علم نفس الجماهير: هل كان غوستاف لوبون يتهجم على الجماهير أم يدرسها وحسب؟ 3/2وصفها بالبرابرة والقطيع والجراثيم... واعتبر أن نهاية الحضارة في الغرب ستكون على يديها
يعتقد غوستاف لوبون بأن نهاية الحضارة في الغرب، ستكون على يد هذه الكثرة اللاواعية والعنيفة التي وصفها بـ”البرابرة”؛ فالجماهير، بواسطة قوتها التدميرية، تمارس دور الجراثيم التي تساعد على انحلال الأجسام الضعيفة أو الجثث، على حد تعبيره.
نشير في البداية، كما أوضحنا في الجزء الأول، إلى أن فرويد رد على لوبون، بعد أزيد من ثلاثين سنة، وكان التحليل النفسي وقتها قد نضج كعلم. لذلك، جاء الرد في جملته تعليقا ونقدا وتطويرا…
لم يخش غوستاف لوبون شيئا بشأن الكشف عن توجسه من “عصر الجماهير”، الذي كان أول من صاغه كمفهوم يعني به بروز الطبقات الشعبية في الحياة السياسية وتحولها التدريجي إلى طبقات قائدة.
كان لوبون منتميا إلى التراث الليبرالي والبورجوازي. من ثم، فقد كان ضد الثورة والفكرة الاشتراكية الصاعدة آنذاك؛ وهذا من بين الأسباب التي دعت إلى إهمال اسمه من قبل علماء الاجتماع المعاصرين، بخاصة في فرنسا.
الواقع، كما سنرى في هذا الجزء، أن لوبون في كتابه “علم نفس الجماهير”، لم يكن يتوانى عن وصف الجماهير بعبارات مثل القطيع، البرابرة، الجراثيم…
لوبون يؤكد أنه، بحكم العدد وحده، يكتسب الفرد في الجمهور شعورا بقوة لا تقهر، يتيح له الاستسلام لغرائز، ما كان إلا ليكبحها لو لبث وحيدا.
الجماهير، في نظره، تميل إلى تدمير المجتمع وقلبه رأسا على عقب، حتى تعود به إلى تلك الحالة الشيوعية البدائية، التي كانت تمثل الحالة الطبيعية للجماعات البشرية قبل فجر الحضارة.
كان متوجسا من قوة الجماهير، حد أنه قال: “الحقوق الإلهية للجماهير أخذت تحل محل القانون الإلهي للملوك”!
يذهب إلى حد الاعتقاد بأن نهاية الحضارة في الغرب، ستكون على يد هذه الكثرة اللاواعية والعنيفة التي وصفها بـ”البرابرة”؛ فالجماهير، بواسطة قوتها التدميرية، تمارس دور الجراثيم التي تساعد على انحلال الأجسام الضعيفة أو الجثث، على حد تعبيره.
اقرأ أيضا: “الأصولية” في الديانات الثلاث: مدخل (الجزء الأول)
إجمالا، اعتمد لوبون على فكرة العرق… ورأى أن ما يرثه أفراد كل شعب من محيطهم، يشكل روح هذا الشعب… وطالما أن أصل هذه الخصائص يعود إلى الأسلاف، فهي ثابتة جدا.
غير أنه، إذا حدث أن تجمهر مؤقتا عدد كبير من الأفراد بتأثير عوامل عدة، فإن خصائص جديدة تنضاف إليهم… قد تختلف أحيانا إلى حد كبير عن خصائص العرق الذي ينتسبون إليه.
لوبون يؤكد أنه، بحكم العدد وحده، يكتسب الفرد في الجمهور شعورا بقوة لا تقهر، يتيح له الاستسلام لغرائز، ما كان إلا ليكبحها لو لبث وحيدا.
اللاشعور عند لوبون ينطلق من أعمق صفات روح العرق، وهي صفات، يرى فرويد أنها لا تنطوي على أية أهمية بالنسبة للتحليل النفسي.
سيغموند فرويد في كتابه “علم نفس الجماهير وتحليل الأنا”، لا يتفق مع هذا الطرح، ويكتفي بداية بالقول إن الفرد في الجمع، يجد نفسه في شروط تتيح له أن يفك أسر ميوله اللاشعورية المقموعة.
ما يظهر كجديد من صفات في الفرد حين يكون ضمن جمهور، يقول فرويد، ليس سوى تمظهرا للاشعور الذي تختزن فيه بذور كل ما هو شرير في النفس البشرية.
أما أن حس المسؤولية يتلاشى في ظرف كهذا، بحسب لوبون، ففرويد يرد عليه بأن “الحصر الاجتماعي”، هو الذي يؤلف نواة ما يسمى بالضمير الأخلاقي.
اقرأ أيضا: هل ستنهار الأخلاق من دون الإيمان والدين؟ 2/1
كما تابعنا في الجزء الأول، فاللاشعور عند لوبون ينطلق من أعمق صفات روح العرق، وهي صفات، يرى فرويد أنها لا تنطوي على أية أهمية بالنسبة للتحليل النفسي.
صحيح بأن نواة الأنا لاشعورية، يقول فرويد، لكن لوبون يصادر وجود مكبوت لاشعوري، وهذا التصور عن “المكبوت” هو المفتقد لديه بحسب فرويد.
ثم إن كل إحساس، كل فعل لدى الجمهور بالنسبة للوبون، مُعدٍ، بل هو معد إلى حد يُضحّي معه الفرد، بسهولة كبيرة، بمصلحته الشخصية لفائدة المصلحة الجماعية.
يصف لوبون الجمهور بكونه قطيعا طيعا، لا يستطيع حياة بلا سيد؛ ظمؤه إلى الطاعة شديد، حتى إنه ليخضع غريزيا لمن ينصب نفسه زعيما عليه.
لوبون يتحدث أيضا عن قابلية الفرد للتأثر بالإيحاء في جمهور، وهي قابلية لا تعدو العدوى أعلاه أن تكون نتيجة لها، يقول فرويد. لوبون يقصد هنا حالة خاصة تنتاب الفرد في الجمع، قريبة من حالة افتتان المنوم بين يدي منومه.
إجمالا، يخلص لوبون إلى أن تلاشي الشخصية الواعية، وغلبة الشخصية اللاواعية، وتوجه المشاعر والأفكار بطريق الإيحاء والعدوى في وجهة واحدة، والميل إلى تحويل الأفكار الموحى بها للحال إلى أفعال، هي السمات الرئيسة للفرد وسط الجمهور؛ إنه لا يعود هو ذاته، بل محض إنسان آلي تعجز إرادته عن تسييره.
اقرأ أيضا: علم النفس الشعبي… “مرتع الخرافات” 1\3
هكذا، بمجرد انخراطه في جمهور، يهبط الإنسان عدة درجات على سلم الحضارة، حسبما يراه لوبون؛ فلعله كان، وهو منعزل، فردا مثقفا؛ أما في وسط الجمهور فهو غريزي، وبالتالي همجي.
كل هذا لأن الجمهور سريع التأثر، سريع التصديق، يعوزه الحس النقدي، ولا وجود في نظره للمستبعد الحدوث.
فضلا عن ذلك، الجمهور عظيم التأثر بالقوة السحرية للكلمات، القادرة تارة على إثارة أعنف العواصف في النفس الجماعية، وطورا على تهدئتها وتسكينها.
لكن ما يقوله لوبون عن محرضي الجماهير، يعتبره فرويد أقل إقناعا، ولا يكشف عن القوانين التي تحكم هذه الظاهرة.
اقرأ أيضا: التكفير والتطرف… من ابن تيمية إلى محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب. أصل المأساة!
لوبون يرى أنه كلما اجتمع عدد متفاوت الكبر من الكائنات الحية، سواء أكانوا قطيعا من الحيوان أم جمعا بشريا، بادروا من فورهم وبصورة غريزية إلى وضع أنفسهم تحت سلطة قائد.
بل… ويذهب إلى وصف الجمهور بكونه قطيعا طيعا، لا يستطيع حياة بلا سيد؛ ظمؤه إلى الطاعة شديد، حتى إنه ليخضع غريزيا لمن ينصب نفسه زعيما عليه.
كان لوبون متوجسا من قوة الجماهير، حد أنه قال: “الحقوق الإلهية للجماهير أخذت تحل محل القانون الإلهي للملوك”!
على أن هذا الزعيم ينبغي أن يتمتع ببعض الكفاءات الشخصية، من بينها ما يعزوه إليها من قوة غامضة لا تقاوم يطلق عليها اسم “الهيبة”.
والهيبة هذه ضرب من السحر، يمارسه على الفكر، فرد أو عمل أو مذهب، على نحو يشل الملكات النقدية ويملأ النفس بالاندهاش والاحترام، وهي، على الأرجح، من ذات طبيعة الإيحاء الذي يقع تحت سلطانه فرد منوم.
يساعد القائدَ على ذلك، أن الجماهير لا تظمأ البتة إلى الحقيقة، يقول لوبون، فهي تطلب الأوهام فقط ولا تستطيع العزوف عنها، إذ إنها دائما ما تقدم اللاواقعي على الواقعي.
هنا أيضا يلاحظ فرويد أن تصور لوبون لدور القادة وطبيعة الهيبة، لا يتفق تمام الاتفاق مع تصويره “الباهر” للنفس الجماعية.
في الجزء الثالث… هل الليبيدو هو ما يجمع بين الجماهير ويربط بين أفرادها؟
لقراءة الجزء الأول: علم نفس الجماهير… بين دراسة لوبون ودراسة فرويد 3/1
لقراءة الجزء الثالث: علم نفس الجماهير: هل الليبيدو هو ما يجمع الجماهير ويربط بين أفرادها؟ 3/3