دار الخنبوبي.. مركز أبحاث وسط بادية سوس. مؤسسة تعيد للبادية المغربية أدوراها العلمية - Marayana - مرايانا
×
×

دار الخنبوبي.. مركز أبحاث وسط بادية سوس. مؤسسة تعيد للبادية المغربية أدوراها العلمية

مؤسسة دار الخنبوبي في نظر القانون هي مركز بحثي يصدر مجلة اسمها أدليس، هكذا يقدم أحمد الخنبوبي المؤسسة المدارة من طرفه…
لكنها، من حيث النشاط الذي تقوم به شكلا ومضمونا، تختلف عن معظم مراكز الأبحاث الأخرى، علاوة على كونها باتت أقرب إلى جامعة تقليدية مفتوحة

تتوسط منطقة فلاة جنوب مدينة أكادير، وعلى مقربة من ضريح “سيدي وكاك” جد المرابطين، بمنطقة الخنابيب المجاورة لشاطئ أكلو. إنها “مؤسسة دار الخنبوبي”، التي أسسها الباحث أحمد الخنبوبي منذ العام 2009، وأراد لها أن تكتسي طابع المؤسسات العلمية والتعليمية القديمة.

في هذا السفر، نسبر أغوار تجربة مؤسسة دار الخنبوبي، أنشطتها المتنوعة والمميزة، وخلفياتها الثقافية والاجتماعية، حيث التمسك بالنموذج الثقافي المغربي، واستقبال التأثيرات العالمية بهدوء ووعي وثقة، ونفتح الباب من هناك على زوايا أكثر طرافة وإمتاعا في العلاقة مع التعليم التقليدي ومركزية البادية المغربية.

تجربة عصرية بروح الأجداد

بدأت مؤسسة دار الخنبوبي أولى نشاطاتها مع إطلاق العدد الأول من مجلة “أدليس”، تسمية أمازيغية هي المقابل لمفردة “الكتاب”. هكذا، أراد لها مؤسسها الباحث في العلوم السياسية ذو الاهتمام بالأنثروبولوجيا، أن تكون مجلة كرست صفحاتها منذ ما يربو عن العقد للفت الانتباه نحو كنوز ثقافة المجتمع المغربي.

المجلة سرعان ما أصبحت لها خزانتها، خزانة دار الخنبوبي. هناك، في مكان قصي تحيطه أسوار قصيرة، لا تعني أكثر من منحها الوقار والهيبة فقط، تنتصب على هيأة زاوية من زوايا ورباطات سوس، لكنها تفتح في الوقت نفسه أبوابها لتدارس كل القضايا المعاصرة، من الاقتصاد والسياسة والأنثروبولوجيا إلى التكنولوجيا والقانون.

في خزانة دار الخنبوبي، تحضر الممارسة العلمية بأبهى صورها، هي الصور التي لم تغب يوما عن مشهد نقل المعرفة ونشرها في زوايا ورباطات ومدارس سوس، هذا لسان حال الباحث أحمد الخنبوبي وهو يتحدث عن تجربته، فالأمر ليس مجرد نشاط أكاديمي. إنه ترجمة لاستمرارية دشنتها منذ قرون مدارس غير بعيدة عن دار الخنبوبي، مدرسة أكلو العتيقة المحاذية لشاطئ أكلو، وزاوية سيدي وكاك، وعشرات المدارس والزوايا المتناثرة بين سهول ونتوءات سوس.

اقرأ أيضا: فاطمة الفهرية… امرأة جمعت بين الزهد والغنى فكان الحاصل أقدم وأول جامعة في العالم! 2/1

بالنسبة للباحث أحمد الخنبوبي، تسمية المؤسسة التي يفضل الإشارة إليها في حديثه بـ”الزاوية”، آتية هي الأخرى من الرغبة في إحياء جد قبيلة “الخنابيب”، فالقبيلة احتضنت ومنذ الفترة السعدية ضريحا لـ”سيدي عبد الرحمان الخنبوبي”. ثمة إذن، بحسب الخنبوبي، الكثير من الدواعي لتكون “دار الخنبوبي” على حالها هذه، بناية بسيطة على نمط معمار الزوايا، يقصدها طلبة العلم، وتفتح خزانتها بكل كتبها ومخطوطاتها في وجه الجميع.

البادية المغربية مهد الحضارة والمدنية والعلم

لماذا نحتقر البادية والبداوة؟ سؤال يشغل كثيرا بال مؤسسة دار الخنبوبي ومديرها المؤسس. لهذا السبب، اختار أن يؤسس هذه الدار هنا في بادية أجداده. كان بالإمكان أن يكون لها وجود في إحدى الشقق بمدينة أكادير أو غيرها، وتأخذ شكل المؤسسات البحثية المنتشرة في المغرب. لكن الإصرار قائم على الانتصار للبادية التي عانت وتعاني من “نظرة تحقيرية”، يضيف الخنبوبي.

في مقدمته الشهيرة، يقول عبد الرحمان ابن خلدون إن “البدو هم أصل الحضر”. واقع لم يرتفع في كل مجتمعات الأرض يوما، بقدر ما تأسست كل مدنية العالم على البوادي وأنشطتها الزراعية.

لكن الاعتقاد ساد لفترة في كثير من المجتمعات التي غزاها الاستعمار بأن البداوة تضاد المدنية والتحضر، فيما لا تكاد تكون هناك بادية مغربية إلا وامتلكت قبائلها تنظيمات سياسية وعسكرية، واعتنى أهلها أيما اعتناء بأن تنتظم حياتهم وفق منطق قانوني مدني معين.

