السيدة الحرة… حاكمة تطوان وأميرة الجهاد البحري!
الوضع السياسي آنذاك في غرب البحر الأبيض المتوسط كان يفرض “الجهاد البحري”، وقد استطاعت السيدة الحرة بدعم من زوجها، فرض رقمها في معادلة القرصنة في ذلك الزمن… بيد أنه بالرغم من نجاحها في ذلك، كان الوضع الداخلي يعجل بنهاية غير متوقعة.
في زمن كان فيه حكم المرأة لدى المسلمين غير مألوف، اعتقادا منهم أن الدين لا يستحب ذلك، ظهرت امرأة تسللت بفضل دهائها وحنكتها إلى القلوب وغمار السياسة. فلما رأى الناس في تطوان وشفشاون سديد حكمها، رأوا أن تظل حاكمة عليهم؛ فأدت واجبها على نحو منقطع النظير مع أن الوضع الداخلي وكذا الخارجي، كان مستعرا؛ وظلت الحاكمة لما يربو عن 30 سنة، حتى جاءت النهاية غير المتوقعة…
في هذا البورتريه، بعض من سيرة امرأة اسمها، السيدة الحرة، حاكمة تطوان، وأميرة الجهاد البحري!
مع أن المصادر التاريخية التي تؤرخ لحكم ولسيرة السيدة الحرة ضئيلة، حتى إن البعض اعتبر ذلك إجحافا في حق امرأة كان لها شأن عظيم، إلا أن بعضها يؤكد أنها ولدت في القرن الخامس عشر للميلاد، تحديدا عام 1485.
اقرأ أيضا: خُنَاثة بنت بكار.. من هدية للسلطان إلى أم للسلاطين!
يحكى أن اسمها الحقيقي عائشة، وهذا مما جاء في بعض المرويات الأجنبية التي أخذت عنها المصادر العربية لاحقا، وأن أمها كانت من الأندلس، مسيحية ثم دخلت الإسلام فصارت تدعى لالة زهرة، ليتزوجها مولاي علي بن راشد، فولدت له ابنا اسمه مولاي ابراهيم أصبح فيما بعد حاكما لشفشاون، وابنة اسمها عائشة أصبحت فيما بعد تلقب بالسيدة بالحرة، وحكمت تطوان فترة من الزمن.
حين يغيب المنظري، حاكم تطوان، إذ يخرج إلى حروبه مع الإفرنج، كانت زوجته تنوب عنه، رأيا وإشارة، لما رأى فيها الناس من بعد نظر ورأي سديد وتدبير حسن.
وتأكيدا لوجود السيدة الحرة، فقد جاء في كتاب “دوحة الناشر” لابن عسكر، تعريف بأحد الجواسيس، تمت الإشارة فيه إلى السيدة الحرة: “… وجدوا هذا الرجل على ساحل البحر بمقربة سبتة، فظنوا أنه من الجواسيس الذين يترددون من بلاد الكفر، فسألوه عن أمره فتكلم بكلام لا يفهمونه فقبضوا عليه، وأتوا به إلى تطوان في ولاية الحرة بنت علي بن راشد”.
كانت بين بني راشد الذين حكموا شفشاون وقبائلها المجاورة، وآل المنظري وأندلسيي تطوان الذين نزحوا من غرناطة، علاقة متينة، أدت إلى التعاون بينهما، بل وإلى المصاهرة بينهما.
اقرأ أيضا: زينب النفزاوية: زوجة ابن تاشفين ومهندسة توسع دولة المرابطين! 2/1
المنظري كان حاكما لتطوان، وأصبحت السيدة الحرة زوجة له عن عمر الـ16، رغبة في توحيد جبهة القتال بين تطوان وشفشاون ضد البرتغاليين، وكان حين يغيب إذ يخرج إلى حروبه مع الإفرنج، تنوب عنه زوجته، رأيا وإشارة، لما رأى فيها الناس من بعد نظر ورأي سديد وتدبير حسن.
ثم حين مرض وتوفي المنظري حاكم تطوان، ظلت زوجته السيدة الحرة على سدة الحكم، قابضة عليه، فقد كانت متنفذة ولها جاه عظيم، ناهيك عما وجده الناس فيها من حزم ودهاء وحسن سياسة، مع أن ولاية المرأة كانت حينذاك، وإلى اليوم لدى عموم المتطرفين، أمرا غير مستحب لدى المسلمين.
تؤكد المصادر أن السيدة الحرة كانت تروع البحار، فقد كانت تمارس القرصنة/المقاومة في غرب البحر الأبيض المتوسط، واستطاعت أن تبني علاقة متينة مع القرصان التركي بارباروسا في شرق المتوسط.
المراجع التاريخية تذكر أن السيدة الحرة -ولقبها هذا جاء لكونها امرأة نبيلة ومتميزة- تزوجت بعد وفاة زوجها بالسلطان أحمد الوطاسي، حاكم فاس، لتصبح حينذاك أكثر تنفذا، إذ لم يقتصر حكمها بعدها على ما داخل أسوار المدينة، إنما طالها إلى الخارج، حيث أصبحت تعرف بأميرة الجهاد البحري.
ذات المصادر أكدت على أنها كانت تروع البحار، فقد كانت تمارس القرصنة/المقاومة في غرب البحر الأبيض المتوسط، واستطاعت أن تبني علاقة متينة مع القرصان التركي بارباروسا في شرق المتوسط، فكان ذلك فاتحة لعداوة الإسبان والبرتغاليين أساسا، والذين احتلوا سبتة آنذاك.
اقرأ أيضا: سحابة الرحمانية… مؤسِّسة ازدهار الدولة السعدية!
لم يكن ذلك ترفا، فالوضع السياسي آنذاك في غرب البحر الأبيض المتوسط كان يفرض “الجهاد البحري”. استطاعت السيدة الحرة، بدعم من زوجها، فرض رقمها في معادلة القرصنة في ذلك الزمن. بيد أنه، بالرغم من نجاحها في ذلك، كان الوضع الداخلي يعجل بنهاية غير متوقعة.
كانت نهاية حكم السيدة الحرة، الذي دام من 1510 إلى 1542؛ أي 32 عاما، غير متوقعة ومفاجئة، بحيث استرجع آل المنظري حكمهم على تطوان ونواحيها.
جاء في كتاب “مرآة المحاسن” لصاحبه العلامة سيدي العربي الفاسي: “ولما كان خروجه (أي السلطان الوطاسي) الذي وصل فيه إلى تطوان وتزوج بها الحرة بنت الأمير السيد أبي الحسن علي بن موسى بن راشد الشريف[…]، قال الشيخ قاضي الجماعة أبو محمد عبد الواحد بن أحمد الونشريسي رحمه الله فيما قرأته بخطه “وتزوج السلطان الحرة في ربيع الأول عام 948هـ (1541م) وبنى بها ببلد تطاون”.
زواج السيدة الحرة من السلطان الوطاسي، غاض كثيرا آل المنظري، عائلة زوجها الأول، إذ رأوا أنه لا يصدق أن تتولى حكم تطوان وهم بعد في الوجود. هكذا، دبروا مؤامرة للانقلاب عليها، بقيادة حفيد المنظري حاكم تطوان فيما قبل، بجانب والده محمد الحسن، الذي جاء من فاس إلى تطوان.
اقرأ أيضا: الزهراء الكوش… حمامة مراكش!
بعض المصادر الأجنبية ذكرت أن محمد الحسن المنظري فر من فاس، من السلطان أحمد الوطاسي، عام 1542، بسبب بعض الخلافات العميقة، وشد الرحال إلى تطوان حيث كانت الحاكمة هي السيدة الحرة، فبلغها في جماعة من الفرسان، ثم بعد يومين من وصولها، نصب نفسه حاكما على المدينة، طاردا السيدة الحرة، مستوليا على ممتلكاتها.
دفنت السيدة الحرة في شفشاون، وظل قبرها إلى اليوم، مزارا لعدد كبير ممن يتيمنون بسيرة حياتها، كامرأة رمز للتفاني والحكم السديد.
لكن، أين زوجها، حاكم فاس، من هذا الذي حدث؟ في الواقع هذا سؤال يفرض نفسه بقوة، وقد حاولت بعض الكتب التاريخية أن تجد له جوابا، فمنها ما أورد أن السلطان كان قد طلق السيدة الحرة مع أنه لم يثبت ذلك، ومنهم من قال إن زواجه منها في الأصل كان سياسيا، ذلك أنه كان يود توطيد علاقته بالشمال، بعدما بدأ السعديون يحاولون بلوغ الحكم، وقد كان مشغولا بصراعهم فيما بعد، فاستغل المنظري ذلك.
هكذا كانت نهاية حكم السيدة الحرة، الذي دام من 1510 إلى 1542؛ أي 32 عاما، غير متوقعة ومفاجئة، بحيث استرجع آل المنظري حكمهم على تطوان ونواحيها، وأصبح محمد الحسن المنظري رابع رجالات العائلة الذين تبوؤوا الحكم على المدينة.
السيدة الحرة، كما يروى، عادت إلى بيت عائلتها في مدينة شفشاون، واستسلمت للأمر الواقع، وظلت منعزلة، حتى وافتها المنية في ذات العام؛ أي 1542، فدفنت هناك ليظل قبرها إلى اليوم، مزارا لعدد كبير ممن يتيمنون بسيرة حياتها، كامرأة رمز للتفاني والحكم السديد.