من مونتريال. كندا. عمر لبشيريت يكتب: المهنة… ملاك الموت
شاهدت الموت في عدة عيون…
رافقت عيون حسن وسليم وجولييت وجاك وستيڤان وپول و…
ورغم “قواعد المهنة” التي تحاول أن تحمينا… لم أنسهم. أكتب عنهم، اليوم، لـ “أدفنهم”، لأعزيهم، لـ “أنساهم”…
رحلتهم في هذه الحياة توقفت، هذا كل ما في الأمر.. الموت ليس عقابا ولا قدرا مأساويا. لذلك “من يخف الموت، يخسر الحياة”…
وأنا أتهيأ للذهاب إلى موعدي الأسبوعي معه، ذلك الصباح الربيعي، وصلتني رسالة عبر الواتساب من هاتف حسن، تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، توفي حسن صباح اليوم… أنا زوجته.
أخبرت الإدارة، وأعدت جدولة مواعيدي لذلك اليوم. ترددت كثيرا بين أن أذهب لتقديم العزاء أو أكتفي بتعزية عبر الهاتف. قررت الانضباط لقواعد المهنة: لا علاقات، لا صداقات، لا خدمات مع المرضى. اسم وانتهت صلاحية مرافقته، احتفظ بمشاعرك واتركها خلف الباب بعد أن تغادر المريض. ملف وانتهى، لنمر إلى الآتي. هاته هي توصيات الأساتذة و”أخلاقيات المهنة”. احتفظ حسن برقم هاتفي فقط لأني نسيت استعمال خاصية حجب الرقم، عند اتصالي به لتأكيد موعدي معه.
أن ترافق شخصا نحو قدره، يتطلب حيادا إيجابيا، أن توفر له كل الوسائل الممكنة ليقضي بقية حياته في كرامة… أن تخفف من سطوة الألم قدر الإمكان، بالاستماع، بلمسة، بكأس ماء، بتغيير وسادة، بحمام دافئ… أن لا تجادل يقينياته ومعتقداته وأفكاره حتى لو كانت خاطئة… أن يفهم أن الموت هو نهاية رحلة وليست خاتمة مأساوية… كان مطلوبا منا أن نبدي التعاطف، وليس الود.
لكنه مغربي! ومتغرب… ورافقته في رحلة الوداع الأخيرة، وتقاسمنا “الملح والطعام”. أليس إجحافا و”قلة الصواب” أن لا تقدم العزاء شخصيا… دع عنك “الأخلاقيات” والصرامة الإدارية، لن يقع شيء لك، ألم تودع والدك وأخاك والعشرات من الأحباب والأقرباء والمعارف؟ يأتي الصوت الداخلي ليقنعني بضرورة الذهاب لواجب العزاء…
“أغلقت” ملفه… لم أذهب لتعزية زوجته وأصدقائه، كما لم أُعَزِّ في وفاة سليم ولا جاك ولا ستيفان ولا جولييت ولا… رافقتهم في أيامهم الأخيرة، استمعت إليهم واعتنيت بهم، والبعض لم أكلمه نهائيا. عشت معهم علاقتهم بالموت وتشبثهم بالحياة الى آخر نفس… بعضهم كان مسار رحيله صعبا ومؤلما، والبعض رحل بعد أن هيأ كل تفاصيل المغادرة النهائية، وهناك من انطفأ بشكل بطيء، وهناك جولييت التي ظلت تنتظر الموت يوميا وترحب به لكنه عاندها، وفي رمشة عين، بل في ثانيتين، ونحن نضحك التفت لتناول كأس ماء… فرحلت، انطفأت بغتة.
اقرأ أيضا: اليوثانية أو “القتل الرحيم”: حين يصبح الطبيب أخطر رجل في الدولة 2/1
حسن.. أتذكره جيدا، كان فرحا لتسلمي ملفه. لقاؤنا الأول كان مرحا. تقول القاعدة: أنت مكلف بالمرافقة والتخفيف عن المريض ومساعدته ليشعر أن رحلته الأخيرة تمر بأخف الآلام وتحفظ كرامته… كان برنامجنا يمتد على أربع ساعات، هي بمثابة إخراجه من العزلة، وتخفيف الضغط على زوجته، لتقوم بالتسوق أو تغيير الأجواء.
صادفت فترة تسلمي لملفه مباريات كأس العالم، مما أتاح لنا فرصة للخروج من أجواء المرض وأسئلة المصير المحتوم. اتفقت معه على أن يشجع كل واحد منا فريقا معينا خلال كل مباراة، لخلق جو من المنافسة. فيما بعد، اقترحت عليه أن يستدعي أصدقاءه. كان المنزل أشبه بمقهى، وكان حسن سعيدا.
لكنها سعادة مؤقتة. كنت ألمحها في عينيه بين الفينة والأخرى. خاصة عندما يحين موعد الوداع. كان يترجاني أن ألا أغادر. لكني كنت عاجزا أن ألبي رغبته. لدي مواعيد أخرى، ولدي راحلون ومودعون لهذه الحياة ينتظرون حقهم في المؤانسة والخدمة.
أن يخبرك الطبيب أن أجلك أصبح وشيكا، وأن عليك انتظاره وعد الأيام والساعات والدقائق المتبقية، أمر رهيب جدا. في الأول يقع الرفض التام، ليعقبه الاكتئاب والحزن، ثم التسليم بالأمر، لتنتهي بالمساومة والمقايضة…
ترفض أن يقع لك ذلك، ولماذا أنت بالضبط دون الآخرين؟ كنت رياضيا وتراقب صحتك، ثم أنك رجل طيب ولست مجرما ولا سارقا، لماذا يترك المرض الخبيث آلاف الأشرار ليختارك أنت. تغير الطبيب وتحتمل وقوع خطأ في التشخيص. لكن الأمر حقيقي ولا مفر منه…
عادة ما نتذكر الموت عندما نقرأ، أو يصلنا، خبر وفاة صديق أو قريب، نتذكر أن هناك نهاية، أن رحلتنا في الحياة ستصل حتما إلى المحطة النهائية. يحضر الموت كشيء طارئ، يذكرنا بأن قطار الحياة سيتوقف لا محالة، ثم ننسى ونعود لمقاعدنا، وننشغل برحلتنا. لكن هناك فرقا كبيرا… حين يتم إخبارك بأن محطتك النهائية وشيكة
تسود الدنيا ويعم الحزن وتقضي لياليك بدون نوم… وتنهار جسديا ونفسيا. ثم تتعود ويصبح قدرك روتينا فتتعايش معه لتتقبله في الأخير، أو تقنع نفسك أنك تتقبل، وتقتنع أنه… لا هروب أمام “المكتوب”.
… وفي رحلتك هاته نحو أجلك تدخل، بعد ذلك، عالم المقايضة والمساومة. تواظب على الصلوات وتصبح من رواد دور العبادة وتكثر من الصدقات والتبرعات وأعمال الخير. تقايض الله أو الخالق أو الرب أو الصانع… بأنك تستحق المكافأة… تستحق الجنة… تعوض خسارتك ومغادرتك للحياة وتشتري نعيما وأرضا وجنة أخرى… لا تريد الخسارة وتقايض من أجل ذلك… كلنا لا نقبل الخسارة.
كان حسن يعيش فترة الانتقال من الرفض إلى تقبل الأمر الواقع. كنت أحسها في أسئلته وفي حديثه. أحيانا، بمجرد وصولي، كان يبادرني بالقول: لم أعد ضعيفا مثل ما قبل، وأصبحت قادرا على الوقوف بدون “مشايات”. كانت هذه الأسئلة أشبه بالفخاخ، لا أريد أن أشعره بأنه يتوهم أو أقطع عليه فرحته، أجيبه ناصحا ومراوغا: لا يجب أن تغامر بالمشي مطولا، لقد اتصلت بالاختصاصي في الترويض المكلف بك، وشدد جدا على استعمال المشايات، ثم أغير موضوع الحوار نحو ازدحام حركة السير وكيف وصلت متأخرا…
اقرأ أيضا: من نيويورك. هشام الرميلي يكتب: …إنهم يحتفون بالموت
أن ترافق شخصا نحو قدره، يتطلب حيادا إيجابيا، أن توفر له كل الوسائل الممكنة ليقضي بقية حياته في كرامة وتضمن له ظروف عيش لائقة كباقي الناس، وأن تخفف من سطوة الألم قدر الإمكان، بالاستماع، بلمسة، بكأس ماء، بتغيير وسادة، بحمام دافئ… أن لا تجادل يقينياته ومعتقداته وأفكاره حتى لو كانت خاطئة… أن يفهم أن له دورا ومكانة في المجتمع كمواطن، وأن الموت هو نهاية رحلة وليست خاتمة مأساوية… كان مطلوبا منا أن نبدي التعاطف، وليس الود.
مع حسن… كنت أقضي ساعات أحيانا وأنا أستمع لحكاياته، لمسار حياته. حكايات الجالسين بغرفة انتظار الموت، مختلفة. هي أشبه بوصايا، تختلط فيها العبر والدروس مع النصائح. والأهم في ذلك هو الصوت والإيقاع وقسمات الوجه. تخال نفسك أمام حكيم في خلوة جبلية، أو راهب أو فقيه يقدم عظة. لكن… تفهم في الأخير أنه يقدم نقدا ذاتيا مغلفا لمساره، يقدم مسارا متخيلا لما كانت ستكون عليه حياته لو انضبط لنمط غذاء صحي، لو انتبه مبكرا لمصدر آلامه، لو زار الطبيب مبكرا، لو كان ممارسا للرياضة، لو سافر كثيرا، لو تزوج مبكرا، لو ولو… لو لم يهاجر لكندا أصلا.
تنتهي الأربع ساعات وأغادر حسن بعناق حار، وعند مدخل المنزل أصادف ولديه الصغيرين عائدين من المدرسة. أتأملهما جيدا وأحبس دمعة في العين… في هذه اللحظة بالضبط ترى بأم عينيك فداحة الموت، وقد جربت ذلك من قبل.
كان يتصرف كأنه في فترة نقاهة، حتى مواعيده الطبية كان يذهب إليها ويعود على عجل… كان عالم المال والأعمال يشغله أكثر من الموت… حتى الآلام كان يتحملها، يخيل إليّ أنه كان يعتبرها صفقة خاسرة ستترك بعض المرارة، ثم ينساها ليستعد للصفقة القادمة…
سليم، التونسي الأصل، كان مختلفا في انتظار موته. كان قوي البنية ووسيما، لكنه كان هشا صحيا. تحسه غير عابئ بمصيره، يتأنق ويصر على إمتاع نفسه، مسرف في التدخين والأكل، لا يتحفظ في كيل الشتائم البذيئة. تخاله غير مكترث، يلعن مرضه يوميا، يتمنى لو أخذ سكينا واقتلعه.
حديثي مع سليم ينصب كليا على المال والأعمال، يتابع سوق الأسهم، العقار والحركة التجارية وآخر المشاريع المربحة بالحي. كنت أجاريه في حديثة مادام يجد متعة وراحة في ذلك… كان يتصرف كأنه في فترة نقاهة، حتى مواعيده الطبية كان يذهب إليها ويعود على عجل… كان عالم المال والأعمال يشغله أكثر من الموت… حتى الآلام كان يتحملها، يخيل إليّ أنه كان يعتبرها صفقة خاسرة ستترك بعض المرارة، ثم ينساها ليستعد للصفقة القادمة…
لم يكن يشتكي ولا كان يزعج الآخرين بالأنين أو الشكوى من آلام مرضه… لذلك رحل ليلا والجميع نيام، لم يصرخ ولا نادى زوجته… تأخر في الاستيقاظ، فذهبوا للاطمئنان عليه فوجدوه ميتا… كان دائما في حالة استعجال… فرحل بسرعة وفي مفكرته عشرات المشاريع والصفقات والأحلام… إلا مشروع الموت، لم نتحدث عنه مطلقا ولا لمست أنه كان يشغله… ربما هي طريقته في الوداع التي لم يخبر بها أحدا، مثل أي تاجر شاطر…
اقرأ أيضا: الموت الرحيم (Euthanasia): تخليص للمريض أم تحد للمشيئة الإلاهية؟ 2/2
عادة ما نتذكر الموت عندما نقرأ، أو يصلنا، خبر وفاة صديق أو قريب. نتذكر أن هناك نهاية، أن رحلتنا في الحياة ستصل حتما إلى المحطة النهائية. يحضر الموت كشيء طارئ، يذكرنا بأن قطار الحياة سيتوقف لا محالة، ثم ننسى ونعود لمقاعدنا، وننشغل برحلتنا. لكن هناك فرقا كبيرا… حين يتم إخبارك بأن محطتك النهائية وشيكة، هنا يتصدر الموت جدول أعمالك، يصبح فطورك وغذاءك وعشاءك وأحلامك. يجثم عليك ويشل تفكيرك، بل يصبح هو تفكيرك…
رأيت ذلك في أعين حسن وتيه جاك وارتباك ستيفان. كانت نظرات حسن هي الموت بعينيه، وكان تيهان جاك استسلاما وتسليما مبكرا، بل كنت أخاله ميتا. كان جاك لا يتكلم ولا يطلب شيئا ولا يرغب في أي شيء، كان سجينا داخل جسده وينتظر فقط “موتا رسميا”. أما ستيفان، فكان لا يمل من السؤال عن الموعد القادم مع الطبيب وجلسات العلاج الكيميائي، وفي نفس الوقت يطلب مني أن أقرأ له، باستمرار، مقاطع من الإنجيل. “أَنا القيامة والحياة. فمن آمن بي، ولو مات فسيحيا” (إنجيل يوحنا)، كان هذا المقطع يعجبه ويريحه، ويصر أن أتصل بمصلحة خدمات النقل العمومي لذوي الاحتياجات بموريال، لأذكرهم بموعد اصطحابه إلى الكنيسة يوم الأحد، رغم أني قد حجزت له مسبقا وأخبرته بساعة وصول الحافلة إلى المنزل.
تنتهي الأربع ساعات وأغادر حسن بعناق حار، وعند مدخل المنزل أصادف ولديه الصغيرين عائدين من المدرسة. أتأملهما جيدا وأحبس دمعة في العين… في هذه اللحظة بالضبط ترى بأم عينيك فداحة الموت، وقد جربت ذلك من قبل.
هناك من قاوم بشجاعة، وتشبث بمواصلة رحلة الحياة، وهناك من أرعبه الأمر. إلا پول، رتب كل شيء، أعد كل التفاصيل، وانخرط في الحياة. أصل صباحا، أجد آثار سهرة البارحة شاهدة على ليلة صاخبة وجميلة مع الأصدقاء. أسأله مازحا “ليلة أخرى ماجنة”، يجيبني وهو يشير إلى رفيقه وشريك حياته: “لا تسئ الظن، إنهم أصدقاؤه في العمل، حلوا ضيوفا عندنا”. ويبادر “تعال لنهيئ القهوة ونستكمل نقاش الأسبوع الماضي، لو أعطيتني هاتفك لاستكملناه، وانتقلنا لموضوع آخر”. أُذكره بلاءات قواعد المهنة: “لا لتبادل الهواتف الشخصية، لا صداقات، لا مواعيد خارج أوقات العمل”. يجيبني ضاحكا: “أعرف ذلك، فحتى في زمن الاتحاد السوفياتي لم تكن هذه البيروقراطية موجودة”.
كان پول مولعا بالتاريخ، وما أن أخبرته، في أول لقاء للتعارف، بأني درست التاريخ والجغرافيا في الكلية، حتى تحولت جلساتنا إلى نقاشات ممتعة حول الأديان والحضارات والأزمات الدولية. أحيانا يقترح عليّ كتاب معينا، أو مشاهدة شريط وثائقي، وأحيانا أخرى يكون الوضع الراهن عالميا، منطلقا لنقاشات متعددة، لا تتوقف إلا بعودة شريكه من “العطلة”… التي تمنحها له مرافقتي لپول طيلة أربع ساعات.
لم يتجاوز الخمسين سنة، زار كافة القارات، ولم يقعده عن ولعه باكتشاف مختلف الثقافات والعوالم إلا المرض الخبيث. ومع ذلك يقول إنه غير نادم على الرحيل مبكرا، عاش حياته بكثافة واستمتع بكل الفرص التي أتيحت له.
اقرأ لنفس الكاتب: أنا وأبي… و”إيڤا”
كان پول يهيئ رحيله، وفي نفس الوقت يهيئ نفسه للاستمتاع بما تبقى له. خطان متوازيان لا يرى فيهما أي تناقض: يتهيأ للموت وللحياة. ينظم مواعيده مع محاسبه لوضع آخر اللمسات على وصيته وأملاكه وتقاعده، ويستقبل بعد مغادرتي طبيبته ومستشارته النفسية… ويضع آخر اللمسات للرحلة السياحية خلال الصيف إلى شمال الكيبيك، واستقبال أصدقاء من غواتيمالا، سبق أن تعرف عليهم خلال إحدى زياراته لأميركا الشمالية… توفي يومين بعد عودته من الرحلة السياحية. شاهد لآخر مرة مياه وحيتان المحيط الأطلسي ورحل راضيا… أعتقد. لم أشاهد ارتباك المصير المحتوم في عينيه. لكن، كنت أراه في عيني شريكه…
شاهدت الموت في عدة عيون… رافقت عيون حسن وسليم وجولييت وجاك وستيڤان وپول و…ورغم “قواعد المهنة” التي تحاول أن تحمينا… لم أنسهم. أكتب عنهم، اليوم، لـ “أدفنهم”، لأعزيهم، لـ “أنساهم”… رحلتهم في هذه الحياة توقفت، هذا كل ما في الأمر… الموت ليس عقابا ولا قدرا مأساويا. لذلك “من يخف الموت، يخسر الحياة”…