اقرأ أيضا: بالصور: الخزانة الوسائطية بخريبكة… أكثر من مجرد مكتبة!

المدن المغربية العتيقة في المغرب لم تقطع مع عمقها البدوي. معظمها وجهت أهم أبوابها نحو القبائل، وسمى المغاربة أبواب أسوارهم بأسماء القبائل. الاستعمار وذهنيته هما ما تسبب في نشر هذه الرؤية التحقيرية للبادية المغربية، يؤكد الباحث أحمد الخنبوبي. لقد ساد اعتقاد خاطئ بأن المدنية فقط هي ما جاء به الاستعمار، اعتقاد يقبع خلف كل نكات التهكم على البداوة وشخصية البدوي.

جامعات ومراكز أبحاث فلكلورية

مؤسسة دار الخنبوبي في نظر القانون هي مركز بحثي يصدر مجلة اسمها أدليس، هكذا يقدم أحمد الخنبوبي المؤسسة المدارة من طرفه. لكنها، من حيث النشاط الذي تقوم به شكلا ومضمونا، تختلف عن معظم مراكز الأبحاث الأخرى، علاوة على كونها باتت أقرب إلى جامعة تقليدية مفتوحة، فالمؤسسة لا تريد أن تكون أنشطتها ذات طبيعة “فلكلورية” المهم فيها هو بهرجة المكان وأضوائه وزي حاضريه ومكبراته الصوتية وموائد الأكل والحلويات!!!.

فقط جلسات دائرية على كل حلقات العلم التقليدية، وأضواء خافتة منبعثة من بضع شمعات، وثلة من الباحثين والمهتمين يجتمعون بين الفينة والأخرى لتدارس ومناقشة قضية من قضايا العلم والمجتمع والثقافة والتاريخ والأدب… منتدى بات ذا صيت عالمي بسبب المواظبة عليه، وبفضل انتشار ساعدت في تحقيقه وسائط الاتصال المعاصرة.

الشكل الذي تتبناه مؤسسة دار الخنبوبي هو نفسه شكل الجامعات ومراكز العلم والمعرفة في التراث الثقافي للمغرب، فالشكل الذي يتمثل في المدرجات والكراسي وقاعات المحاضرات ليس تعبيرا عن المدنية والتحضر، بقدر ما هو دلالة على النمط التقليدي الأوروبي المسيحي أيضا، حيث عملت الجامعات ومراكز العلم في أوروبا من أجل الحفاظ على شكل تلك المؤسسات كما أرسته الكنائس. “نحن تنصلنا من تراثنا وبتنا نحتقره دون أن ندرك مزاياه وأهميته”، يؤكد الخنبوبي.

بالنسبة لأحمد الخنبوبي، تجربة المدرسة التقليدية المغربية يمكنها أن تخرج المدرسة المغربية المعاصرة من أزمتها الحالية. التعليم بات هجينا، وبدل “عصرنة” التعليم التقليدي، الأفضل أن يتم تطوير تعليمنا في إطار روح التجربة التقليدية.

“لماذا لم تنشأ الجامعات مثلا في القبائل؟ ولماذا لم تكن جامعة ابن يوسف في مراكش هي نفسها جامعة المدينة بدل تأسيس جامعة القاضي عياض قبل عقود؟” يتسائل الخنبوبي، منبها إلى أن الملك الراحل الحسن الثاني قد استلهم نموذج الدرس العلمي المغربي في الدروس الحسنية، وهو أهم تقليد علمي ما يزال الملك محمد السادس حريصا على إقامته إلى يومنا هذا في شهر رمضان من كل سنة.

الرباطات والزوايا… جامعات قديمة

البادية المغربية بإمكانها استيعاب الحداثة، ورباطاتها وزواياها جامعات قديمة أضاعتها خيارات ما بعد الاستعمار. لقد انتشرت هذه المؤسسات في البوادي المغربية عبر قرون، وحتى قبل مجيء الإسلام، فيها تدوولت مواضيع العلم والمعرفة من الفيزياء والهندسة إلى الفلسفة والدين والأدب واللغة. “ما تقوم به مؤسسة دار الخنبوبي هو مجرد محاكاة لهذه التجربة الثقافية التاريخية”، يؤكد الخنبوبي.

في كتابه عن “المثقف والسلطة”، يشيد ديل إف إيكلمان بالحس النقدي والتكوين المعرفي المتين للعلامة عبد الرحمان المنصوري والمختار السوسي. مدرسة يتخرج منها أمثال هؤلاء الأعلام لا تقل أهمية عن مثيلاتها في أوروبا.

المغاربة كان ينبغي عليهم أن يطوروا هذا النموذج بحسب إيكلمان. لكن هذا لم يحدث. أغلب الظن يتجه إلى أن كون البعض اعتبر أن هذه المدرسة لا يمكنها أن تنتج سوى حفاظا للقرآن ومتون الفقه والحديث.

المختار السوسي واحد من أهم أعلام المعرفة والعلم في مغرب القرن العشرين، ابن بادية سوس، وأول من أسس تجربة الأنثروبولوجيا الوطنية. زار الرجل كل قرى ووديان وجبال سوس، ودوّن في “المعسول”، كتابه الأشهر، معظم ما نعرفه اليوم عن الأنساب والقبائل والعادات والثقافات. إنها ممارسة بحثية علمية لم يبنها سوى أحد أبناء البادية المغربية، وباتت مؤسسات العلم والمعرفة في حاجة إلى استيعابها من بوابة إعادة الاعتبار للبادية المغربية.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *