقابل السلام، والسلام من منطلق القوة”.
اقرأ أيضا: غسان كنفاني… زغرودة فلسطين التي لا تموت!
معاهدة كامب ديفيد، أيضا كمثال، رتبت التزاما قانونيا على مصر يقضي بعدم اللجوء إلى الخيار العسكري في التعامل مع إسرائيل… لكنها لم ترتب التزاما مشابها على إسرائيل بعدم اللجوء إلى الخيار نفسه في التعامل مع الجهات العربية الأخرى[11].
هكذا، يظهر أن هناك، ولأسباب متعددة، نوعا من فرض أمر الواقع. وأن لفظ التطبيع، كما عرفناه في الجزء الأول، لا يترجم بدقة هذا الصراع الذي يكاد يكون لصيقا به.
لكن… إذا كان التطبيع مع إسرائيل مدفوعا بحسابات الأنظمة في المنطقة، فإن معظم شعوبها ما زال يعتبر قضية فلسطين، آخر قضية استعمارية، تهم العرب جميعا… وهو ما لم تجد الأنظمة سبيلا إلى تغييره[12]، ففي بعض القضايا، الناس ليسوا دوما على دين ملوكهم.
لقراءة الجزء الأول: التطبيع… عودةٌ إلى حالة طبيعية أم تطويع وقسر على الاعتياد؟ 3/1
لقراءة الجزء الثاني: التطبيع مستوياتٌ… أخطرها الثقافيّ! 3/2