التطبيع مستوياتٌ… أخطرها الثقافيّ! 3/2
لا تبرح مناح عديدة من التطبيع دائرة الرفض لدى فئة عريضة من شعوب منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط؛ ذلك أنها تهم الأنظمة الحاكمة، ومن ثم، كانت الحاجة إلى مستوى آخر يشمل النخب والشعوب أيضا…
تعقّبنا في الجزء الأول من هذا الملف مفهوم التطبيع منذ مهده، وحاولنا أن نصل إلى ماهية واضحة تحدد تعريفه، وقد خلصنا إلى أنه ملتبس، فالتطبيع بين طرفين أنهيا حالة صراع غير التطبيع في ظل واقع استعماري.
في هذا الجزء الثاني، وبعدما عرفنا أن المفهوم يكاد يكون لصيقا بـ”الصراع الفلسطيني/العربي-الإسرائيلي”، نخوض في بعض أوجه التطبيع الذي قبلت به بعض الدول “العربية” تجاه إسرائيل.
خرج العرب في حروبهم أمام إسرائيل منكوسي الرأس. بعد النّكبة والنكسة، لم يكن للموقف العربي الرسمي سوى أن يتغيّر بقَبول بعض القرارات الدولية.
حينها، أرخت فكرة التطبيع مع إسرائيل على بعض الدول العربية، وظنت أنها بذلك تُحرّر الأراضي الفلسطينية المُحتلة.
أول الشروخ في جدار الموقف ذاك، أحدثه الرئيس المصري أنور السادات كما تابعنا في الجزء السابق. وتُشير تقارير عدّة إلى أن دولا أخرى فاوضت إسرائيل وطبّعت معها سرا.
تقول إسرائيل إن التطبيع السياسي والاقتصادي مع الدول العربية شرط أساس لـ”تحقيق السلام في الشرق الأوسط”.
… حتى أتى عام 1982، فمثّل ذروة تراجع الموقف حين أقر القادة العرب في فاس بمبادرة السلام.
هذه المبادرة طرحت فكرة الاعتراف بدولة إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي التي احتلتها عام 1967، مع إقامة الدولة الفلسطينية وعودة اللاجئين[1].
جاء بعد ذلك مؤتمر مدريد، عام 1991، ثم بعد سنتين اتفاق أوسلو الذي أفضى إلى قيام السلطة الوطنية الفلسطينية.
اقرأ أيضا: من فلسطين، عامر أبو شباب يكتب: المرأة الفلسطينية .. وجع مختلف ومعاناة متجددة
اليوم، توجد مجموعة دول عربية تعترف صراحة بإسرائيل: مصر، الأردن وموريتانيا[2]، وقد انضمت إليها الإمارات وبعدها البحرين قبل أيام.
الاعتراف بالدولة، سيادتها وسلطاتها، وتبادل السفارات وغيره؛ تطبيعٌ ذو صبغة سياسية، أجل. لكنه، بالنسبة لإسرائيل، كان مدخلا رئيسيا لتطبيع العلاقات في مجالات أخرى على نحو أشمل.
حجم الصادرات الإسرائيلية من السلع والخدمات إلى أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بلغ عام 2016 حوالي 7 مليارات دولار.
فالمعاهدات المُبرمة في هذا السياق، حرص فيها الجانب الإسرائيلي دوما على إلغاء كافة الحواجز ضد تحقيق علاقات اقتصادية طبيعية، وكذا إنهاء أي مقاطعة اقتصادية تجاهها.
… بل والتعاون لإنهاء أي مقاطعة اقتصادية ضد أحدهما من قبل أطراف ثالثة، كما تنص معاهدة وادي عربة مع الأردن.
والحال هذه، كما يُشير إلى ذلك بعض الباحثين، تبيّن أن الهدف من التطبيع لم يكن حل القضية الفلسطينية وحسب، إنما كان سعيا إلى تحقيق مصالح خاصة[3].
اقرأ أيضا: من مصر، محمد حميدة يكتب: عهد التميمي ونظرية المؤامرة
تقرير صدر عن معهد بريطاني عام 2018، قال إن حجم الصادرات الإسرائيلية من السلع والخدمات إلى أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، قد بلغ عام 2016 حوالي 7 مليارات دولار.
الرقم ذاته تكشفه بيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية.
يمضي التطبيع الأمني مع إسرائيل إلى التطور، إذ يشير متابعون إلى أن التنسيق في هذا المستوى خيار يهدف أيضا إلى مواجهة خطر مشترك يتمثل في إيران.
إسرائيل واضحة المسعى في ذلك. تقول إن التطبيع السياسي والاقتصادي مع الدول العربية شرط أساس لـ”تحقيق السلام في الشرق الأوسط”[4].
إلا أنه، عندما نتحدث عن معاهدات كهذه، وإقامة علاقات اقتصادية وتجارية، فإن الأمر بكل تأكيد لن يتوقف هناك ويتجاوزه إلى مدى أبعد… إلى التنسيق الأمني.
التطبيع الأمني كان على الدوام حلما يراود الجانب الإسرائيلي لـ”تحقيق السلام”… وثمة دولٌ وجدت أن هناك مصالح مشتركة بينهما، فلم تتحرج من اعتبار العدو حليفا.
اقرأ أيضا: ماذا تعرف عن الاستشراق؟ الوجه الآخر للغزو الغربي للشرق… 1\2
معاهدة وادي عربة، مثلا، نصت على أن الطرفين يتعهدان باتخاذ إجراءات ضرورية وفعالة لمنع أعمال الإرهاب والتخريب والعنف من أن تُشن من أراضيهما أو من خلالها…
تطبيعٌ بدا أوضح في خضم الانتفاضات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتوجس إسرائيل من امتداد غضب الشعوب إليها. كما أنه يمضي إلى التطور، إذ يشير متابعون إلى أن التنسيق الأمني خيار يهدف أيضا إلى مواجهة خطر مشترك يتمثل في إيران.
أنْ تُطلق على قطاع غزة بأنها فلسطين، يُعدّ تطبيعا وفق البعض. من نتائج التطبيع الثقافي أيضا، يقول هؤلاء، أن مصطلح “فلسطين المحتلة” لم يعد شائعا، كما أن اسم “دولة إسرائيل” يطلق بدلا من الكيان الصهيوني، الغاصب أو المحتل…
وسبق، مثلا، لمسؤولين عرب وإسرائيليين أن شاركوا في مؤتمر بعاصمة بولندا وارسو، عام 2019، لـ”تعزيز السلام والأمن في الشرق الأوسط”؛ وكان هدفه تشكيل تحالف دولي لمواجهة إيران[5].
غير أن كل مناحي التطبيع هذه، لا تبرح دائرة الرفض لدى فئة عريضة من شعوب منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
مستويات التطبيع السابقة تهم الأنظمة الحاكمة، لذا كانت الحاجة إلى مستوى آخر يشمل النخب والشعوب أيضا…
إسرائيل… أم الكيان الصهيوني؟
التطبيع الثقافي أخطر أوجه هذه المستويات جميعها[6].
فأنْ تُطلق على قطاع غزة بأنها فلسطين، يُعدّ تطبيعا وفق البعض. من نتائجه أيضا، يقول هؤلاء، أن مصطلح “فلسطين المحتلة” لم يعد شائعا، كما أن اسم “دولة إسرائيل” يطلق بدلا من الكيان الصهيوني، الغاصب أو المحتل[7]…
هذا النوع من التطبيع واضح الهدف: أن يعتاد الناس على إسرائيل وألا يعتبروها عدوة. أمّا أوجه تحقيقه، فمتعددة.
الاعتراف بالدولة، سيادتها وسلطاتها، وتبادل السفارات وغيره؛ تطبيعٌ ذو صبغة سياسية، أجل. لكنه، بالنسبة لإسرائيل، كان مدخلا رئيسيا لتطبيع العلاقات في مجالات أخرى على نحو أشمل.
تبادل الزيارات، زيارة المآثر التاريخية والسياحية، المشاركة المتبادلة في الأنشطة الاجتماعية والثقافية والعلمية والرياضية…
هناك من يذهب أبعد من ذلك، ويعتبر استضافة الإعلام العربي لشخصيات إسرائيلية قصد طرح رؤيتهم، تطبيعا يمكن هؤلاء من إقناع الناس بوجهات النظر الإسرائيلية.
اقرأ أيضا: الإبادة الثقافية: الفظاعة الناعمة للبشرية! 2/1
ليس في هذا ما تخفيه أطراف التطبيع. فمعاهدة كامب ديفيد، مثلا، تنص صراحة على أن التبادل الثقافي في كافة الميادين أمر مرغوب فيه.
… وهذه كانت، بإيجاز، بعض أهم مظاهر التطبيع على الأرض. نُذكّر أن السياق الذي نتحدث فيه، شاذٌ بالنسبة إلى الماهية الرئيسية للمفهوم كما أوضحنا ذلك في الجزء الأول.
في الجزء الثالث: التطبيع… إذعان، خنوع أم مصلحة؟
لقراءة الجزء الأول: التطبيع… عودةٌ إلى حالة طبيعية أم تطويع وقسر على الاعتياد؟ 3/1
لقراءة الجزء الثالث: التطبيع… إذعان، خنوع أم مصلحة؟ 3/3