كوثر بوبكار تكتب: التكنولوجيات الحديثة: زمن “أهل الكهف”… عن الضحالة والاستسهال 2/2 - Marayana - مرايانا
×
×

كوثر بوبكار تكتب: التكنولوجيات الحديثة: زمن “أهل الكهف”… عن الضحالة والاستسهال 2/2

مسؤولیتنا جمیعًا أن نحارب ثقافة استسهال الأشیاء…
فالعلم یأتي بالجهد والمثابرة ونكران الذات، والأهم من هذا كله، بالتواضع اللازم للاعتراف بنقص المعرفة وطلبها؛ والتوقف عن الظن أن العلوم الإنسانیة أو الصحافة في متناول الجمیع بعد قراءة مقال أو اثنین أو مشاهدة فیدیو أو اثنین…
فالآراء كالأفواه، كل منا یملك واحدًا، لكن التمییز بین ما له قیمة إضافیة منها، وما لیس له، یمر عبر إخضاعها للصرامة العلمیة.

في الجزء الأول من هذا الملف، تابعنا مع كوثر بوبكار، واحدة من أبرز الباحثين في ميدان النانوتيكنولوجيا في العالم، حكاية التكنولوجيات الحديثة، في علاقتها بحالة التفاهة والرداءة التي أصبحت عنوان ألم، صار مرادف مختلف أبجديات مشهدنا الجريح… من السياسة إلى الثقافة، ومن المسرح إلى الصحافة.

في هذا الجزء الثاني، نتابع مع الباحثة المغربية، بعضا من ملامح العلاج الممكن، لرتق كثير من جروح التفاهة التي صارت تحاصرنا.

كوثر بوبكار: مهندسة دولة في الاتصالات، من أبرز الباحثين في التطوير في مجال النانوتكنولوحيا

… قد یقول البعض إن هذا النوع من الكتابات یخص المجال الأكادیمي، لكن یجوز السؤال…

كیف یمكن أن یوصل المثقف النخبوي أفكاره عبر وسائل التواصل الاجتماعي، موضحا أن الدیالكتیك للوصول إلیها هو بنفس بأهمیتها؟

إن اعتبار تقدیم الفكرة جاهزة لوحدها، هو الأجدر بالنشر دون براهین علیها، أدى إلى خلق نوع من الكسل والاتكالیة الفكریة للمتلقي من جهة، وفَتَح بابا خطیرا نحو انزلاقات قد یستعملها المتلاعبون بالعقول، لتسویق أفكارهم دون رقیب. ذلك أن البرهان بنفس أهمیة الفكرة، إن لم یكن أكثر أهمية، والواقع یقول إن المنشورات الطویلة لا تلقى اهتمامًا للأسف.

كانت هذه، بعض من مظاهر أسباب القطیعة بین النخب وباقي الشرائح المجتمعیة، والتي تضم أیضا، الأزمة الاقتصادية، وفشل أغلب المشاريع المجتمعية، والانفتاح غير المؤطر على العالم؛ لكن…

هل یعني هذا أن هذه الهوة لا سبیل لردمها؟

لا أظن، إذ أنه یمكن العمل على تجاوزها، أو على الأقل تقلیصها، وذلك من خلال الآتي:

– الإدراك العام بأنها مسؤولیتنا جمیعًا… أن نحارب ثقافة استسهال الأشیاء، فالعلم یأتي بالجهد والمثابرة ونكران الذات، والأهم من هذا كله، بالتواضع اللازم للاعتراف بنقص المعرفة وطلبها؛ والتوقف عن الظن أن العلوم الإنسانیة أو الصحافة في متناول الجمیع بعد قراءة مقال أو اثنین أو مشاهدة فیدیو أو اثنین، فالآراء كالأفواه، كل منا یملك واحدًا، لكن التمییز بین ما له قیمة إضافیة منها، وما لیس له، یمر عبر إخضاعها للصرامة العلمیة.

اعتبار تقدیم الفكرة جاهزة لوحدها، هو الأجدر بالنشر دون براهین علیها، أدى إلى خلق نوع من الكسل والاتكالیة الفكریة للمتلقي من جهة، وفَتَح بابا خطیرا نحو انزلاقات قد یستعملها المتلاعبون بالعقول، لتسویق أفكارهم دون رقیب. ذلك أن البرهان بنفس أهمیة الفكرة، إن لم یكن أكثر أهمية

–  التحلي بالتواضع اللازم… لتقبل أن هناك من وهب وقتا و جهدًا حقیقیا لإنتاج محتوى، وأن نحترم هذا، والإیمان بأن الجودة ترتبط بالجهد والمثابرة غالبا، عدا حالات خارقة نادرة.

–  الوعي بأن نشر المحتویات مسؤولیة، قبل أن یكون حریة.

–  الوعي بما حدث لدى البعض من انزیاح عن الرغبة في التوعیة إلى السقوط في خلق أصنام بشریة جدیدة، ترسخ للجهل المركب، وتتاجر في أتباعها، في تغييب تام لعقولهم.

–  الوعي بضرورة التفكیر النقدي، وتحملنا مسؤولیتنا في التفكیر الجید و التدبر في ما نستهلكه من محتوى ثقافي و فكري.

… سأختم هنا مقالي، بدعوة للتأمل في القصة التالیة:

یحكى أنه كان هناك، في زمن بعید، بلاد تدعى الكهف، لها طباخ واحد یطهو الأكل للجمیع.

كان أهل البلاد یستعملون تطبیق التواصل الذكي المسمى”إشراق”، والمصمم في كوكب بعید، في التواصل بینهم، ونشر أخبارهم، وإبداء رأي كل منهم في وحبة الیوم.

كان الطباخ یغیر الوجبات بانتظام، إلى أن قرر یوما ما، أن یتبنى طبقا واحدا.

اقرأ أيضا: كوثر بوبكارمن أبرز الباحثين في ميدان النانوتيكنولوجيا في العالم لمرايانا : المغرب لا يخلو من الكفاءات، ولكنها محبطة لبطء وثيرة التغيير

غضب أهل الكهف على الوضع، وعبروا عن امتعاضهم عبر “إشراق”، الذي سهل التواصل بین كل الغاضبین؛ فكونوا مجموعة ملیونیة علیه، وطالبوا بتغییر الطباخ.

شعر الطباخ لأول مرة بالخطر یهدد منصبه، فدعا أهل الكهف لاجتماع افتراضي، عبر صفحة أحدثها على “إشراق”، وسماها “الكلمة للجميع”، لطرح اقتراحاتهم.

فرح أهل الكهف واغتبطوا لدعوة الطباخ، وبدؤوا یترددون كل مساء على الصفحة، بكثیر من البهجة و الآمال في بداية الأمر. لكن… مع مرور الوقت، انقلبت الاقتراحات إلى جدال حاد بین من یرید وجبات سمك ومن یرید وجبات لحم و من یرید أكلا نباتیا.

توالت الأيام، ولم یخلص أهل الكهف إلى أي قرار حول وجبات الموسم القادم، فاقترح الطباخ عقد تصویت عبر صفحة “الكلمة للجمیع” على تطبیق “إشراق”، في غضون شهر، للحسم في المسألة.

واصل الطباخ تحضیره لوجبته الوحيدة، في انتظار نتائج التصویت، بینما انفصل أهل الكهف، وكون أصحاب كل اختیار مجموعة على تطبیق “إشراق”، لتدارس كیف یمكن التسویق لوجباتهم المفضلة كي یصوت علیها أغلب سكان الكهف.

كان “غافل”، أحد سكان الكهف الذین لا یكترثون كثیرا لأمور الطبخ، حائرا لمن یعطي صوته، فهو یحب الوجبات الثلاث.

… حدث أن تزامن مروره صدفة على صفحة الكلمة للجمیع، مع بث مباشر لزعماء مجموعة السمك، فنقر إعجاًبا علیها، وإذا بصفحة الكلمة للجمیع، عبر خوارزمیتها الذكیة، تحجب عنه باقي المنشورات حول الأطباق الأخرى منذ ذلك الحین.

“ثعلب” تاجر خضار كبیر في البلاد المجاورة، وصله خبر ما یقع في الكهف عبر إشراق، فطلب من كل مستخدمیه أن یغرقوا صفحة الكلمة للجمیع یومیا، بمعلومات كاذبة تفید أن للطباخ مصالحا مع تجار اللحم و السمك، و أنه سیفرضهما كوجبتین وحیدتین في المستقبل القریب، مقابل رشاوي خیالیة.

صادف “غافل” إحدى هذه المنشورات فاستنكر الأمر، وأرعد وأزبد على الصفحة، لیتحول في لحظات، من محاید في الاختیار، إلى مناضل عنیف من أجل الأكل النباتي.

اشتدت حدة الجدال بین المجموعات الثلاث، وأصبح العنف اللفظي بین كل الأطراف عادیا.

مطلوب منا…

الوعي بما حدث لدى البعض من انزیاح عن الرغبة في التوعیة إلى السقوط في خلق أصنام بشریة جدیدة، ترسخ للجهل المركب، وتتاجر في أتباعها، في تغييب تام لعقولهم والوعي بضرورة التفكیر النقدي، وتحملنا مسؤولیتنا في التفكیر الجید و التدبر في ما نستهلكه من محتوى ثقافي و فكري.

قرر الطباخ تأجیل التصویت شهرا، إلى أن تهدأ النفوس. ولإبعاد الشكوك الكاذبة حول ارتباطه الإجرامي بتجار اللحم والسمك، قرر تبني وحبات نباتیة وعقد صفقة مع “ثعلب” لیزوده بالخصار، في انتظار إجراء الاقتراع.

في یوم التصویت، صادف “غافل” مناضلا متطرفا من مجموعة السمك في الساحة العمومیة، تبادل الرجلان نظرات احتقار، تلتها كلمات قدحیة، كانت كافیة أن تستفز كلیهما؛ لیدخلا في مبارزة جسدیة.

انتهى التصویت، وتفاجأ الجمیع، في الوقت الذي كانوا متلهفین فیه لمعرفة النتیجة، بـ “إشراق” یرسل لكل منهم إشهارا شخصیا یقترح علیه إیصال وجبته المفضلة في دقائق، كما لو أن التطبیق، استقرأ ما یدور في دواخلهم لحظتها، وعرف ما یلزم كل منهم على حدة…

استحسن أهل الكهف الأمر، ومرر كل منهم طلبه، رغم أن ثمن الوجبة كان مرتفعا… توالت الأيام، وصفحة “الكلمة للجميع” لم تعلن بعد على النتائج، لضرورة تأكدها من كل الخروقات الممكنة، ما یستلزم وقتا أطول.

اقرأ أيضا: كوثر بوبكار، من أبرز الباحثين في ميدان النانوتيكنولوجيا في العالم لمرايانا: ساهمت في تصميم رقاقة استعملت في الرحلة الفضائية التي أطلقها مركز الفضاء الأوروبي نحو كوكب المشتري

واصل أهل الكهف إرسال طلبات وجباتهم الیومیة عبر إشراق، وبعد أسابیع من التصویت، نسي الجمیع أمره، حتى الطباخ لم یعد یتحدث عن الطبخ، واستفرد إشراق بإیصال الوجبات للجمیع، كل حسب ذوقه.

سمع أهل الدول المجاورة بهذه التجربة الناجحة، فكرروها، إلى أن استغنى كل من في جوار الكهف عن الطبخ.

بعد بضعة سنین… مات الطباخون حسرة على ماض شهد تألقهم، ونسى الجمیع قواعد الطبخ.

… وفي صباح یوم غائم، تلقى الجمیع رسالة من “إشراق”، تخبرهم أنه ابتداءا من الیوم، ستوزع وجبة واحدة في الیوم، هي عبارة عن حبوب مغدیة لا یمكن تغییرها أبدا…

لقراءة الجزء الأول: كوثر بوبكار تكتب: التكنولوجيات الحديثة: بين تحرير النشر وانتشار الهراء 1/2

تعليقات

  1. نجيب أقياب

    شكرا لصفحة marayana.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *